صحيفة المثقف

النهر يلقي إليك بحجر.. كلمة لابدّ منها

قصي الشيخ عسكرحديثي عن هذه الرواية التي سأنشرها حلقاتٍ في المثقف يستدعي منّي أن أشير إلى مجمل أمور وقضايا أهمها:

أولا حين افتتحت المثقف باب التعليقات قرأت أول تعليق للشاعر حيى السماوي قال فيه هذا الباب الذي نبدؤه يمكن أن يكون موضوعا عنوانه" أدب المساجلات" بغض النظر عمّن يتعمدون الإساءة وهم قلة والحمد لله، فالمهم أن نكتشف مطارحات الأدباء ونعرف أدباء جدد.

ثانيا: أنا شخصيا ذاكرتي لا تنشط إلا بالتحريض، على سبيل نشرت في المثقف قصيدة قبل أكثر من سبع سنوات عنوانها نهر" شط العرب" وفي باب التعليقات أو المساجلات كتب الشاعر جمال مصطفبى أدعو أدباء البصرة إلى الكتابة عن نهر "شط العرب"، وقد حرضت ذاكرتي هذه المقولة بعد القصيدة فكرت أن أكتب رواية يصبح النهر نفسه بطلها مع كوني لم أغفل عن النهر في بعض رواياتي السابقة.

ثالثا: مثلما حث أو حرّض ذاكرتي الشاعر جمال مصطفى في المساجلات حرض ذاكرتي الأديب صالح الرزوق حين قال لماذا لا تكتب رواية عن نوتنغهام فكتبت رواية أيضا.

رابعا: حين أتممت رواية "النهر يلقي إليك بحجر"أرسلتها إلى شيخ النقاد في مصر الدكتور يوسف نوفل ولكونه كتب مقدمة لروايتي "رسالة" فقد اقترحت عليه أن يجد سيدة لتكتب عنها من باب اعتزازي واحترامي بالمرأة ودورها لا سيما أن سيدتين ثلاث سيدات كتبتا عن شعري ورواياتي هن: د هدى صحناوي، غادة السمان، ولميعة عباس عمارة، فأجابني الدكتور نوفل سأحاول بشرط أن تكون ناقدة قديرة.بقيت الرواية مع أستاذنا نوفل سنة تقريبا وقبل بدء العاام الحالي وصلت منه ملاحظ موجزة "تحياتي لرائعتكم النهر وسأنتهي من الكتابة عنها قريبا" ويبدو أنني كنت أحلم فقد انتهى عصر سهير القلماوي ونازك الملائكة وعاتكة الخزرجي وغيرهن. المهم أني ربحت مقالة الدكتور نوفل فجعلتها مقدمة لروايتي هذه.  

***

قصي عسكر وزمكانيّة السّرد في الآلام والأحلام

د.يوسف نوفل

 يكتمل البناء السرديّ باكتمال عنصرين ممتزجين غير منفصلين، هما الزمان والمكان، وفي العمل الفنّيّ الذي بين أيدينا نلتقي بالزمان والمكان ممتزجين، بطلا، ليتمثلا أمامنا في موقع البطولة، ثمّ نلتقي بهما ملتحمين مع السارد الراوي العليم سباحةً في فضاءات الآلام والأحلام.الواقع.أو ما فوق الواقع.إذ من البدهي أنه لا يوجد زمان دون مكان، وبالمثل لا يوجد المكان بمعزل عن الزمان، بذلك يشهد الواقع الحياتي المعيشي، وعلى ذلك استقرّ" علم الفيزياء"ونطقت نظريّة "النسبيّة"في أولى سطورها، وتشكَّلتْ، من ثمَ، الأعمال الفنيّة على عمودي الزمان والمكان بأنواعها المتعددة، ومنها فن السرد، ومنه ما بين أيدينا: ( النهر يُلْقي إليك بحجر ).

"لا حفريات ولاتاريخ كأنْ لم أعلق القديم ولا شغفْت به"

 هكذا انداحت شخصيّة السارد في المكان والزمان، والتحما بهما، ذلك المكان بعبقريته، وتراتيّته، وحضارته العتيقة، حيث العصر الذهبيّ العربي والإسلامي، فيما مضى من الزمان، في مقابل الحاضر الحزين المهزوم، أيْ الواقع الأليم لتتصارع الآمال والأحلام بين ماضٍ وحاضر، بل توقع حزين لآتٍ قاتم في مسنقبل مظلم.وهذا الزمان بمأساويته المعاصرة الحاضرة في مقابل أمجاده العتيقة الغابرة، المتغير ما بين لحظة وأخرى : "كان هناك معنى أوسع من الزمن وفوق كل التوقعات ..أسبوع واحد حال بيني وبين الحرب"

المكان:

"الأرض تستعيد عافيتها منذ العهد العثماني، والولاة على البصرة غرباء منذ الحرب الأولى"تتجلى عبقرية المكان إزاء بطل شغف بالآثار ودراسة التاريخ، فيراقب الماضي والحاضر، يحاول أن يتمسك بالحاضر، ويتشبث بالماضي، دون جدوى، أمام سيل المفاجئات، والمكان هنا هبة من دجلة والفرات بمفرداته:

الحجر: عندما يعبِّر الجزء عن الكلّ يكون الحجر رمزا، ومعه مفردات المكان، من النهر: ذلك الطفل المدلل ولدته أمه"الفرات"من أبيه" دجلة"، ههذا النهر الذي تغيّر فيه كلّ شئ، فالماء الفرات صار ملحا أجاجا!!...تغيّر النهر، كما تغيّر كلّ شئ، كل شئ تغيّر بالحصار والحرب لا الشطّ، وللأنهار مكانتهاالنفسيّة والاجتماعيّة والرّمزيّة.حوت كبير طارد سفينة محمّلة بالخراف، ثم جنح إلى الشطّ، وماهو إلا الرمز للاستعمار الجديد //اللاهث خلف الثروة في نهم.

 وهكذا تعددتْ مفردات المكان، وعلى رأسها المدينة:

 التي تغيّرت وتبدلت، غزاها الغرباء، حتى بدا أهلها كأنّهم غرباء عنها، حتى أصبحت المدينة أشبه بخيط مطاط، والشارع، هكذا كانت وجوه المكان: البصرة، وقريتي التنّومة، الدعيجي، البوارين، تمثال السيّاب، ليتحدث المكان بلغته الخاصة تحسرا على الماضي، وتألما من الحاضر، وحلما بالمستقبل الزمان الذي تغير وتبدل أيضا، كما حدث للمكان، هذا الزمان الغامض، الزمان الذي سعينا إليه ملهوفين...وأصبح أخرس، والذي تضخّم وصار مخيفا، كأنه قرون من الجحيم، ذلك أنه انصهر في أتون (الحرب)، الحرب التي لا تبقي ولا تذر، الحرب أفق الزمان والمكان وفضاؤهما، الحرب المستعرة عند البوابة الشرقيّة، والتي تعددت وتنوّعت بين: الحرب مع إيران، والحرب الأولى والثانية، حرب الكويت، والمندلعة بين عشية وضحاها في زمن بلغ ثماني سنوات، ولكل منها طعم ولون، حيث السقوط سقوط نهرجاسم، وسقوط كل شيء وحيث الخراب، الذي لا يأتي من الشمال، بلاؤنا يأتي من الجنوب، حيث الانفجارات الهائلة، والموت"أتخيّل الموت يحاصرني في كلّ مكان"."والحصار، والنهب، والموت، والاغتيالات"أتخيل الموت يتجول في كل مكان. 

 الفوضى العارمة والنهب والسلب، وفقد كلّ شيء تماما، والناس مشغولون "بتصريحات الصحّاف، ثمّ انقطع البثّ، وانتهت الحكاية، اكتشفت أن كلّ شئ كذب ومبالغة"وبدأ التحسّر على أيّام عبد الكريم قاسم، ومهابة الدولة والزّعماء.والهجرةوالشتات، والسقوط: سقوط المدن، وعلى رأسها بغداد، وهنا في السَّرد، البصرة، وسقوط نهرجاسم.

الحلم/ الغيبوبة

وفيما قابل ثنائيّة العمى والإبصار، البصر والبصيرة، عمىالعيون في مقابل عمى القلوب نلتقي بثنائيّة الواقع والمأمول، واختلاط الوهم بالحقيقة، الواقع بالخيال: "أشبه بهجمة همجية، نصفها حلم، ونصفها الآخر حال عيان"، أو الفرار من الواقع، والحلم بالتغيير، وهذا الحلم المرافق منذ الطفولة: "حلمنا في طفولتنا أنّ وحوشا غريبة الأشكال تخرج من ماء النهر تحت جنح الظلام فتقضم أرجلنا"لتتكرر صور الحلم أكثر من ستّ مرات، بين: "حلم غريب يرى البصرة العملاقة تسيل بمصابيحها على الماء إلى بستاننا في ضفة شط العرب"."وحلم على ععواء ذئب في حقول الألغام""وحلم بسماع صوت انفجار""لم أكن أحلم وإن عشت الحقيقة والحلم بوقت واحد" وأحلام الغيبوبة في فصلٍ عنوانه"غيبوبة".يعوي كالذئب.

أحلم أن السندباد هبط في رحبة فسيحة تعجّ بالألماس والأحجارالكريمة، وددت لو كان معي "شوال"..ولتصبح الخرافة واقعا، ولم يعد هناك شيء يفرِّق بين الصحو وأضغاث الأحلام.

بلاغة العنوان

 كان العنوان الأمّ (النهر يلقي إليك بحجر)

وتلته العناوين الفرعية للفصول: جار الله الأعمى، وانتظار، والحرب، والطيور، والقفص، والصداع، وعواء، (مرتين)وانفجار، والبرّ، وكلها بمثابة النصوص المصاحبة، والموزاية، والمفسرة لزمكانيّة السّرد في ثنائية التضاد بين الآلام والأحلام، وكلّ عنوان منها لها دلاته الرمزية والإيحائيّة.

السرد بين البداية والنهاية:

من ضمير المتكلِّم نحو الخارج إلى المنولوج الداخلي نحو الباطن:

كان القالب السّرديّ الملائم لذلك كلِّه هو السّرد الذاتيّ، فكأنَّ السّاردَ يحكي سيرة غيرية للمكان والزّمان، وفي الوقت نفسه، يحكي سيرة ذاتية باعتباره جزءاً من ذلك الزمان والمكان، من هنا ساد السّرد بضمير المتكلّم، بما في ذلك من تأكيد التحام الراوي العليم، أوالسّارد بزمكانيّة السّرد، وقد بدأ السّرد بالتحام المعنى المصرّح به مع المعنى المستنتج، بما تعنيه بلاغة اسم الإشارة للبعيد في أوّل جملة سردية:

"ذلك ماحدث بعد سنين من جموح حوت كبير"

وانتهى السرد بالمونولوج الداخلي في آخر جملة سردية:

"أما زلت بعد كلّ ماجرى من تعبٍ بسبب الحجارة تبحث عن حجر؟.

لم أجب.قلت في نفسي إنّه حجر الماء الذي كان علامة على سلامتي، ثمّ خطوت باحثا عن ذلك الأخضر المزرق.رحت أبحث وأبحث في كلّ مكان..على يقينٍ أنّي سأجده ذات يوم"

"مسمار غليظ تدقه مطرقة إلى هامتي"

ليس هذا هو المونولوج الواحد، فقد تكرر المونولوج، أداة الاستبطان، عالم الراوي العليم بأسرار السّرد ومراميه، وتعدد المونولوج يساعد في تفسير الرّموز.

والرمز واضح يتمثّل في البحث عن الأرض المفقودة، والضّاّلة المنشودة، والحبيبة الغائبة، العراق، فإذا كان دالّ"الحجر"قد أكّد عراقة تراثيّة حضاريّة تاريخية ماثلة في آثار الفراعنة، واليونان، والرومان، والآشوريين، والبابليين، والصينيين، وأمثالهم، وإذا كان قد اكتسب دلالاتٍ هامشيّةً، ثريّةً منذ ثورة فتيان الحجارة، وظهرت تجلياته في الشِّعر كثيرا، ومنه رائعة"ليت الفتى حجر"للفلسطيني محمود درويش..فإن الحجر، هنا، يتعدى دلالته المعجمية، .فهو جزء من كلّ، جانب من كيان كبير، هو الوطن، الذي تمزّق إربا إربا بسبب من فساد وخيانة وتآمر وتهور وخنوع وتشرذم، بعد تسلط وقهر وسلطة غاشمة.

رمز الطير، ورمز الحوت، ورمز العمى:

 من السهل استنطاق الرموز واستدرار دلالاتها، ومن ذلك ما سبقت الإشارة إليه فيما سبق من: النهر، والماء، والحجر، والقفص، والتاريخ، ويقف رمز الطير، أو الطيور، دالاً مهمّاً يحتمِل الكثير من وجوه التأويل الفنّي، الطيور التي هاجرت، وغادرت أماكنها بعد الحربالأولى، وطير يضرب رأسه بجدار القفص المحبوس فيه، فهل أزرع الأرض فخاخا؟، وهذا رمز الهدهد، بدلالته التراثية والدينية، حتى ليراه بعضهم"بَرَكة في البيت".وهل لأن الهدهد قادر على أن يأتي بالأخبار والأسرار، ليفكّ طلاسِمَ التآمر الاستعماريّ على العراق، كما أتى، من قَبْلُ، سليمان بأخبار بلقيس؟، هاهو السّارد ينتبه على سرب طيور غريبة، ويحار هل يقبض على مافي الماء.أم اما في السّماء؟.هل الطيور هنا هم أصحاب الرأي والمباديء، أولئك الذين فرّوا من بطش صدام ودكتاتوريته؟هل هم الأحرار في مواجهة التآمر الاستعماري على الوطن العربيّ بغيَةَ تمزيقه؟

وهل الحوت رمز لما جرى وما وقع؟

وهل من الرمزالإنسان: الأعمى والبصير، معا: جار الله الأعمى، الذي يرى مالا يراه المبصرون، بل يعجزون عن رؤيته..يرى أعماق النهر، ومحتويات الطين، ونحن لانرى الظاهر والمعلوم!!...ثم قُتِلَ...لم يُكمل النبوءة، وهو ما يثير كثيراً من أوجه التأويل الفني عن فقد الإنسان هويته، بل فقده كيانه كله في عالمنا المعاصر. 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم