صحيفة المثقف

أحزان المرايا ومسرّاتها

رحمن خضير عباسعن دار (مدارك للنشر) صدرت مجموعة قصصية  للكاتب العراقي المغترب عبد جعفر. والمجموعة برمتها تغرق في احزان عميقة، وجراحات تتأتى من خلال المرايا التي عكست الكثير من الصور والذكريات والأوجاع . إنه الوجع العراقي الذي يتراءى ويتراقص على صفحة الذاكرة. حتى أنه يطارد المهاجرين إلى ملاذاتهم الآمنة في العواصم الأوربية .

إنه الوجع الذي يتناسل ويتجدد،  والمرايا التي لا يرى فيها المهاجر سوى ملامحه المتوحدة والمشحونة بالحيرة، والتي حفرت عليها الاحداث والتجارب ميسمها، من خلال هذا السيل المنهمر من السرد الحكائي لقصص تطفح بالرؤى، وتحاول أن تستقرئ الحدث من خلال تطريزه ببعض خيوط الرمز وبعض الغموض، مما يجعل القارئ ينوء بعبء التساؤل والتفسير والاستنتاج.

قصة (الذئب) تنهج هذا المنحى. والتي تتناول إصرار الانسان على مواجهة الخطر والتحدي حتى الموت.

والقصة تأتي بلسان الشخصية الثانوية التي تروي عن الراعي الذي يحاول أن يثأر من الذئب، والذي افترس بعض قطيع أغنام القرية. ولكنه لا يريد قتل الذئب فحسب، وانما يهدف الى التمثيل به وسلخ جلده وهو حي . وحينما يحاصران الذئب في المغارة الضيّقة. يحشرالبطل رأسه في الفتحة الصخرية الضيّقة. فيخرج بدون رأس. لذلك فان صاحبه، الذي يقوم بسرد الواقعة،   فيحاول إيصال الجسد المضرّج بالدم إلى القرية، وسط  رحلة محفوفة بخطر الموت من الليل والمطر وقلة الرؤية والحيلة، وكثرة مخاطر الذئاب التي تستثيرها رائحة الدم .

في تلك الأثناء يستلهم الرفيق الكثير من أقوال الراعي الذي يحذره من

"خيانة رفيق السفر" أو "وكيف تتحول رصاصات الدفاع عن النفس أشبه بقطرات الماء".

وحينما يعود برفيق سفره بدون رأس تتقافز الأسئلة بدلا من تقاطر الحزن على الفقيد  .

هل كان له راس قبيل موته؟ أو هل استعار الذئبُ رأسه؟

فقد تخيّل بعض أهل القرية، أنهم رأوْا ذئبا برأس آدمي وهو يضحك!.

وهكذا ينتقل السرد في هذه القصة.  من مُناخات طبيعية وهادئة لعملية قتل ذئب مُفترس، ولكنّ هذا السرد يتسارع ويتصاعد ويتحوَّل إلى حدث ملحمي، يبحث عن معنى البطولة، ومعنى الانتصار.

فمع أن الراعي عاد الى قريته جثة هامدة. ولكنه تحوّل  في المخيال الشعبي، إلى بطل ملحمي  في الموروث،  وتِبنى له في الذهنية الشعبية مدلولات خارقة.

وقد استطاع الكاتب أن يغلّف هذه  القصة بفيض من الرموز :

ما معنى الانتصار وما معنى الهزيمة؟

لذلك يظلّ القارئ حائرا في مغزى موت الراعي. هل هو البطل الذي استطاع الثأر من عدو؟

أم هو وجه التحدي والغضب الذي يجعل الانسان ضحية لغضبه؟

لقد كانت القصة رائعة من الناحية الفنية. لأنها امتلكت القدرة على ادراك مفهوم البطولة البدوية، التي تصل أحيانا إلى المفهوم البدائي في معنى الانتصار .

في قصة (من قتل محسن العلوان) يخضع النص لتكنيك قصصي متشابه، حيث يلجأ الكاتب الى تغليف الحدث برموز ميثولوجية،  من خلال رؤية أم حسين التي ترى القتل هو جزء من عقاب قدري. جعل محسن يتلقى جزاء جريمة ارتكبها سابقا وحُكم من أجلها. ولكن روح الضحية ظلت تطارده كعقاب للضمير. وقد نجح الكاتب في توزيع الأصوات السردية التي لم تسعفنا الا بغموض آخر. وهكذا يظلّ الشيء الوحيد الماثل أمام القارئ أن ثمة حادثة قتل قد ارتكبت، وليس هناك من يميط اللثام عن اسرارها. سوى الهَوَس في طقوس الحزن. والذي تجلىّ بركض النسوة وصراخهن. إنها فوضى العاطفة التي تتخلل الاحداث، والتي تعجز عن وضع تبريرات لها.

في قصة (طبيعة صامتة)

يعالج الكاتب بشكل عاطفي لا يخلو من رومانسية مسألة الزمن،وقدرته على هزيمة الانسان،   من خلال تدهور ملامحه الفتيّة. او ما يسمى بالقشرة الخارجية. ولكن هذا الزمن، حسب سياق القصة لم يستطع أن يجتاح الدفء الانساني، كمضمون .  بحيث أنه يستوطن البعض من البشر  ويبقى معتّقا فيهم. ويتجدد باستمرار.

فقد رسم لنا الكاتب لوحة عاطفية عميقة،  تتمثل بلقاء حبيبين في خريف عمرهما، يتقاسمان الدفء الإنساني الصامت بواسطة حاسة اللمس. ذلك النسغ الذي ينبض فيه الروح العسيرة على الشيخوخة، والتي تريد أن تتشابك مع رحابة الحياة .

تطرح قصة (خارطة سوداء) الفضاءات السائدة في الأنظمة القمعية التي تترصد للمثقف.

ثمة شابٌّ،وجد نفسه في موقف المتهم من قِبَل السلطة، مع أنه لا علاقة له بفحوى الاتهام . فهو قد سمع ما قاله صديقه حمدان عن الحكومة فقط، وكأنّ هذه القصة تختصرُ الكثير من  قصص الأبرياء الذين دخلوا إلى عالم القسوة والقمع والسجون بشكل خاطئ.

فهذا الفنان الذي سيق به الى المعتقل ليعترف عن صلته بأحد المناضلين (حمدان)، ومع أنه لا يعرف الشخص المعني، ولكن التعذيب والقسوة تحوٌله إلى مناضل آخر. وحينما يطلب منه السجان ان يرسم له بورتريتا. يهمل صورة الفنان ويتخيّل وجه حمدان فيقوم برسم ملامح الضحية. ويتحمّل غضب السجان وإيذائه.

وكأن القاص أراد من خلال هذه القصة، أن يرسم لوحة للوجدان الذي لا يمكن إرهابه أو تطويعه.

إنٌها قصة هادفة، تسجّل معاناة الأجيال من المناضلين العراقيين،  الذين توهجوا برقيّهم الانساني على خارطة القسوة السوداء.

وفي قصص أخرى تلاحقه خارطة الوطن. يتحدث عن آلام الحصار. وقصة محمود الشاب الذي يتمرد على عائلته،  وهو في حيرة في خياراته. فهو طاقة شبابية كبيرة. ولكنه يعيش حالة من الضياع،  لان ليس ثمة توجيه لهذه القدرة. لذلك فيقوم بالمشاغبة،  فيقتني الأخشاب والطيور والحمير،غير مكترث بما يسببه لأهلهِ من إحراج . فالقصة تتعمق في الأحياء الشعبية البغدادية الفقيرة،  وتحاول عكس الكثير من صور الحياة الداكنة هناك.إنها تمثل شريحة من الشباب المهمّش، والقادر على اجتراح المستحيل.

أما قصة (دعوة) فقد استطاعت أن تعرٌي النظام الدكتاتوري،  الذي أراد أن يشظٌي وحدة العائلة وتآلفها وصلة الرحم بينها. وذلك حينما تم استدعاء أحد الشعراء لمدح الدكتاتور. وحينما علم الناس بأنّ هذا الشاعر سيلتقي بالرئيس، حاولوا أن يحمّلوه رسائلهم واسترحاماتهم إلى هذا الرئيس. ولكن أباه طلب منه أن يتضرّع للرئيس في امكانية إطلاق سراح إبنه السجين . وحينما  قابل هذا الشاعر الرئيس مع جوقة من الشعراء. طلب منه الرئيس أن يطلق النار على أحد المحكومين. فوجد الشاعر بان الرئيس يأمره بقتل أخيه الذي كان يطمع بطلب إطلاق سراحه!

وتحت وطأة الخوف والارهاب يردي أخاه برصاصات المسدس. فينال رضا الرئيس الذي علّق قائلا :

" لقد كتبَ الشاعرُ قصيدته بالدم ".

ويبدو أن الكاتب قد استلّ هذه القصة من الواقع القمعي واستطاع أن يقدّمها كشهادة أدبية عن قمع النظام العراقي لمعارضيه.

ويستخدم نفس الفكرة في قصة اخرى،  حينما يطلب السجَّان من المناضل أن يُبْصق على وجه أبيه.ولكنّ الضحية يبصق على الجلاد مغامرا بحياته،  وهذه اللقطات الواردة، استلّها الكاتب من وقائع حقيقية . وأراد من خلال ذلك أن يسجّل بعض آلام الجرح العراقي الذي تحمّل آلام الدكتاتورية وتعسفها.

يلتقط الكاتب عبد جعفر بعض المواقف في المهجر، ليحيلها إلى معانٍ ومدركات ودروس لتجارب عابرة.  ففي قصته (اليقين) يطرح مخاوف اللاجئ العراقي الذي ترافقه في ملاذه. فهذا خليل الذي يتوقع القاتل يترصده في كل لحظة. وهذا المهاجر الذي يتوهم أنه يلتقي بملكة بريطانيا والتي تعرض عليه إناءً من الكريستال. ولكنه يجد نفسه حالماً، ويعيش على فُتات مساعدات المجتمع، التي تُسْتَل من جيوب دافعي الضرائب.

إنها الخيبة المزمنة والمشاعر المتأججة، لدى بشر وجدوا أنفسهم على قارعة الغربة.

لقد قدّم لنا الكاتب مجموعته القصصية (أحزان المرايا ومسرٌاتها) بشكل جميل ومتناسق. وبعيد عن المسرّة، رغم محاولاته  في وضع رتوش من الهزل في قلب حالة الحزن .  وذلك من خلال المفارقات الكثيرة، ضحك الاطفال، براءة الاسئلة، التناقص الساخر في المواقف..الخ

هذه المجموعة تسعى إلى عرض المشاهد والألام التي ظلت معتكفة في عتمتها. فأراد الكاتب أن يرشّ عليها بعض الأضواء.

وهو ليس ببعيد عن دهاليز ودروب العوالم التي قدّمها. فهو وليدها والابن الذي قمّطه ألمها. لذلك فقد جاءت قصصه صادقةً هادئة صريحةً. كما أنه بثّ في ثناياها الكثير من الكوميديا.

هل كانت الكوميديا السوداء التي تترفع على الحزن؟ أم أنه أراد أن يقدّم لنا الحياة في وداعتها وشجنها وتقلباتها  وانفعالاتها، الحياة التي نضحك فيها من آلامنا ونبكي في فرحنا .

كانت قصصه لقطات رائعة ترسم وجوها لحياة عرفناها. فهو يستخدم اللغة الكلاسيكية أحيانا. ويردفها باللهجة المحلية. وكأنه يتقمص وجوه أبطاله.

هؤلاء  الأبطال الذين لم يتركهم وحيدين، بل حاول أن يعزز شهاداتهم بلغة السارد الذي يتحدث . وكأنه يخلق لمسة عاطفية ثنائية في البطولة على صعيد الحكاية.

حتى تجعلنا نتسائل . من هو البطل؟ هل هو الراعي أو صاحبه الذي حمل جسده؟.

الأبن أم شقيقته؟. محمود السجين أم الفنان الذي تقمص دوره؟

الشاعر الذي قتل أخاه أم الذي شهد حفلة الرعب؟

لقد كان التكنيك القصصي يجعل من المشهد القصصي حافلا بروح الجماعة. أو بالبطولة الثنائية. والتي لا تعتمد على البطل الواحد.

إنها مجموعة قصصية ثرية،  تحتاج إلى قراءات جادة ومتأملة.

 

رحمن خضير عباس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم