صحيفة المثقف

كلمة في وداع د. الطيب التيزيني

في يوم الجمعة 17 من شهر آيار ودعنا الأخ والصديق العزيز الدكتور الطيب التيزيني في رحلة العروج نحو العالم الأبدي، وإليه ندعوا الله مخلصين أن يتغمده بواسع رحمته ويسكنه فسيح جنته .

هذا الصديق العزيز تربطني به علاقة ممتدة عبر الزمن جسدتها حوارات ولقاءات متنوعة جمعت بيني وبينه عن أشياء وأشياء، وشاء السميع العليم أن تثمر هذه اللقاءات عن مواقف شبه موحدة أو قل متقف عليها في قضايا تخص العرب والمسلمين فكرية كانت وسياسية وإجتماعية وإقتصادية وغير ذلك، نعم كان بيننا إتفاقا كبيرا وإختلافا يسيرا وهذه من طبيعة الأشياء، وكنا معاً شديدي الحرص على الوحدة في شكلها المحمدي ذلك النموذج الخالد، الذي وهب لنا الإرادة والفكر والشجاعة والثقة وحُسن الإنتماء، وكانت لنا معاً وسوياً أراء ومواقف عبرت عن روح الحرية التي يشتاق إليها العربي والمسلم، ولهذا كانت بعض مواقفنا يحسبها البعيد غريبة في وقتها أو هي كذلك لأنها لا تنسجم مع المألوف من لغة الناس في الزمان والمكان، ولم نكن نعني والله يدري فئة من الناس بعينهم أو فكرا في الحاضر أو الماضي معين، بل كنا ننشد العدل والحرية والسلام، ولهذا كان لنا موقفا من بعض رجال دين ممن أشتروا الضلالة بالهدى .

هؤلاء التعساء عبر التاريخ كانوا ملعونين أينما ثقفوا ولهذا كانوا هم الريح الصفراء أو الأفيون الذي يحطم العقول والأبدان، وبما إن الأمر فيه أخذ ورد وقيل وقال، فأخذ عليه البعض مآخذ من غير تفحص أو بحث وتحقيق فيما يرغب و يريد الطيب، والحق أقول لكم لم أجد في الطيب ذلك الماركسي أو البلشفي، وهو يدافع عن الماركسية بل كان مأخوذا بما تريده الماركسية من عدل إجتماعي وتكافل، بحيث لا يطغى أحد على أحد ولا تكون هناك سطوة للأغنياء على الفقراء والمعدمين، كان يشجع الماركسية في ثوبها الإجتماعي الصافي من غير فلسفات أو إضافات من هنا وهناك، كان همه كما عرفته سعادة الناس وعيشهم الكريم وأمنهم الدائم، ولهذا أبتعد عن السجالات في المألات التي أنتهت إليها الثورة البلشفية، ولم يعر كثير إهتماما للسجالات الرومانطقية عن الإستالينية وعن دورها والحقب التي أتبعتها، كان يعجبني فيه الميل نحو الواقعية السياسية والإقتصادية وإيمانه بالوطنية في ثوبها العربي من غير تكلف أو إنتماءات حزبية، ولذلك لم يذهب في ذلك مذاهب شتى كما هو حال المعاصرين والسابقين له، بل كان شديد الحرص و الإقتراب من هموم الناس البسطاء ومعاناتهم، ولهذا كنت أُكبر فيه هذه الهمة وهذا التوجه .

وأذكر ذات مرة زارني في بيتي المتواضع هناك في الشام القديمة، وقد جرت العادة ان يكون بيننا مادة للبحث نسترسل فيها وكان الكلام عن الثورة العربية وعن الدولة العربية، ولم يذهب كغيره للتفريق حسب دلالات اللفظ والمعنى، ولكنه تبنى الثورة في ظل سيادة الدكتاتورية وشياع الظلم وإنعدام الحريات والعدالة، لكنه في ذلك لم يكن متطرفاً إنما يُملي فكرة يجدها أكثر صوابية في ذلك الوقت، وعن موقفه من الدولة والحكم كان شديد الحرص أن لا يحسب على فئة ما ولا يود أن يكون في عداد المهرجين وجوقة الأجناد مع رفضه المستميت للركون أو الإستسلام .

ولأنه كان واقعيا لذلك كان ينظر للمصلحة قبل الخوض في الكلام عن اللازم والملزوم، وكان تفسيره للوحدة العربية لا بنمظور تاريخي حتمي ولا من باب اللازم أو الحالم، إنما كانت رؤيته في ذلك تتعلق بطبيعة العمل والمصالح وتبادل الخبرات، وتلك كتاباته تتحدث عن ذلك بشيء من التفصيل، ولم تمنع الطيب كثرة الطعنات والنكبات والخيبات التي اصابت الجسد والعقل العربي، من أن يكون ظهيراً للحق العربي ولإنصاف العرب في قضيتهم المركزية - قضية فلسطين -،

 عبر عن هذا بجلاء صوته في المحافل والدوائر التي شاء الله والقدر أن يكون متواجدا فيها، ولقد اعجبني فيه روح التسامح في ظل الإختلاف حتى في هذه أعني قضية فلسطين، فقد كان ميالا للأخذ بوجهة نظر القيادة الفلسطينية حين أتجهت للسلام مع مؤتمر مدريد وما تلاه في أوسلو، معلناً إيمانه الراسخ بأن للحق وجه واحد وعلى الجميع البحث عنه، من غير تزييف للتاريخ أو القفز على المسلمات العقلائية أو التضييع المتعمد للوقت وإستهلاك الزمن، وفي هذا كان الطيب أكثر واقعية من كثير ممن رفعوا الشعارات وتنادوا بالعنتريات في الفضاءات المغلقة، وقد عبر عن موقفه هذا من إتفاقية أوسلو التي أعتبرها جزءا من مشروع الحل العام لكنه ليس الحل النهائي ولكنه خطوة في الطريق، يتيح للعالم التعرف و الإعتراف بالحق الفلسطيني في أن يعيش ضمن كيان ذاتي مستقل، تحت المظلة الدولية مما يجعل له إنصار ومريدين في العالم أجمع، ويكون صوته الأقرب إلى صوت المجتمعات المنادية بالسلام والنابذة للحرب، ولم يتخذ طريق المطبلين وأهل الشعارات بل أتخذ موقفاً وسطا يحقق لأهل الحق ما يصبون إليه في الممكن .

وهذه هي السياسة التي أعتمدها النبي محمد مع قريش في صلح الحديبية، وهي نفسها التي مارسها الإمام علي من بعده وكذا الإمام الحسن والحسين مع معاوية، وهي الطريقة الأكثر قابلية للحياة في ظل التدافع والتناحر،

 ولم يعد ممكناً القبول بفكرة شطب المجتمعات أوالشعوب أو محاولة الرمي بهم في عباب البحر، فتلك سياسة عنصرية أثبتت فاشلها وعقمها، سياسة طبل لها وسار على وفقها أنصاف متعلمين وجهلة وبعض من العسكريين من ذوي الرتب المتدنية .

السلام في حد ذاته هدف وقيمة هي أعظم وأكبر من كل القيم في ظل بناء المجتمعات والدول، فبالسلام يتحقق الأمن وتتحقق العدالة، وإن كان هناك مجالاً للديمقراطية فلا تتفيء ظلالها إلاَّ بالسلام، ولعل الله سبحانه هو من دعا إلى السلام ودار السلام، ليس من موقع الضعف والهوان كما قد يتوهم متوهم، بل من موقع القدرة والإقتدار، وهو سبحانه من نهى عن الإلقاء في التهلكة حين تفتقد المواجهة شرط النجاح والنصر، فحفظ النفوس والأموال والممتلكات من الهدر أعظم درجة عند الله، من المناكفة والتبجح بالشعارات والكلام الكبير الذي ليس له أو فيه منفعة وفائدة، ومعلوم بالضرورة إن الشيطان ميال لخلق الفتنة وتأزيم الأوضاع لأنه لا يعيش إلاَّ على أحزان الناس ونكباتهم، والعاقل من يُضيع على الشيطان الفرص ويسد أمامه الأبواب كي لا ينفذ ويكون له عليكم سلطان .

وفي هذا المقام وفي هذه المناسبة أجد من واجبي الفكري والأخلاقي والشرعي، دعوة القيادة الإيرانية متمثلة بالأخ السيد علي الخامنئي دام إحترامه، إلى تفويت الفرصة على من يريد بالشعب الإيراني الهلاك والمظلمة، فشعب إيران هذا الشعب العظيم لا يستحق أن يعيش التشتت والألم والضيم، والأمر كله يحتاج لمعالجة في الدفاتر العتيقة، والإيمان بأن الحق له طرق ووسائل يمكن من خلالها الحصول عليه، و يشهد الله إني في ذلك ناصح أمين وأقول لكم : - أن أجتنبوا المكابرة أوالمزاودة على الغير -، فرب دعوة صالحة تدعون إليها ليس لها أذن وأعية تؤمن بها وترغب في تحقيقها، والأمر كله مرهون بشعب فلسطين هو صاحب القرار وهو صاحب الإرادة، ونظرة في السجلات والرقم وفي المعاهدات والمواثيق الدولية ما يغنينا عن كثير من الكلام، ولندع اللاهثين والناعقين والنافثين جانباً متوخين الدقة والحذر وعدم تضييع الوقت .

وكلنا شهود على الطامة الكبرى التي أصابت بلاد العرب في ربيعهم الأسود الذي دمر القيم والأخلاق والمعتقدات وضيع الحق، ولم يتعد صوت العربي مهما كبر حيطان بيته ومخدع نومه، فأستسلم الجميع ولم يبق في المخيم غير أمنيات وتلاشت أجيال وأندثرت ممن كانت تعرف الحدود والجغرافيا والتاريخ، ولم يعد هاجس الجميع غير العيش بسلام مع توفير لقمة العيش مع شيء من الحياة الكريمة، بعدما تشتت الخلق في أرجاء الدنيا الواسعة، فضاع التلاق والحرص والأمانة والإيمان .

إن على إيران القيادة والشعب الإبتعاد عن اللعب في الأوراق المحترقة، فليس فيها سوى الرماد الذي تذره الرياح في كل مكان، ولا تظنون من ناصر أومعين فقد تكشفت كل العورات، وإني مؤمن بالحكمة الغالبة في طبائع الشعب الإيراني والتي ستهديه للحل عبر التفاوض، وترك ما لقيصر لقيصر ولنا ولهم عبرة بالنبي وأهل بيته، والحق أحق أن يتبع ..

رحم الله الصديق والرفيق الدكتور الطيب التيزيني، رحم الله تلك العيون وتلك الروح الطيبة، ودعاء من القلب ان يتقبله ربه بقبول حسن، ويسكنه واسع رحمته ..

 

آية الله الشيخ إياد الركابي

19 – 05 - 2019

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم