صحيفة المثقف

وعي الذات في التفكير الفلسفي (1)

علي محمد اليوسفتمهيد: يعتبر وعي الذات مبحثا فلسفيا مجمعا على تناوله لدى العديد من الفلاسفة، لما له من ارتباط وثيق بالانسان كوجود عاقل مفكر ناطق، وارتباط وعي الذات ايضا في التخارج مع الموضوع جدليا، وعلاقتهما الاثنين (الوعي والموضوع) باللغة والعالم الخارجي.

ان وعي الذات (الخالص) الذي اشار له سارتر هو وعي (بذاته)، وفي التعبير الفلسفي يعني (نومين/ وجود في ذاته)، وفي هذا النوع من الوعي يلازمه استحالة انسانية، ان يكون الوجود الانساني افتراضا (وعيا بذاته) بمعنى الثابت الذي يحمل ماهيته وصفاته وظاهرياته، ولا يمكن التاثير فيه او تحريكه او التفاعل معه بوعي مشترك متبادل معه انسانيا، لذا فهو وعي بذاته مكتسب كل الاستقلالية عن الانسان والعالم الخارجي في عدم وعيه ولا ادراكه للطبيعة من حوله. والوعي في ذاته هو الموجود الافتراضي الذي لا يعقل غيره او لاحاجة له بذلك، ولا يمتلك قدرة تغيير الاشياء والموجودات من حوله او تبادل الادراك معها. وهذا النوع من الوعي الوجودي يمكننا اعتباره وجودا افتراضيا لا يلازم وعي الوجود الانساني (لذاته) الذي هو صفة انسانية طبيعية نوعية في وعي الوجود. الوعي الذاتي الخالص الذي لا يحتازه الانسان الطبيعي السوي، هو وجود لا يتعيّن ادراكه بوعي وجوده ولابوعي الآخرين لوجوده. وامثلته عديدة في ظواهر طبيعية او خارقة للطبيعة. فالله وجود (بذاته افتراضا) لا حاجة له في وعي الانسان او الطبيعة به، وكذلك الطبيعة في كل موجوداتها ومظاهرها واشيائها لا حاجة بها في ان تعي الوجود الانساني لها وتعجز هي عن ذلك في امكانيتها ادراك الوجود الانساني المستقل عنها، او ان يعي بعضهما البعض الاخر تخارجيا.لذا تبقى حاجة الانسان لوعي الطبيعة والاستفادة منها قائمة، في وقت الطبيعة لا تعي ذاتها ولا تعي غيرها من الموجودات والكائنات فيها او من حولها. ان وعي الذات الانسانية الطبيعية هو في ان يعقل الانسان وجوده وفي ان يعقل وجود الموجودات والاشياء في الطبيعة وفي العالم الخارجي من حوله. والانسان وعيه لذاته والاخرين من نوعه او من غير نوعه. وهو وجود انساني متغير لذاته كونه متعالقا وجودا متغايرا مفارقا وجوده الذاتي على الدوام متفاعلا مع الاشياء والطبيعة من حوله التي هي في حالة حركة دائبة مستمرة، توجب الانسان ان يكون جزءا منها، مفارقا متخارجا معها من دون وعي الطبيعة لهذه العلاقة مع الانسان.

كيف يعي الانسان نوعه والطبيعة؟

ان الانسان ذات وموضوع في وقت واحد، فكر وتعبير، يتبادلان الادراك التناوبي التخارجي، فالانسان يدرك الموضوع ويعيه حسّيا وعقليا، ويتناوله تفكيرا ماديا او خياليا، ويعبر عن هذه العلاقة لغويا. والانسان يعي ذاته الفردية عقليا ايضا، بخلاف مع الموضوع غير (الانسان) الذي لا يشترط به ادراك ذاته ولا الطبيعة لا داخليا عقليا ولا خارجيا في علاقة تناوبية متخارجة مع الموجودات والاشياء كما يفعل الانسان. فالموضوع يكون مادة يدركها الانسان بمقدار اهميتها وحاجتها له، وهي اي المواضيع لا تدرك ولا تعي الانسان في وعيه لها، وهذه العلاقة الوعوية الادراكية بين الانسان والموضوع المادي تختلف عن علاقة ادراك الانسان للانسان من نوعه. فالطبيعة موضوع لا يبادل الانسان في الادراك، وكل شيء في الطبيعة يكون موضوعا مدركا ثنائيا بشرط ارتباطه التعالقي المتخارج بمن يدركه وهو الانسان.بمعنى ان الانسان يدرك ذاته ويدرك غيره من نوعه انسانا آخر كما يدرك الطبيعة موضوعات مستقلة عنه لا تدركه ولا تعي ادراك الانسان لها.

باختلاف جوهري هو قدرة الانسان العقلية والمحسوسة في ادراك الانسان الموضوعات والاشياء من غير نوعه في الطبيعة بكيفية مختلفة عن ادراك الانسان لانسان من نوعه في كيفية مغايرة وتخارج. ولا يدرك الانسان غيره من نوعه بنفس (الكيفية) التي يدرك بها الاشياء في الطبيعة. فادراك الانسان لنوعه اي الانسان الآخر، يكون ضمن علاقة جدلية وتخارجية نوعية، لا يمارسها الانسان في ادراكه الموضوعات في الطبيعة، فالطبيعة لا تبادل الانسان وعيها به، فادراك الانسان للانسان من نوعه هو تبادل وعي عقلي ادراكي بوعي ادراكي يماثله او يتقاطع معه في جوانب خلافية او غير خلافية، اما وعي الانسان للطبيعة يختلف حين يكون الادراك الانساني لها احاديا من جانب واحد فقط، والطبيعة لا تدرك نفسها ولا اهمية تعالقها بوعي الانسان لها. ان الانسان في هذه الحالة يدرك ذاته وموضوعه معا، في وقت لا يدرك ويعي الموضوع ذاته – باستثناء الانسان حين يكون موضوعا لغيره من نوعه كأنسان – ولا يعي الموضوع غير الانسان بوعيه به. ربما تتمتع الطبيعة بنوع من الروحانية وانواع من التمظهرات المادية والجوهرية ايضا التي يدركها الانسان ويتعامل معها، لكن كلتا الحالتين لا تمتلكان عقلا منظّما يديرهما في وعي الذات لنفسها اوفي وعيها الاخروالموضوعات، وهنا تعتبر الطبيعة في تجليّاتها المادية وغير المادية الروحانية الساحرة وجود اصم ابكم لانها غير عقلانية حتى في قوانينها التي تحكمها وتحكم الانسان معها بها في استقلالية عن الانسان.

علاقة وعي الذات الانسانية القصدية والديناميكية

اخذ الفلاسفة الماديون الماركسيون ومعهم فلاسفة الوجودية سارتر وهيدجر، ان الوجود سابق على الوعي به، بخلاف الفلاسفة المثاليين الذين يرون العكس من ذلك ان وجود الاشياء في الطبيعة هو الذي يحدد نوع الادراك والوعي بها.

الشيء الاكثر اهمية ان بعض الفلاسفة غير الماركسيين لم يكتفوا بذلك بل ذهبوا بأن وعي الوجود الذاتي يقترن ب (قصدية) كما في تعبير هوسرل، واضاف هيدجر ان وعي الذات مرتبط ارتباطا وثيقا ب(هدف) يسعى تحقيقه اطلق عليه(ديناميكية) وعي الذات، معتبرا ان ديناميكية وعي الذات هو الوعي الحقيقي الفاعل في وجود الانسان في تعالقه المتعايش مع جميع ظواهر الطبيعة من حوله وفي كونه جزءا لايتجزأ من الكلية المجتمعية التي تحتويه. وهذه الديناميكية الهيدجرية مستمدة من هوسرل استاذه في الدعوة ان وعي الذات لا يكتمل الا بارتباطه بنوع من القصدية الهادفة التي اشرنا لها يحققها له اندماجه بالكلية المجتمعية سلبا او ايجابا. واراد سارتر اقتفاء اثر هوسرل وهيدجر في ان وعي الذات لا يكتفي من اجل اثبات وجوديته الفردية السلبية كما هي في كوجيتو ديكارت في ارتباطها بالتفكير المجرد، ودعا سارتر الى ان وعي الذات الاصيل هو الالتزام بالحرية المسؤولة التي ينوء بحملها الانسان الفرد كونه كينونة اجتماعية يحمل همومها وتبعاتها بمسؤولية عن ذاته ومسؤولية عن نوعه الانساني في مجتمعه والعالم، رغم ان انسان سارتر يعيش عدمية وجوده الملازمة له الذي تقعده عن ممارسة اي نوع من الالتزام.

وعي الذات فينومينولوجيا (ظاهراتيا)

بضوء التمهيد السابق نناقش رأي ميرلو بونتي المحسوب على اقطاب البنيوية في اللغة وحفريات علوم المعرفة، في تعالق وعي الذات بالظاهراتية (الفينومينولوجيا) التي جاء بها هوسرل في الفلسفة الحديثة، التي ترجع ارهاصاتها الاولية الى فلسفة افلاطون (بالمثل) وفلاسفة آخرين قبل وبعد افلاطون، الى ان وضع ارسطو حدا لها بعد ان دامت شغّالة فاعلة ما يقارب قرون طويلة، اعلى فيها ارسطو شأن العقل في تأكيده على الانسان في وجوده الارضي وليس في عالم المثل الافلاطونية. وظلت اراء ارسطو فاعلة ومؤثرة بفكرالقرون الوسطى الاوربية، الى ان انتهى مآلها في النهضة الاوربية في القرن الثامن عشر وما بعدها وتم تجاوزها في تبني اولوية الانسان والعلم ومنجزاته بما اطلق عليه عصر الحداثة.

يقول ميرلوبونتي: (نظرية الظواهر ترتبط ارتباطا مباشرا بوعي الذات، فهو ليس حقيقة خارجية خالصة، ولا عملا عقليا صرفا).(1) عبارة دقيقة وصحيحة وهي امتداد لمقولات هوسرل وهيدجر وسارتر ليس من حيث الصياغة الفلسفية لغويا، بل من حيث المعنى الذي تستبطنه اللغة التعبيرية في احشائها كمحمول دلالي تأويلي متعدد.ان الذات تعي ذاتها ليس بتجريد عقلي خارج موضوعات العالم الخارجي، وفي تعبيره ان الوعي ليس عملا عقليا صرفا هي ادانة لكوجيتو ديكارت فقط، ولا يمكن الاخذ بالكوجيتو من حيث الدلالة الوظيفية للعقل والادراك والشيء المدرك والمعبر عنه لغويا او بغير اللغة، ويأتي التوضيح لا حقا.

ان ظواهر الاشياء التي يدركها العقل حسيّا – داخليا تتم في عملية (تخارج) متبادل جدلي بين الوعي ووجود الاشياء الخارجية، وهذه العملية التخارجية الجدلية لا تجعل من الوعي وجودا خارجيا مستقلا، كمثل وجود الموضوع غير الانسان المدرك عقليا ذاتيا في وجوده الخارجي المستقل في الطبيعة، وان التخارج المتبادل بين الذات والموضوع وتعالقهما لا يلغي استقلالية وجودهما المفارق كلا عن الاخر، لكنهما في هذا التخارج التعالقي بينهما يتحدد وعي الوجود من جهة ويتعين وجود الاشياء المدركة والموضوعات من جهة اخرى.والقول بان وعي الذات ليس عملا عقليا صرفا ادانة صائبة بحق مقولة ديكارت المثالية السلبية في الكوجيتو (انا افكر اذن انا موجود) على ما تحمله من تأويل فلسفي متعدد متضاد في تعبيرها ومعناها انه وعي مثالي سلبي لا مادي رغم الاجماع الفلسفي على ان ديكارت هو ابو الفلسفة الحديثة في تركيزه اعتماد التفكير الفلسفي العقلي الذي يسهل مهمة العلم، لكن في الكوجيتو الديكارتي حصر ديكارت اثبات الوجود في/ عن ناتج التفكير الذاتي المجرد المكتفي بذاته في اثبات وجوده، ويعتبر ديكارت امكانية وعي الذات في التفكير العقلي المحض الذي يحدد الوجود المادي المفكّر به، وبذلك يمكننا ادراك الذات تفكيرا عقليا مثاليا خياليا. كما يصبح وعي الذات تفكيرا خارج ادراك وجود العالم الخارجي المستقل بالتعبير عن ذاتيته الوجودية باللغة او غيرها من وسائل اثبات الوجود. وان وعي الذات (الديناميكي) كما عند هيدجر، والوعي (القصدي) الهادف كما عند هوسرل لا يتحقق الا في تخارج الوعي التناوبي مع موضوعه في جدلية ديالكتيكية. تعطي الذات فاعليتها الوجودية، وتمنح الموضوعات وجودها المتعالق بالوعي والادراك الحسي والعقلي لها، كما تعطي كلا من الذات والموضوع تمايزهما النوعي باستثناء وعي الانسان بمثيله النوعي الذي هو الانسان في تبادلهما الادراك بكيفية مغايرة عن علاقة وعي الانسان بالموضوعات والاشياء.

الاشياء ومواضيع العالم الخارجي ومظاهره التي لا تحصى كثرتها هي وجود مستقل سواء جرى ادراكها او بعضها ام لا، ووعي الذات كما ذكرنا لا قيمة حقيقية وجودية له في حال احتفاظه بوجوده المستقل بذاته عن ادراك الاشياء (نومين)، لذا يستلزم وجودهما (الذات والموضوع) في تخارج جدلي متبادل بينهما كي يأخذ كل منهما معناه ووجوده وماهيته. وبذا يمكننا اعتبار وعي الذات الديناميكي الهادف، انما يكون وجودا انسانيا لذاته، كنتيجة لعملية التخارج المتبادل مع الموضوع، الكفيل به وعنه وبواسطته يكون اثبات وجودهما الانطولوجي لكليهما معا الذات وموضوعه المدرك.

وفي عودتنا الى ميرلوبونتي قوله (يكون الموضوع حقيقة مباشرة تفرض نفسها امام الوعي، والموضوع يتوقف على الوعي به من حيث هو جوهرفي وجوده)(2) .

هنا كي نعتبر هذا التعبير صحيحا فلسفيا منطقيا،علينا تحديد نوع وماهية الموضوع كي يكون الوعي ملزما في تقبّله وفرض ادراكه على الوعي الانساني به، واذا كان الموضوع يمتلك جوهرا اوماهوية لها اهميتها في الزام ادراكه باعتباره جوهرا على حد تعبير ميرلوبونتي، فليس كل موضوع يحمل جوهرا يلزم الذات الانسانية ادراكه في عملية تخارجية معه، لا بد لنا من معرفة طبيعة ونوع واهمية وخصائص الموضوع الذي يطرح نفسه امام الوعي به كألزام وجودي لادراكه. ولا يكفي ان يكون للموضوع جوهرا، كي يلزم الوعي الذاتي ادراكه ودراسته، كما ان جوهر الموضوع لا يسبق ادراك(الموضوع) ذاته كوجود وكينونة مستقلة واحدة، ربما تحمل حمولات ماهوية تلزم الذات وعيها بها او احتمال كبير ان لا تمتلك كل الموضوعات مثل هذه الخاصية المسماة جوهرا تكون ملزمة للادراك، فليس كل الاشياء مهمة وصالحة وضرورية ان تكون مواضيع ادراك ذاتي وعقلي محايث يعنى بها الانسان في وعيه لها واهتمامه بها.

ويعتبر ميرلوبونتي (انه لا فكر خارج العالم او خارج الكلمات) (3). وهي عبارة صحيحة من حيث ان الفكر الذي يتأمله العقل مادة للتفكير في قطيعة وصمت تعبيري عن العالم الخارجي يكون معطّلا وجوده خارج العقل، وكذلك كي يكون الفكر متعيّنا وجودا خارج ذاتيته يتوجب عليه ان يتوّسل الكلمات الشفاهية الكلام او اللغة المنطوقة او المكتوبة او اية وسيلة تحقق تواصلها في التعبير عن وجود الفكر الكيفي خارجيا.

ان الفكر والكلمات (اللغة) في الصمت الذاتي هي حوار وتفكير جوّاني يحتويه حيّز العقل وظائفيا، ويكون الفكر بهذا هو موضوع التفكير في استثارته العقلية ايضا غير مفصح عن تحققه الوجودي خارج ملكة اللغة في التعريف به وفي التعبير عنه. والافصاح اللغوي عن الموجودات والاشياء لا يتم فقط بلغة التواصل والتداول العادية (الكلام اوالكتابة او الصورية او حتى في الاشارية والرمزية)، فهناك مثلا تعبيرات لغوية لا تحتاج ان تكون اللغة فيها منطوقة او مكتوبة او صورية او حتى اشارية وتبقى تداوليتها واستقبالها صمتا يديره العقل بافصاحات حركية يقوم بها (الجسد) نيابة عن اللغة تواصليا، كما في التعبير اللغوي الكامن في الجماليات النحتية واللوحات والفنون التشكيلية برمتها.وكذلك في طقوس العديد جدا من العبادات الدينية التي تكون ايضا فيها اللغة في حالة كمون وجداني ايماني روحاني لا تحتاج اللغة المسموعة او المنطوقة فيها تعبيرا محتاجا لها.وكذلك في رقص الباليه في اعتماد حركات الجسد لغة ايحاء تواصلي صامت بمرافقة الموسيقا، ومثلها في المسرح الصامت الذي يتوّسل الجسد حركيا ايمائيا بعيدا عن اللغة في التداول المعهود تواصليا ايضا بمصاحبة الموسيقا التصويرية. كل هذه التجليات تكون اللغة اوالفكر في حالة كمون عقلي وليس كما يدعي ميرلو بونتي لا يوجد فكر خارج الكلمات. فجميعها تعبيرات لا تتوسل الكلمات في التواصل الخارجي، بل تتوسل لغة الايحاءات داخل التفكير العقلي الذي يفصح عن نفسه خارج اللغة المنطوقة او المكتوبة.

من جهة اخرى فان العقل يعقل نفسه والعالم الخارجي في كل شيء، ولا يعمل التفكير العقلي في فراغ او في عدم وجودي ولا في فراغ او عدم لغوي، فالتفكير العقلي هو (الفكرة ولغتها) في ادراك موضوعها. والعقل في الوقت الذي يعقل ذاته صمتا تخييليا فهو يعقل الاشياء المادية والمجردة منها ايضا على السواء، ولا يوجد منطقة (عدم) لا يكون تفكيرالعقل السليم فيها حاضرا في دور محوري يدخل من ضمن وظائف العقل تراتيبيا، الا في استثناء الحالات المرضية كالجنون والموت او غياب الوعي او الانفصام او الذهان المرضي وغيرها من الحالات المرضية التي يعتبر العقل فيها ميّتا سريريا لا يمتلك وعيا ولا تعبيرا.

فالعقل يدرك الموجودات عقليا ماديا، ويدرك ويفكر في الموجودات والاشياء التي ينعدم التفكير المادي بها وجوديا لكن العقل يفكر بها خياليا تجريديا ويعقلها في غير وجودها المادي مثل وعيه بالقيم الروحية والاخلاق والجمال وغيرها. وفي كلتا الحالتين فالعقل لايعمل في فراغ عدمي يمنعه من التفكير لا في ادراكه المواضيع المادية في العالم الخارجي، ولا في تفكيره الخيالي التجريدي الذي لا يعتبر فيه تفكير العقل لاغيا لمجرد عدم افصاحه عن الموضوع المفكر به عقليا لغويا او بالكلمات.فالفكر مادة في العقل قبل ان يكون مادة في الواقع، و يستطيع الفكر التعبير عن المادي والروحي والقيمي تجريديا منطقيا معجزا ولغويا دالا متقنا.

وعي الذات بين هوسرل و سارتر

الآن ارى ان نعقد مقارنة بين عبارة ميرلوبونتي التي ناقشناها من وجهة نظرنا (انه لا فكر خارج العالم او الكلمات) وعبارة سارتر ذات العلاقة (ان الوعي الخالص هو فينامينولوجيا جامعة تذهب الى ما يقصد اليه الوعي من اشياء).(4)

ميرلوبونتي لم يكن موفقا في اشتراطه الجمع بين الفكر في العالم الخارجي ومثله في الكلمات كتعبير صامت في الذهن او معبّرا عنه. يكون فيه تداخل الفكر بالعالم الخارجي هو افصاح تعبيري لغوي او غير لغوي في اثبات وجود الاشياء، اما ان الفكر لا يكون خارج الكلمات حسب تعبير ميرلوبونتي، فهو خطأ اثبتنا عدم صحته في سطور سابقة، اذ يمكن ان يكون الفكر خارج الكلمات، في فعالية العقل التفكير بالاشياء تجريديا خياليا.مثل الفكرة الصامتة في الذهن، او التفكير الصامت المعبر عنه في ايحاءات وايمائيات وحركات الجسد الذي لا تلازمه اللغة او الكلمات ولا يحتاج ملازمة اللغة التعبيرية عنه. فقط استحالة انعدام الكلمات يكون عندما يراد التعبير عن الاشياء والموجودات وفي التواصل الاجتماعي في تبادل الافكار في الواقع الذي هو العالم الخارجي فالعقل يفكر حتى اثناء النوم في تداعيات اللاشعورالحلمي، ويفكر في ايضا في حالة اللاشعور الالهامي في حلم اليقظة.

اما عبارة سارتر ان الوعي الخالص هو ما يقصده الوعي من اشياء، فهو اراد بها اخراج الانسان من عدمية الوجود الى نوع من الوعي المطلوب وجوديا هو الوعي (لذاته) والوعي في الكلية المجتمعية، كي لا يخرج سارتر عن فهم هوسرل للذات ان يكون لها قصدية، وفهم هيدجر ان وعي الذات يمتلك ديناميكية شغالة تربطها بالاشياء والعالم الخارجي في تخارج جدلي مفروض على الوعي الذاتي الوجودي.

ان الوعي (الخالص) الذي اراده سارتر هو في تناقض مع مفهوم ميرلوبونتي ان الوعي لا يوجد خارج الكلمات، بل وجوده مفروض عليه ان يكون جزءا من العالم الخارجي وفي الطبيعة وفي المجتمعية الانسانية امرمحال الغنى عنه. الوعي الخالص الذي قصده سارتر لا يتحدد وجوده في صمت اللغة وفي ادراكها عقليا للاشياء والموضوعات تأمليا تجريديا خياليا. الوعي الخالص ان لا يكون الانسان نومينيا، اي ان يكون وجودا (في ذاته) فقط مثل وجود صخرة او شجرة او نهر الخ.

سارتر في فلسفته العدمية السوداوية اراد انقاذ الوجودية ان تميت الانسان الف مرة وتقعده عن ديناميكية الحياة، وهو منعزل عن الاخرين الذين هم الجحيم، لذا عمد الى مهادنة الماركسية والفلسفات المثالية في البنيوية في اقراره الصاغر بان الوعي الخالص لا ينطبق على وجود انساني الا بانتسابه لمنظومة اجتماعية تحتويه شاء ام ابى ذلك.

يدرك سارتر جيدا ان الوعي الخالص في وعي الانسان ذاته خيالا عقليا مجردا عن اي انتماء او موضوع يتخارج معه هو محال فقال عبارته الشهيرة (يتوجب علينا مغادرة انا افكر اذن انا موجود)، وادرك هوسرل قبله هذه الحقيقة قائلا وعي الذات يقترن ب(قصدية) كما ادركها بعده هيدجرقائلا وعي الذات الحقيقي يقترن ب(الديناميكية).

تتمة الموضوع في ج2

 

الباحث الفلسفي علي محمد اليوسف/الموصل

.......................................

الهوامش

1- ميرلوبونتي، نقلا عن عبد الوهاب جعفر، الفلسفة واللغة، ص 105

2- نفس المصدر السابق ص 106

3- نفس المصدر السابق ص 107

4- نفس المصدر السابق ص 58

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم