صحيفة المثقف

اليمين بلا يمين واليسار بلا يسار

رائد عبيسعوق ثقافي يحول بين الممارسة والوعي

روي عن حادثة تاريخية وقعت بين فريقين، أحدهما يميني، والآخر يساري، كانت المحصلة الأولية للصولة الأولى أن يد يميني قطعت، وكانت على ما يعتقد اليد اليمنى، فبدأ اليمين لعد العدة لصولة جديدة على الفريق اليساري لأخذ الثأر منهم، فانتهت هذه الصولة بقطع اليد اليسرى لاحد أبناء الفريق، وبهذا فقد ثار الفريقين على بعضهم ونال كل منهم من الآخر، ولكن في الحقيقة، أن الإثنين غير مقتنعين بثأر بعضهما من بعض، لأنه ثأر غير متساوً، يعني أن القصاص لم يكن منصفا تماما، فالأول قطعت يمينه والثاني قطعت يساره،، واليمنى ليس كاليسرى، فلا تفاضل بين اليمين واليسار فهما ليس بنفس المقدار.

ومع تلك المنقصة، يسعى كثيرون الى التباهي أنه يساري سواء كانت يساريته سياسية أو ثقافية أو فكرية، فالأمر لم يعد يتعلق بالسردية التاريخية التي تروي حكاية اليمين واليسار وعلاقتها بالمقاعد البرلمانية، فالأمر أصبح يأخذ منحى آخر، وهذا الأمر اتضح من عنوان المقال في إشارة إلى أن اليسارية هو إعلان المفاضلة غير العادلة مع اليمين، فرب قائل بأن اليمن هم الاقوى وينسب القوة اليمينية إلى قوة بايولوجية تحوي عضلات وسمات القوة، او ينسبوها الى أهل اليمين ومنا ما ورد من تفضيل لهم بالكتب المقدسة بكونهم اهل ايمان ونصرة وتقوى، أو هناك من ينسبهما الى الكرزمة وقوة التمثيل والشخصية والحضور، وغيرها من الارتباطات المميزة لهذا المسمى، بينا اليسارية دائما ما يرد فيها الذم والإشارة السلبية الى مسماها، وكأنها منبوذة ضعيفة عاجزة. ومثل هذا التوصيف لمعنى اليمين واليسار وارد في الأدبيات السياسية أو الثقافية أو الفكرية وغيرها.

هذا التوصيف النقدي، ينطوي على فهم جديد لمعنى اليسار واليمين، فلم يتعلق الأمر بحادثة انقسام البرلمان الإنكليزي الى يسار ويمين، بل اخذ منحى بعيد يرتبط بالتناقضات السياسية والأخلاقية في الفعل السياسي التي تَوطن بسبب التجاذبات والصراعات والمخاضات والخوف والثورات والاطاحات والملاحقات والتنافس على السلطة، بكل أشكاله الذي جعل من السياسي العربي والمسلم خائف حتى من توصيف نفسه، فمرة تجده يميني ومرة نجده يساري ومرة متطرف متشدد في يمينيته ومرة اقرب إلى الوسطية والاعتدال، ومرة تجد يساري متطرف في يساريته ومرة معتدل ووسطي، فمثل هذه المواقف اليمينية واليسارية أصبحت إيديولوجيا تحمل في أعماقها افكار عقدية تجنح في كثير من الأحيان إلى التطرف. فمرة نجد تيار يساري ليبرالي يؤمن بالمدنية والديمقراطية ولكن سرعان ما يتحول مجرد أن تمس مصالحه السلطوية الى تيار رادكالي. وهذا ما يدعوا للتساؤل

هل كل يساري علماني متسامح؟ وهل كل يميني ديني أو محافظ ؟

هذه أسئلة جوهرية تعبر عن عمق الحالة التي نعيشها بتناقض ونمارسها يتناقض . إذ نجد أن هذان التياران أو التوصيفان السياسيان، سرعان ما يتولد منهم تيار ثالث يجمع الاثنين نظرياً وممارسة، مثلما هو الحال عند ولادة اليسارية الجديدة في ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا.

فقدرة التحول في المواقف السياسية أو الثقافية أو الفكرية بين اليسار واليمين، وضحت لنا أن لا تعويل لا على يسارية اليساري، ولا على يمينية اليميني ؛ لأنهما مفهومان يختلفان تبعا للمواقف والأهداف والمصالح، فلم يعد الجلوس يمينا أو يسارا يشكل موقفا البته، ولاسيما في العراق وبلدان الوطن العربي بعامة، وما تقسيم مقاعد البرلمان الى يمين او شمال الا لأسباب هندسية وتصميمية لا سياسية!

فالدور المناط بهذا التصنيف يعكس حالة التأييد، والتأكيد، أو الرفض، والمعارضة، وهذا ما هو غائب في دور البرلمان العراقي والبرلمانات العربية، فكل اليسار مؤيد لليمين وكل اليمين مؤيد لليسار !! من أجل الحفاظ على المكاسب السياسية، والمغانم الاقتصادية، المتحصلة من المشاركة السياسية، وهذا ما لا يستوجب المعارضة من اليسار أو التزمت من اليمين!! فلم يعد اي من التوصيفين سبة كما كان من قبل، فقد كانت تساق كتهمة ضد الخصم، مثلا أستالين كان يتهم تروتسكي باليسارية كما كان لينين يتهم كيرنسكي باليمينية. وهذا مثال تحقق في بيئة الصراع السياسي العراقي، لتيار الحكمة الذي انشق من حزب يميني تقليدي يسمى المجلس الأعلى الى تيار يساري يسمى تيار الحكمة، الذي يدعي اليسارية وهو مستبطن اليمينية المتطرفة، وكذلك الحال مع التيار الصدري الذي بدأ يمزج بين يمينيته ويساريته لا سيما بعد تحالفه مع من يمثل الحزب الشيوعي ومن القوى المدنية، وكلاهما يستبطن النقيض! وهذان المثالان ينسحبان على كل القوى السياسية في العراق والتي تعلن مدنيتها ويساريتها في أوقات السلم، ويمينيتها وتعصبها وتشددها في أوقات الحرب والصراعات لاسيما تلك التي تهدد وجودها الفعلي.

في الواقع العراقي لا يسار يمتلك يساره ولا يمين يمتلك يمينه، انها المنازلة الاولى التي تقطعت أطراف كل منهما بشكل متعاكس!! فحتى لم يكن هناك توصيف ثالث بينهما فلا يسار معتدل ولا يمين معتدل !! فالمسألة مسألة أطراف فقدت، وعوق يايولوجي ترك أثره النفسي على الطرفين، ترتب عليه عوق ثقافي حال بين الوعي والممارسة !! ولم نجد ايضا من يتبرع لتركيب أطراف صناعية لهم ليعودوا أسوياء لا من فاقد يمين ولا من فاقد يسار عسى أن يتصافحان بها ويقع السلم.

 

الدكتور رائد عبيس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم