صحيفة المثقف

المثنوي قرآن فارسي (2-2)

احمد الكنانيالمبالغة في تشبيه المثنوي بصفات خاصة بالقرآن، وبأنه نور مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا، هذه المبالغة لم تلفت نظر شراح المثنوي ولا منتقديه الا النزر اليسير، وغفلتهم هذه ليست بذاك السوء المتصور بل هو حسن يستحق التقدير والثناء، وسر شكري العميق لاؤلئك المهتمين بتراث المولوي يكمن في ان الرومي كأسلافه واللاحقين به من ادباء فلاسفة ومتصوفين في افقهم الواسع يبحرون لا تحدّهم حدود الأديان والمذاهب، ولغتهم البشرية تضيق بهم ذرعا في إيصال ما يشعرون به، فدعوهم يبحروا ويوصلوا الينا ما يقتنصون من  درر غوصهم، من دون ملاحقتهم بأية او رواية او فتوى فقيه او دعوة داعية من المدافعين عن الاله .

وعقيدتي ان الفيلسوف او الصوفي حين ينسج متبنياته الفكرية في قوالب شعرية وضوابط بلاغية لا يباح لنا الحكم عليها ضمن قواعد شرعية وضوابط دينية، لانها ببساطة خارجة عن تلك الضوابط، غير محدودة بها ولا منتمية لها، بل هما لغتان متباينتان لا جامع بينها، فكيف بلغة الخيال التي لا تقدر الحروف على تبيانها أحيانا ان تحدَها لغة المشرع، و المثنوي كنص ادبي عرفاني لا يستحسن التعامل معه بمسبقات ذهنية دينية او عقائدية .

لعل وصف المولوي لديوانه بالكتاب حين يقول في المقدمة "هذا كتاب المثنوي" رغم انه ليس كتابا بالمعنى المتعارف للكتاب فيه إشارة مقصودة الى انه شبيه بالقرآن في كونه ليس كتابا ومع ذلك يقول القرآن " ذلك الكتاب لا ريب فيه "، هذه النقطة بالذات فيها أوجه شبه كثيرة، فالمثنوي شعر القاه الرومي على مستمعيه ودوَنه الكرام الكاتبين، واسماه بالمثنوي وهو نوع شعر وليس اسم ديوان، وكقول القائل اسم ديواني هو العمودي او الحر فهي أنواع للشعر وليس مسميات للدواوين، والقرآن كذلك ليس اسم لكتاب وانما هو آيات تلاها النبي على مستمعيه فهو المقروء، بمعنى انه وحي مقروء فهو قرآن وليس من سنخ المكتوب والمدون .

ثم ان المولوي لم يبدأ المثنوي باسم الله والثناء على نبيه كما هي العادة، وانما شرع ب " بشنو اين ناي " استمع الى الناي وهو يشير الى نفسه وتنبؤاته في اول شطر من ديوانه، هذا بناء على النسخة المصححة من المثنوي " اين "  التي تعني: هذا، وعلى خلاف المشهور الجاري على الالسن "بشنو از ني" استمع من الناي .

القراءة المشهورة: بشنو از ني، استمع من الناي .

والقراءة الصحيحة غير المشهورة: بشنو اين ني، استمع الى هذا الناي .

والفرق بينهما شاسع جدا، ومحط نظر المولوي هو الاستماع اليه والى حكايته وتجربته الروحية التي ابتدأت حال انقطاعه من جذوره، هذا هو المعنى الذي ينبغي استلهامه من البيت، لا الاستماع الى ايَ ناي، ولا اعرف من اين جاءت قراءة " از ني " وأصبحت مشهورة على الالسن رغم انها تفقد حلاوة المقصود بالمعنى السامي الذي يرمي اليه مولانا، ولعلها كانت عن قصد من مروجي المثنوي ومريدي المولوي هروبا من أي ايراد قد يفهم ويلصق به ان فُسر بناي بعينه لا أي ناي .

وهناك معنى اخر يمكن استلهامه من هذا البيت وكيفيه شروع المثنوي ب "بشنو اين ني" من دون مقدمات ولا حتى باسم الله والثناء على نبيه كما هي العادة الجارية في ذاك الزمان حين الشروع بالكتب او الدواوين، هو ان المثنوي كتاب ليس كأي كتاب يُحضَر له ويُمهَد له بمقدمات وانما هو على سبيل الحكمة الجارية التي تُلقى في روع ملقيها فتظهر فجأة بشكل شعر منتظم يسحر مستمعيه . وهذه إشارة أخرى على مشابهة المثنوي بالقرآن .

هناك التفاتة مهمة في هذا الشطر العجيب من البيت الملئ بالمعاني السامية، نبه لها بعض من شراح المثنوي  وهي ان التنبيه بالاستماع المعبَر عنه ب " بشنو" هو بمثابة " قل " الواردة في ابتداء بعض سور القرآن، استمع الى الناي ...، والناي هو الشئ المجوف الخالي الذي ينفخ فيه ليصدر أصواتا حزينة معبرة، والناي هنا تعبير عن مولانا ذاته الذي ينقل الصوت من قدرة خارجة عنه فهو كالموحى اليه لايصال رسالة ما الى العالم، والناي بهذا الشكل من الابعاد يكون سهيما في اخراج الأصوات بهذه الطريقة فهو كالنبي في إيصال الوحي الى الناس وفي ذات الوقت ذي تأثير في اخراج الوحي بهذه الطريقة ...

مولانا جلال الدين لا يخفي كونه بمنزلة المحى اليه، وهذا المعنى ظاهر جدا للمتصفح للمثنوي، والشواهد متكثرة على هذا المنحى للمولوي منها هذه الابيات التي أوردها في القسم ٦٩ من الجزء الرابع من المثنوي:

نه نجومست و نه رملست و نه خواب

وحی حق والله اعلم بالصواب

از پی روپوش عامه در بیا

وحی دل گویند آن را صوفیان

وحی دل گیرش که منظرگاه اوس

چون خطا باشد چو دل آگاه اوست

مؤمنا ینظر به نور الله شدی

از خطا و سهو آمن آمدی

اذ ليس تنجيما ولا ضربا بالرمل ولا هو اضغاث أحلام وانما هو وحي حق والله اعلم بالصواب

ظاهر المعنى لا لبس فيه هو وحي القلوب المهيمن منظراً لتجلى الحق

حينها يكون المؤمن ينظر بنور الله آمنا من السهو و الخطأ ...

 

احمد الكناني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم