صحيفة المثقف

الاختلاف في التذوق الفني بين الشعوب

khadom shamhodللفن مكانة عظيمة كأثمن درة في تاريخ الحضارة، وتذوقه يلزم الانسان السعادة والطيب والحب والتعايش مع الآخر. والتذوق عنصر فطري وثقافي وحضاري يتصف به الانسان في مسيرة حياته وهو زينة وجمال واناقة ربانية . ولولاه لحدث ظلام وانعدام للقيم الجمالية وغياب للمعاير الفنية والادبية. وكذلك الحركة الاقتصادية التي تنتعش تحت ظله. والمثل يقول (لو تساوت الاذواق لبارت السلع).

ومن التجارب عظة:

من القصص الجميلة التي حدثت لي في اسبانيا قصتان كان لهما دورا جوهريا في تغير رؤيتي حول العمل الفني ، حيث نرى فيهما مدى الاختلاف الظاهر بين الافراد والشعوب في تذوق الاعمال الفنية والحكم عليها. القصة الاولى حدثت عام 2017 عندما اشتركت في معرض جماعي في مدينة خيرونا احد المدن الشمالية الاسبانية فطلبت مني لجنة المعرض بعض رسوم الكاريكاتير فقالوا اختار ما يعجبك منها، فقلت لهم : لا، من الافضل انتم من يختار. فاختاروا مجموعة منها وعرضت ؟؟ في هذا الاعمال التي اختاروها وجدت ذوقا يختلف تماما عن الذوق الشرقي سواء كان في الرسم او الفكرة. وشكل هذا الحدث لي بعد ذلك خطا بيانيا للتعامل مع اماكن العرض وطبيعة اذواق الناس .. الرسوم المختارة كانت تتصف بالهدوء والبساطة والطاقة الجمالية والمتعة الروحية ونكته تشرق فيها الابتسامة.. اما الرسوم التي تتصف بالافكار النضالية او المقاومة والعنف فقد ابعدت عن العرض. هذا الاختلاف في التذوق بالطبع يخضع الى الظروف التي تحيط بكل فرد وشعب وامه وتقاليدها وثقافاتها وتاريخها ومواقعها الجغرافية وطقسها من برودة او حرارة..... القصة الثانية: عندما حطيت في اسبانيا عام 1977 عملت معرضا فنيا في احد صالات العرض في مدريد وكانت الاعمال تحمل هم العراق ومعاناته من نظام خرب البلاد وقتل العباد.. افتتح المعرض وبدا الزوار يفدون اليه ولكن بقلة قليلة جدا. وفي احد المشاهد رأيت امرأة تدخل وتستعرض اللوحات بسرعة ثم تخرج ؟؟ هرعت ورائها واستوقفتها وقلت لها: يبدو ان المعرض لا يروق لك ولم يعجبك ابدا ؟؟ فقالت: نعم لا يعجبني لانه حزين كله حزين ؟؟ شكرتها ورجعت الى معرضي وانا افكر بكلماتها وموقفها الصريح والغير مجامل فاحسست فعلا بالحزن والمرارة ، واخذت اراجع اعمالي وافكاري ؟؟ ومنذ ذلك الحين غيرت دفة السفينة وبدأت اتأقلم مع الذوق الاسباني والاتجاهات الفنية الحديثة فيها واخذت ادرس اعمال تابيس وميرو وخوسيه غريرو وغيرهم من رموز الحداثة في اسبانيا. كما اخذت اتعامل مع كالريات ذات ذوق فني حديث وخاصة التجريد. وقد نصحني احدهم بانه يشتري كل الاعمال الخالية من الموضوع.

في عام 1929 اصدر احد النقاد الفرنسيين وهو لويس هوتكير كتابه ـ ملاحظات حول الفن المعاصرـ حيث بين ذلك الصراع الشديد بين الفنانين الكلاسيكيين وبين الفنانين الذين يبغون التحرر من الاوضاع الفنية السائدة فيما قبل الحرب العالمية الاولى. وكان الجمهور يتذوق الفن القديم ويتهكم على تلك الصور الحديثة والتي يصفها بالقبح. وكان اصحاب التكعيبية يميلون الى الاختفاء في ذلك الوقت، ويذكر بان بيكاسو اخفى لوحته ـ غانيات آفنيون ـ سبعة سنوات حيث لاقى رفضا وتهكما من اصحابه في بداية رسمها . ولكن بعد تلك الفتره الطويلة من الاختفاء اخرجها فلاقى ترحيبا عجيبا من نفس اصحابه الذين رفضوها في اول الامر . وهذا يشير الى تغير الاذواق وازدياد واتساع الثقافة والفهم الجديد نحو الفن الحديث. واصبح تذوق الخطوط والمساحات والتبسيط في الاداء وخروج الفنان عن الاوضاع الطبيعية امرا مألوفا..

الاخلاف في التذوق:

من المعروف ان هناك نوعين من التذوق الاول فطري والثاني ثقافي، ويعتبر الاول قاسم مشترك بين الشعوب يتمتع به كل انسان اينما كان ووجد في هذه الارض وسواء كان مثقفا او اميا، كبيرا او صغيرا، لان النفس الانسانية بطبيعتها تميل الى كل ماهو جميل. اما النوع الثاني من التذوق فهو يخضع للموروث الثقافي والتقاليد والبيئة والثقافة. هذا من جانب، ومن الجانب الآخر يعتبر التذوق نوع من النقد او الحكم او الانطباع الشخصي لابداء الرأي في العمل الفني او الادبي او غيره. ولما كان الموروث الثقافي والتقاليد والبيئة لها دورا كبيرا في نوع التقييم والحكم، اذن التذوق الثاني هو شئ نسبي.. اي ان الناقد الذي ولد ونشأ في العالم العربي يختلف في حكمه وتذوقه عن الغربي او الافريقي او الصيني او امريكا الجنوبية.. ولو ان اليوم الفنون والثقافات تقاربت واختلطت ولكن عنصر الوراثة حسب علماء الاجتماع يبقى عرقا دساسا و كذلك الميول في الحكم والتقييم.. ولو رجعنا قليلا الى التاريخ لوجدنا ان امزجة وتذوق فناني عصر النهضة يختلف تماما عن فناني القرن العشرين سواء كان في الاسلوب او الالوان او غيره. مثلا ان فنان ذلك الوقت يستغرق في رسم اللوحة الواحدة مدة سنة او اكثر وان الفنان المسلم يبقى في رسم المنمنمة الواحدة احيانا شهرا كاملا رغم حجمها الصغير.. اما اليوم فقد اختلف الوضع المزاجي، فقد تجد بعض الفنانين لا يستغرق في عمله سوى يوما واحدا.

و النقطة المهمة ايضا في مسألة التذوق انه يتبع الوضع النفسي للانسان، فحينما يكون الانسان في مزاج نفسي غير طبيعي فان الامور يراها متشائمة. مثلا لو ان احدا خرج من بيته اوعمله بعد حدوث مشكلة بينه وبين غيره ثم دخل معرضا فنيا لرواد الفن الحديث او الانطباعية، فسوف يرى ذلك المعرض مظلما وغير جميلا والسبب هو ان مزاجه غير طبيعي ونفسيته تعبانه..و لهذا فان المفكر الصوفي العربي ابن حيان التوحيدي يقول ان هناك شروطا للتذوق منها: اولا ان يكون المتلقي او المشاهد هادئ المزاج ومنفتح الاسارير ومرتاحا . ثانيا ان تكون عناصر العمل الفني متناغمة ومنسجمة فيما بينها. حين اذن يحدث التذوق...

كان النقد سيف مسلط على الرقاب:

كان مفهوم النقد في الماضي كمفهوم الحكومات المحافظة والملكية السلطوية الغربية هو التحكم في مقدرات الفنانين واذواقهم ، و لم يستطع الفنان الخروج من تقاليد الماضي وتسلط صالونات العرض . وبالتالي كان النقد يخضع للامزجة والنوازع الشخصية والاهواء السياسية. نحن اليوم نعاني في عالمنا العربي من نوع آخر من التسلط على رقاب الفنانين والادباء وهو الانتماء الطائفي والمذهبي والقومي والفكري، فكل واحد يكتب ويطرئ لصاحبه ويخرج على الفضائيات يشيد او يسقط؟؟. وبالتالي خلى الحكم من الموضوعية وحرم وضاع الكثير من الفنانين الاخيار والمبدعين والذين من المفروض ان يكونوا رمزا حضاريا للثقافة والفن . كما ان هناك من المحللين من يعتقد بان التذوق مسألة تتعلق بنمو التمدن والتطور وارتفاع مستوى الوعي الثقافي العام والحس الجمالي وهو ايضا يخضع لظروف الامة والافراد فمرة يصعد ومرة يهبط . وقد كتبنا عن هذا الموضوع بشكل واسع في كتابنا الاخير (قراءة في تاريخ حركة النقد الفني ـ 2016...)

 

د. كاظم شمهود

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم