صحيفة المثقف

الشارع الباريسي كما رأيته مؤخرا

حميد طولستلا أدري كم مرّة زرت فيها باريس، المدينة التي أعشقها كثيرا بعد فاس، لكني متأكد أنني في كل مرة أزورها، اكتشف أشياء جديدة، وتتاح لي فرص الإطلاع على ما يطرأ على طبقاتها المجتمعية من تغيرات هامة في العديد من في المجالات، وقد وقفت خلال زيارتي هته على تغيرات وتبدلات مثيرة، طرأت على الصفات والسمات والعادات الاجتماعية الفرنسية عامة، وعلى التقاليد البورجوازية الباريسية بصفة عامة، تغيرات جلية تستطيع العين الفاحصة لعشاق "باريس" أن تلحظها بسهولة في البنية الطبقية للمجتمع الفرنسي، والتي تظهر أكثر وضوحا في النمط الحياتي الجديد الذي أصبحت تعيشه البرجوازي الباريسية والطبقة الاجتماعية الملازمة لها، والتي تزداد عمقا ووضوحاً في التغيير الذي لحق بطقوس لباس المرأة الباريسية وتحرّرها مما عرفت به من شكل جميل و طلة بهية وقوام حسن وملابس أنيقة كانت بها أيقونة الموضة ونموذجا يحتذى به في الرقي ومحط انبهار نظيراتها ومصدر حسدهن من حول العالم ، واكتفائها بالحدّ الأدنى والضروريّ من كل ذلك، بل لقد تحرّرت حتى من ذاك الحدّ الضروري، معوضة إياه بالألبسة العملية والمقاومة لتقلبات أجواء الشتاء الماطر و قساوة برده، حيث أصبح من العسير على السائح الذواق المولع بالبحث عن الباريسيات الحقيقيات النحيفات والأنيقات، أن يعثر لهنّ اليوم في الشارع الباريسي عن أثر يذكر بتلك الصورة المثالية التي يحتفظ لها بها ليس الرجل العربية وحده، بل كل رجال العالم، والتي كن فيها هادئات منطقيات لا يعانين من السمنة، يعتنين بأنفسهن ليظهرن بأجمل شكل وأبهى طلة ممكنة طوال الوقت، في البيت والشارع، قبل أن تحول العولمة ذلك الشارع، بعد اسقاطها الحدود والمسافات، إلى ظاهرة سياحة دولية، وجعلت منه شارعا يزعج الفرنسيات ويخيفهن ويجعلهن يتصرفن أحيانا خارج ما عرفن به من اللباقة الباريسية ويقمن بما تقوم به كل نساء العالم.

ورغم كل هذه التغيرات وغيرها كثير من التحولات والتبدلات التي عرفتها البنية الطبقية في خضم لجة الحياة الباريسية وتأثيرات المصاعب والشدائد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية فيها وعليها، فإنها تبقى مدينة لا تنسى، بل وتنسي زوارها الوطن والأهل كما قال الشاعر:

   "ولا عيب فيهم غير أنّ نزيلهم يعاب بنسيان الأحبّة والأهل"

نعم أيها القارئ الكريم، إن باريس من المدن التي تنسي عشاقها كل شيء بما تحويه من مآثرها تاريخية مذهلة، وتأسر زوارها بما تتميز به ساكنتها من أساسيات القيم النبيلة والخصال الحميدة، والمشاعر الإنسانية الراقية، التي يظن الذين لا يعرفونها ولم يعاشروا أهلها، أن التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، قد أتت عليها ومحتها من سلوكيات أجيالها الشابة، بينما الحقيقة أنها لازالت قائمة كلها فيهم وبقوة، وما تغير منها هو المظهر، و"المظاهر خداعة "، كما يقول الفرنسيون، أما القيم الأخلاقية فتتجدد كلما ازداد الإنسان ارتقاء وتطورا في العلم والمعرفة، كما هو حال الباريسيين، الذين أجزِم بأنّهم سيبقون كما عهدناهم، وبأنّ الزمانَ لن يغيرهم إلا إلى الأحسن، لأنّهم مختلفون عن عوالمنا، وربما عن جميع العالم.

 

حميد طولست

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم