صحيفة المثقف

التصوف والتخلف.. التوظيف السياسي للمشترك

رائد عبيسلا يمكن للسياسة ان تجانب أي مجال من مجالات الحياة دون توظيف وتسخير لكل أنماطها العملية و الفكرية، حتى المعارض منها لأيديولوجيتها الحاكمة. فالقطيعة لا تنفع كثيرا في فهم الواقع المحيط بالسياسة ولا بمستقبلها.

لذلك نجد أن ميلها للتصوف وتسخيرها له، أصبح كتسخيرها للجامع ومنبره، المنبر الروحي الباطني، الذي يعتمد الهمس والمحادثات الشفوية والانفرادية كوسيلة لنشر تعاليمه، بات مطمح سياسي لمشاركة وسائل الدعوة وطرقها في تحقيق أثر يراد له أن يمرر عبر هذه الطرق التأييدية بين الشيخ ومريديه.

لم يعد التصوف طريق للوصول الى النقاء فقط، بل نهج مستثمر في التعريف بسياسات جديدة، تتخذ من خطوات المكاشفة الروحية دعوات للتبشيرات السياسية، بحجة المتشاركات والمتلاقيات بينهما .

فالتصوف العملي هو الأقرب الى السياسة من التصوف النظري وإن كان قد يكون الأساس لتلك الرابطة، فتعريفات التصوف ونشأته وأحواله ومقاماته، وكل طرق النقاء التي يسلكها المتصوف لا تمثل رابطة عكسية مع الواقع وإن كانت ارتداد عنه. فالاتجاه إلى الأعلى، أي الى العالم المفارق العلوي لا يغني من التوظيف السياسي الذكي لكل امتدادات ذلك التصوف.

وهنا تكمن مخاطره، التي نجد فيها وجوه للتصوف وأقنعة لم تكشف بسهولة ما دام يحمل نفس النزعة ومظاهرها والكيفية لأقناع المؤيدين والمريدين .

كيف يحافظ التصوف على نقائه الروحي من التوظيف المادي ؟ وكيف توظف السياسة مناهجها في احتواء النزعة الروحية والتوافق معها ؟ بل وتسخيرها لصالح أهداف بعيدة، مثلما يحدث في عالمنا الإسلامي.

إن الانتشار الناعم للتصوف الإسلامي في العالم، شجع دوائر التفكير السياسي الى المقارنة مع التصوف وطرق إنتشاره بطرق العولمة وأساليبها الناعمة وتأثيراتها البعيدة المدى، مما جعل التفكير بالتصوف كأحد الطرق لاختراق المنظومات المغلقة للدين بسهولة، بل و اختراق اهم منفذ رابط بين الدين ومعتنقيه وهو البعد الروحي، وبعد ما تحول هذا البعد الروحي إلى منهج، ونمط عيش، وطرق تعلم وأساليب حياة ومدارس ودعوات تبشيرية. أخذت بنظر الاعتبار في التفكير السياسي وإمكانية التقرب إليه وفهمه وتسخيره بطريقة تحاكي كل اتباعه .

وهذا ما تم عبر نقل التصوف من المنظور القيمي الروحي الإنعزالي، إلى النمط الحياتي المشارك في توليد منظومة جديدة إلى جانب منظومة الفقه والأصول، فالنزعة الإستكشافية والأستشرافية للروح الصوفية لم يعد تأمل الروح المطلق أكبر غايتها، بل اصبح موضوعها واقعيها يهدف إلى روحنة كل الأشياء وإلباسها طابعاً روحياً عرفانيا تأملياً صاعداً في ما بعد . وهذا الأمر ربما نجده فيه قرب مع بعض الحركات السياسية ذات النزعة الباطنية والتي لها ان تتحالف معها إن اقتضت ضرورة البقاء لذلك .

فالصراع مع السلطة التي تدعي السلام على أساس توافق الروح الصوفية المسالمة معها، قد لا ينتهي بتجربة سياسية صحيحة ولا اعتقاد صوفي سليم، فالمنطق النفعي ربما حاضر بين إمكانية التفاعل والتعامل مع هكذا عوامل.

لذا فالتصوف يجب إن ينتمي إلى حروفه لا صروفه، فصروف الدهر التي مرت على التصوف وأتباعه، جعل من فكرة التصالح مع السلطة، فكرة حاضرة مع فكرة السلطة عن سلام روح الصوفية ليؤمن لها سلطتها، جعل بينهما مساحة احترام ووئام، وهذا ما شجع نمط التفكير السياسي السلطوي الداخلي، والتسلطي الخارجي، وأحيانا بتعاونهما معا على توظيف التصوف لبرامج وستراتيجيات سياسية مختلفة، ومن قبل بلدان ذات روح استعلائية واستعمارية كأمريكا وغيرها.

وما قد يثار من أسئلة حول طبيعة هذا التعاون المتواري خلف أجندات سياسية، مثلاً هل هناك تصوف تقليدي وتصوف حديث؟ يبدوا أن روح التصوف أو الروح التواقه له لم تعد تلك الروح المغتربة، بل وفرت عليها التكنولوجيا وسائل جديدة في التعاطي مع ما هو روحي بشكل لا روحي، وهذا أضعف النزعة القيمية في نمطيات التصوف المتعارفة عليها، وإن كانت بنفس المعايير التي تسوق بها الأفكار الصوفية لأنها الأقرب للتلقي .

اذاً أين يكمن التخلف عن التصوف وروحه ومنبعه الاصيل؟ إن كان بما كان من قيم وروح ونقاء! وإن كان على الطبيعة لا يفسر على إنه رافد من روافد تمام اليقين وحده فقط، بل هناك عوامل إنضاج ومسائل بعيدة عن المهاك والمتارك وقريبة من روح الدين وجوهره.

إن الدوائر الصوفية المفتوحة هي الأقرب للأختراق، لأن التصوف وتجربته بما انها سر بين الفرد وربه، لا يمكن أن ينقل ليكون تجربه للأخرين، لأنه تجربة فردية بشكل دقيق. وإن الإفصاح على الأسرار بمثابة اقتراب من الأقدار كما كان مع الحلاج والسهروردي .وهذا يعطي إنطباع على إن عملية التسويق الإعلامي لأي موضوع صوفي يحمل سراً معيناً ليكسب قناعة ممن يبحث عن قناعات مشتركة، وهذا الإفصاح عن الاسرار إنما يمثل نمط من التخلف عن قيمة التجربة التي يراد للمتبع اكتشافها بنفسه، هذا نمط الأول، النمط الثاني، هو استعارة هذا السر عند من يبحث عن " فتنة الأسرار" وتلقيها عند الاتباع بين مصدق وبين رافض، وبين مشكك وبين متيقن، وهذا الأمر هو ما يزرع الفتن ويزعزع فكرة الاعتقاد بهذا النهج، بكونه وسيلة نقية كما يدعي متبعيه. وهنا يكمن التخلف، عندما يتشاطر الصوفي مع السياسي مكامن اسرار الطريقة، ويتخذ منها اداة جديدة للنفاذ إلى حقيقة خفية ممكن أن تتحول في يوماً الى قضية سياسية، ضد أي طرف سياسي اخر أو نظام حكم والدعوة الى تغييره، عبر أساليب الاتباع التصديقية بهذه الطريقة بعد تحول أفكارهم وتسخيرها عملياً وإصلاحياً.

فالنزعة الباطنية الحاكمة في السياسة في عالمنا الاسلامي أكثر تأثيراً من النزعة البركماتية الصريحة والمعلنة، وإن كانت في الغالب مقترنة معها وموظفة لإدعاءاتها، فالصوفية والنزعات الباطنية الشبيهة بنهجها كانت حجة لمن يحكم باسم الإسلام، لتوظيف أي فكرة ممكن ان تديم الحكم باسمها وترضي أطرافها. وهذا شبيه بما كان في عهد الأمويين وتبنيهم للفكر الجبري أو العباسيين وتبنيهم للفكر المعتزلي . فالتصوف بهذا النهج اصبح أيضا موظف من قبل دوائر ومؤسسات أمريكية، الهدف منها هو احتوائي واستشراقي ومخابراتي وسياسي ستراتيجي . ساعد تخلف الأمة الإسلامية في هذا المجال الى مساعدة هذه الدوائر في تقديم تصورات واضحة عن أثر التفكير الروحاني على القيم الأخلاقية والدينية للفرد المسلم بطريقة مباشرة وغير مباشرة. كما ساعدت هذه الدوائر عن قرب في تنظيم حركات صوفية إيحائية بجوهر القيمة المتوخاة من التصوف الأصيل، ليكون تجربة روحية جديدة بمقاسات تخلفية غير منظورة يكون ظاهرها مقامات وأحوال مستنسخة وهجينة، لا تحمل أي دلالة عن قيمة التجربة الفردية الناصعة والتي عرفت وعهدت عن التصوف من قبل.

فالتخلف يعبر عنه بطريقتين الأول: عن عدم إدراك للخطر الملف بهذه الطريقة الروحية، والثاني عن توظيفها الداخلي او الخارجي وخلق صراع طائفي وسياسي جراء ذلك .

فالتصوف بات ينهج طرق العنف، والمعارضة السياسية. والانخراط بالجدل التنظيمي، والانغماس المتفاعل مع الأحداث، وهذا ما عرف بمسمى التصوف السياسي والذي زاد من حدة الصراع بين مدارسه ومذاهبه في العالم الإسلامي والذي شجع محتليه او المستحوذين عليه إلى الانشغال بهذا التوظيف، ليخدم قضاياهم مع جهل أهله بذلك، وهذا هو ما يقارب التخلف عن سير النظم المعرفية والسلوكية للتراث القيمي الذي كان يمثله التصوف، بينما أصبحت كثير من أنماطه اليوم جزء من فلكلور شعبي، يسرد في قصص الكبار على الصغار بدون أي أثر يوحى من قيم تلك التجربة .

 

دكتور رائد عبيس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم