صحيفة المثقف

الشاخصُ الأميزُ الذي يعجنُ اللغةَ بالموسيقى عجناً

عبد الرضا عليصُنّاعُ قصائدِ الأعالي قِـلَّـةٌ لا يتجاوزونَ أصابعَ اليدينِ عدَّاً، ونزعمُ أنَّ الشاعرَ يحيى السماوي هو الشاخصُ الأميزُ بينهم .

لكنَّهم على قِـلَّتِهم يشكِّلونَ دريـئةً تقي الشعرَ من السقوطِ في دائرةِ الفجـاجةِ (التي بدأتْ تشيعُ هذهِ الأيّام)، وتبقيه قادراً على أنْ يتعاطى مع الأسئلةِ الملحَّـةِ التي يُثيرُها الوجودُ الإنسانيُّ وصولاً إلى تحقيقِ غايةِ الشعرِ في فتحِ عيونٍ كانت قد أُغلقتْ بفعلِ تراكمِ غبارِ العتمةِ في زمنِ الأوجاعِ.

في هذه المجموعة ( نهر بثلاث ضفاف) اشتغلَ السماوي على تطويعِ الرمزِ الأسطوري الخاص بـ( إينانا) إلهـةِ الجمالِ والحبِّ والتضحيةِ عند السومريين، وجعلهِ عامَّاً في فاعليَّـتِهِ الإنسانيَّةِ، فتحوَّلَ الخاصُّ إلى عام، وخرجَ الرمزُ من جغرافيَّـتهِ المكانيَّةِ إلى فضاءٍ إنسانيٍّ شامل.

ومعَ أنَّ الذاتَ الشاعرةَ كانت قد سعتْ إلى اعتمادِ بنيةِ اللغةِ المشفَّرةِ في بعضِ تراكيبِها، فإنَّها في الوقتِ نفسِهِ انشغلتْ عامدةً بجمالـيَّاتِ الفنِّ الشعريّ الذي يصنعُ الإدهاشَ، والإثارةَ، والابتداعَ، لذلك جعلت هذهِ الذات محاورَ المجموعةِ ثلاثةً هي: ( هبوط إينانا) و( وصايا إينانا) و( حبل إينانا)، كما أنَّها انتهجتْ تشكيلَ الوحدةِ الإيقاعيَّةِ المدوَّرةِ معياراً موسيقيَّاً لمعظمِ قصائدِ هذه المجموعةِ باستثناءِ سبعِ قصائدَ نُظمتْ على أُسلوبِ شعر الشطرين هي: ( قناعة) و(أخافُ على الليالي من سهادي) و(تبدَّلتِ الرياح) و(غزل أبيض) و( رباعيَّة) و(فتوى) و(قنوط.)

لغةُ السماوي لغةُ تجديدٍ وخلقٍ ... ومع كونها شفَّافـةً، فهي تـتمتَّعُ بقوَّةٍ إيحائـيَّةٍ مبتكرةٍ، وهو بارعٌ في عجنِها بالموسيقى عجناً، سواءٌ أكانَ الإيقاعُ في شعرِ الشطرينِ، أم في التفعيليِّ، وهو أقدرُ شاعرٍ عربيٍّ يُثيرُ في متلقيه نشوةَ الانفعالِ الإيقاعي في قصيدةِ التفعيلةِ المدوَّرةِ، فلا يجدُ (المتلقِّي) غيرَ الانصياعِ إلى قرارِها( القصيدة ) في الإمساكِ بتلابيبهِ (المتلقِّي) رغبةً منها في جعلهِ يشاركها متعةَ الترنّحِ مع أنغامِها التي تُسكِّنُ أوجاعَهُ بعضَ الوقتِ.

معدودونَ أولئك الذين كتبوا قصيدةَ التفعيلةِ المدوَّرةِ القمينةِ بالإشادةِ، والإعجابِ، لكنَّ أبرزهم (كما نظنُّ) هم: حسب الشيخ جعفر، وسامي مهدي، وعبد الرزاق عبد الواحد (1930-2015)، ويوسف الصائغ (1933- 2006) ونزار قباني (1923-1998.)

لكنَّ أُسلوبيّ قبّاني، والسماوي يكادان أنْ يتشابها من حيثُ التدفّقُ في تركيب النسيجِ، وفي انسيابيّةِ الجريانِ الإيقاعي وفيضه . ولعلَّ مجموعةَ نزار قبّاني الأخيرة ( أبجديَّة الياسمين) الصادرةَ في العام 2008م ( بعد رحيله إلى الرفيق الأعلى) خيرُ دليلٍ لمن يريدُ أن يوازنَ بين الأسلوبين.

77 samawi600

حين تقرأُ قصائدَ السماوي التفعيلـيَّةَ المدوَّرةَ بعينينِ لمَّاحتينِ عزيزي القارئ الجاد، فإنَّ حاسَّةَ ذوقِكَ ستبادرُ هي الأخرى لتشاركَـهما التـلذَّذَ بارتشافِ خمرةِ الانتشاءِ، فنسيجُهُ مختلفٌ في بنيَتِهِ اللغويَّةِ والإيقاعيَّة، وصورُهُ مبتكرةٌ موحيةٌ غريبةٌ، وعندما تـتلبَّسُكَ فلسفةُ نصِّهِ، فإنَّ كيانكَ سيتمايلُ طرباً تلقائـيَّاً، لأنَّ رهافةَ إحساسِ الشاعرِ تمكَّنتْ من نقلِ تلك الأحاسيسَ إليكَ، وعندَها تشعرُ أنَّ عاطفةَ النصِّ قد تمكَّنتْ من تأجيجِ عاطفـتِكَ، وإثارتِها، وهذا ما يسعى إليهِ الفنُّ، ويريدُ الوصولَ إليهِ.

ويبدو أنَّ نباهةَ الشاعرِ لما في الموسيقى من أثرٍ عظيمٍ على المتلقيّ، ولما للخيالِ من قـوَّةٍ سحريَّةٍ عليهِ، ولما للعاطفةِ من حاجةٍ نفسيَّةٍ على وجدانِهِ، هي التي مكَّـنتْهُ (مجتمعةً) من أنْ يخلقَ نصوصاً تـتَّسقُ بالمتعةِ الجماليَّةِ التي تحقِّـقُ نفعاً وخيراً للقارئ الذكيِّ الجادِّ، كما في هذا النصِّ المتدفِّـقِ باللغةِ الموحيةِ، والصورِ الغريبةِ، والموسيقى المسكِّنةِ للأوجاعِ، والوجدانِ المملوءِ بالانفعالات:

قـبـلَ الـنـداءِ إلـى صَـلاةِ الـفـجـرِ

فَـزَّ الـقـلـبُ ..

صـوتٌ كـالأذانِ أتـى ..

أصَـخـتُ الـنـبـضَ ..

مَـنْ ؟

 

//

فـأجـابـنـي صـمـتـي

هــو الــمَــطــرُ الـوبــيــلْ

//

فـانـثـرْ بـذورَكَ

آنَ لـلـصـحـراءِ أنْ تـتـفـيَّـاَ

الأيْـكَ الـظـلـيـلْ

//

وتـفـيـضَ غـدرانٌ بـأعـذبِ

سـلـسـبـيـلْ

//

ألـقـى عـلـيَّ

تـحـيَّـةّ الـعـشـقِ الـخـرافـةِ هـدهـدُ الـبـشـرى

وقـالَ

//

 

يُـخـصُّـكَ الـزمـنُ الـجـديـدُ

بـجـنَّـةٍ

مـن فـوقِـهـا تـجـري مـن الأفـراحِ أقـمـارٌ

ويـجـري تـحـتـهـا

نـهـرٌ مـن الـقُـبُـلاتِ والأزهـارِ والأطـيـارِ

والـشـجَـرِ الـبَـتـيـلْ

//

فـاحْـزمْ فـؤادَكَ

واخْـلـعِ الأمـسَ الـمُـقـرَّحَ مـن كـتـابِ الـيـومِ

وادخـلْ آمِـنـاً غـدَكَ

الـجـمـيـلْ

//

***

السماوي واحدٌ من أبرزِ الشعراءِ المعاصرينَ الذينَ هضموا التراثَ الشعريَّ العربيَّ، وأفادوا من حالاتِ الإشراقِ فيه، إلى جانبِ أنَّ دائرةَ اكتسابهِ الثقافي، والمعرفيِّ واسعةٌ متجدِّدة، وأنَّ أصالةَ تجربتِهِ الشعريَّةِ تومئُ إلى ذلك الاكتسابِ، وتستحضرُهُ عند كلِّ عمليَّـةٍ ذكيَّةٍ في التلقِّي، أمّـا ذائقتُـهُ الموسيقيَّةُ فهي من العُلوِّ بحيث لا يتربَّعُ معه على قمَّتِها غيرُ القليل. وربَّما كانت هذه الأدواتُ قد جعلتْ منجزاتهِ الجماليَّـةَ تردُ خلالَ عفويَّةِ الذاتِ الشاعرةِ وهي تفصحُ عمَّا في أعماقِها من بوحٍ .

لكنَّ أبرزَ تلك المنجزاتِ أو التقنياتِ الفنيَّـة التي قدَّمتها قصائدُهُ في هذه المجموعة (كما نزعمُ) قد تمثّلتْ في الآتي:

1 – تقنيةُ القصَّةِ الشعريَّةِ، وأوضحُ مثالٍ لها: قصيدة ( هبوط إينانا ) وبعض مقاطعِ قصيدة ( حبل إينانا.)

2 – تقنيةُ السردِ الموصَّفِ، وأبرزُ ملحظ لها في قصيدة ( وئام ) وبعضِ مقاطع (حبل إينانا) و( وأزف الوداع) و( والأمس واليوم) وغيرها.

3 – تقنيةُ المحاورةِ، وأبرزُ قصائدها: ( وصايا إينانا) و( تضرع في محرابها) وغيرهما.

4 – تقنيةُ المدركِ الفلسفي، وأبرزُ قصائدها: ( خلاصة الحياة) و(ومضة) و( مخاض.)

5 – تقنية المناجاة ( المونولوج الدرامي) وقد تمثَّلت في قصيدة ( أُلفة )، وبعضِ مقاطع قصائد أخرى، وهذه المنجزاتُ الجماليَّـةُ لم تكن منعزلةً بعضها عن بعضٍ، إنَّما يمكنُ تلمّسُ أكثرِ من تقنيةٍ فنيَّةٍ في القصيدة الواحدةِ .

***

معظم قصائدِ هذه المجموعة لا تحتملُ التأويلَ، أي لا تحتملُ أيَّ شرحٍ أو تفسير، أو تحليل، وينبغي إبقاؤها بعيدةً عن أقلامِ من يخدشُها، أو يزري بها من أولئكَ الذين أُصيبوا باستسهالِ الكتابةِ، واسترسالِ الكلامِ غير المترابطِ الذي يستهـينُ بذائقةِ القارئ الحصيفِ، وبالضوابطِ المنهجيَّةِ للنقد، باستثناء ما كانَ لصيقاً بتـشكُّلاتِها الإيقاعيَّةِ، لوقوعِها ضمن دائرةِ البناءِ الموسيقي للكونِ كما يقولُ فيثاغورس، وإن تقبَّلتِ التقسيمَ باعتبارهِ معياراً ينبغي تأشيرهُ بوصفهِ حُكْـماً توصَّلَ إليهِ النقدُ معاينةً، والناقدُ اشتغالاً ¹.

ومثلُ هكذا نصوص تُعيدُ للشعرِ مكانتهُ التي فقدها، وتبعدُهُ عن دائرةِ الفجاجةِ التي اكتنفـتْهُ بسببِ كثرةِ المدَّعينَ (ممَّن هبَّ ودبَّ) بحملِ صفتهِ، لاسيَّما الذين دبَّجوا عشراتِ المجاميعِ، وادَّعوا الشاعريَّةَ جزافاً، وهم لا يفعلون غيرَ رصفِ ألفاظٍ متتابعةٍ على نحوٍ متقطِّعٍ للجملة الواحدةِ هكذا:

أنا

وحبيبتي

جلسنا

تحتَ

ضوءِ القمرِ

وشربنا

كؤوسَ المحبَّةِ

حتى ثملنا

إلى جانبِ أنَّ بعضهم ممَّن لا يعرفُ هدفَ الشعر، ودورَهُ في الحياةِ يفتعلُ الإبهامَ المستغلقَ في كتابتهِ النثريّة، ليجعلَ من خفاءِ المعنى دريئةً يحمي بهاِ عجزَهُ عن الوصولِ إلى شعريَّةِ النصِّ كما في المثالِ المستغلقِ الآتي غير المفهوم إطلاقاً:

لا تنتحبْ

أيُّها الضبابُ المرتعش

على كتفِ الهواءِ المحاصرِ بالنهبْ

واسندْ

تأتأةَ الندى خدَّاً

على وسادةِ النشيد

المحتفي

بالذاكرة.

***

وعلى وفقِ ما تقدّمَ نقولُ ونحنُ على اطمئنانٍ تامٍّ: من يُريدُ أنْ يتعلَّمَ كتابةَ شعرِ الأعالي المغايرِ للسائدِ في أُسلوبيهِ: التفعيليِّ المدوَّرِ، والشطرينِ الجديدِ، وكيفيَّـة صناعةِ الأخيلةِ المبتكرةِ داخلَ النصِّ، وإظهار وجدانِ الذاتِ الشاعرةِ، وحالاتِها النفسيَّةِ المتباينةِ، وما تعلَّقَ بعمليّةِ بنيةِ النسيجِ الإبداعي، واختيار إيقاعاتِها المناسبةِ، ومعرفةَ صلةِ الفقرةِ بالفقرةِ لتكوينِ البناءِ العام...وغيرها من أدواتِ الشاعرِ الخلاَّقِ أن يحملَ هذهِ المجموعةَ معه في حلِّهِ وترحالهِ، ويديمَ النظرَ في تشكّلاتِها السحريَّةِ الغريبةِ، لأنَّها أخيلةٌ مبتكرةٌ لا يقدرُ عليها غيرُ الفنَّانِ المبدعِ . والسماوي هو الشاخصُ الأميزُ الذي يعجنُ اللغةَ بالموسيقى عجناً بين هؤلاءِ الشاخصين القلَّةِ.

 

تقديم:عبد الرضــا عليّ

....................

(1) يُنظر كتابنا (رؤى نقديَّة في الشعر وما حوله) 9، ط1، منشورات دار ضفاف، بغداد – الدوحة، 2013م.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم