صحيفة المثقف

نمط التفاوض الايراني وسياساتها المدمرة

محمد العباسيهل نتعلم الدرس ولو بعد حين؟ لقد ماطلت الجمهورية الإيرانية لسنوات عديدة، بين "كر وفر"، وتأجيل وتردد، والتلميح بالتقدم خطوة للأمام والتراجع خطوتين للوراء، حتى ملت الأمم من مناوراتها بشأن برنامجها النووي "البعبع المزعوم".. ثم نالت مرادها بعد طول صبر و"تضحيات".. ولا أظنها تنازلت عن أي شيء ذو أهمية مقابل فك الحصار عنها رغم عناء الشعب الفارسي من طول الحصار.. وتم استرجاع ملايينها المجمدة لدى البنوك منذ أوائل الثمانينات من القرن الماضي.. ملايينها التي تضاعفت وتكدست في البنوك بفضل الأرباح البنكية طوال تلك المدة.. لتنال الأجندة التوسعية جائزتها الكبرى.. وترسم لنفسها وكل من يتبعها خط سير وخارطة طريق للمناوشات والمناورات التكتيكية في عمليات المفاوضات للخروج من أزماتها السياسية مع العالم! ربما هذه الأيام رجعت إيران تعاني مع سياسات "ترامب"، لكن لعبتها التفاوضية لن تتوقف.. وستعود، وهكذا قد بدأت ثانية بالمناوشات والتهديدات وجس النبض مع الأوروبيين، لتدور بالعالم من جديد في فلك المناورات والدهاليز السياسية، والمهاترات السقيمة، والمفاوضات العقيمة!!

إنها فلسفة التلاعب بالوقت.. إضاعة الوقت.. حتى تصبح كل المسائل عائمة في الوقت الضائع.. ثم وقبل كل اجتماع مقبل قد تخشى إيران أن يكون العالم قد فقد صبره، يخرج علينا أحدهم ليعلن شيئاً يبدو في نبرته بعض التنازل، كما يفعل "ظريف" هذه الأيام.. فتتغير نبرات الأمم من حولها أملاً في الحل السلمي.. ثم يخرج علينا شخص آخر من النظام ليشكك في أقوال الأول.. لجس النبض العام.. وأخيراً يأتينا من ينكر كل ما قيل، ليدخل العالم في متاهات بين كل ما قيل ويقال وتحليل الأقوال، وربما حتى الدخول في تحليلات وتنبؤات هوجاء بأن النظام يعاني من أزمات داخلية وخلافات وصراعات، لذا لا بد من الصبر قليلاً حتى تتضح الأمور!!

وها هو النظام السوري من جهة والحوثيون من جهة أخرى، يمارسان ذات التكتيكات الفارسية والدخول في نفس المتاهات في كل حواراتها المعنية بترسيخ السلم وحل الأزمتين السورية واليمنية.. تتقدمان شكلياً خطوة واحدة.. ثم تعلقان تلك الخطوة بالتراجع عدة خطوات.. وفي ذات الوقت لا تلتزمان بأي من الاتفاقات الموقعة بشأن الهدنات وتستمران في القصف والقتل والخطف.. لتدفعا بالأطراف الأخرى نحو اليأس والانسحاب من المفاوضات.. انه نفس الإسلوب وذات الفلسفة الإيرانية، التي تمنح الجهات الدولية المعنية بعض الأمل الزائف لتأجيل قيامها بتطبيق أي عقاب للنظام تحت بنود قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن وإن كانت تحت البند السابع! وكلما وجد النظام السوري مثلاً أن هلوسته السياسية ناجحة في "لخبطة" الأوراق، يتمادى أكثر ويستمر بالقصف وإخراج كل ما بجعبته من الأسلحة المحرمة ضد شعبه.. والأمم تتفرج وتنتظر أن يعود هذا النظام عن "اللامنطق" الذي يدفعه لقتل شعبه من اجل عيون "رجل واحد أوحد"!!

كذلك هو الوضع مع الأزمة اليمنية مع الحوثيين الانقلابيين، وهم بالأساس من الطائفة الزيدية التي باتت تتطاول على علماء الزيدية، بدأً على يد السيد "حسين بن بدرالدين الحوثي" بعد تتلمذه في "قم" وتحوله إلى "الإثني عشرية" الموالية للولي الفقيه في إيران .. فبرغم الحروب التي شنها ضدهم المخدوع "علي عبدالله صالح" لسنوات عدة، بات بعدها من منطلق المصالح داعماً لانقلابهم على السلطة الشرعية وصار يمدهم بالجنود والسلاح، حتى انقلبوا عليه واغتالوه.. وباتت الحركة تمارس اليوم نفس سيناريو التفاوض "الإيراني" الممل والمتكرر بذات الصياغ ونفس الأسلوب المماطل.. وكل يوم يمضي يدفع ثمنه العشرات من المواطنين الأبرياء ولا من مجيب. أنها الفلسفة الفارسية الطائفية التي عبر التاريخ وهي تؤدي إلى القضاء على الآمال وتنقلنا من أزمة تلو أزمة لمزيد من الدمار والخراب.. إضاعة للوقت مع الاستمرار في القتل والتدمير.. مع العمل على التلميح بالرضوخ للضغوط الدولية.. ثم الإيحاء بوجود خلافات داخلية، بينما إيران تستمر بمدهم بالسلاح وعبر كل المنافذ المتوفرة.. وإن كانت في اليمن عبر تنظيم القاعدة في "حضرموت"! ولا ننسى بأن قادة القاعدة يعيشون في كنف وحماية إيران حتى يومنا هذا!!

و ها هو العراق اليوم، مثال آخر للتخبط وتكرار المجازر التي ما انفكت منذ القضاء على الدولة العباسية على يد "هولاكو".. والتاريخ يشهد للدور الطائفي في إضعاف حكم آخر العباسيين (المستعصم بالله) على يد وزيره الخائن "ابن العلقمي" وتمهيده للسقوط والانقراض! عراق اليوم ضحية للتخاذل الدولي عنه بعد التدخل الأمريكي السافر عليه بدون وجه حق، وبذرائع كاذبة ومعلومات مخابراتية ملفقة.. ومن ثم تقديمه لقمة سائغة لـ "المالكي" و"الجلبي" وسواهم من المرتزقة العراقيين (الفارسيين الهوى والمذهب) ممن باعوا ضمائرهم بعد أن هيئتهم ودفعت بهم إيران لتدمير وطنهم وسرقة مدخراته والقضاء على عروبته.

منذ أيام ليست ببعيدة شعرت الدولة الفارسية ببعض الاهتمام بضحايا المناطق السنية في "الأنبار"، فحشدت حشودها الطائفية لضرب عصفورين بحجر.. طرد الدواعش ثم إخلاء تلك المناطق من سكانها، بالترهيب والتهديد وعبر بث صور للتمثيل بجثث بعض المواطنين هناك.. ثم جاء دور "الفلوجة" وقضية حصارها الجائر بين نارين، الدواعش من ناحية والحشود العراقية من ناحية.. فلما شعرت ببعض الالتفات الدولي نحوهم أثار أتباع إيران من قادة الحشود والعصابات والأحزاب الأخرى أزمة سياسية وبرلمانية لتشغل العراقيين والعالم عن متابعة أخبار أهالي "الفلوجة" الجياع.. ذات السياسة والفلسفة الفارسية في إضاعة الجهود والوقت والدوران في حلقات مفرغة بينما أهل العراق يموتون جوعاً وقتلاً بين المطرقة والسندان!!

وها هم الفرس تارة أخرى، يتلاعبون بالمصير اللبناني عبر أداتهم الغليظة المتوشحة بعباءة الدين تحت اسم "حزب الله".. وتاريخ هؤلاء المحسوبين علينا رجال دين يكشف لنا كم هم متورطون في مجازر واغتيالات وعمليات خطف طائرات.. بل وعمليات غسيل أموال والتجارة في المخدرات من "ليتوانيا" مروراً بأوروبا حتى "غواتيمالا".. أما في الداخل اللبناني فذلك حديث آخر.. فموقع "نيوزماكس" الأمريكي نشر منذ سنتين تصريحاً مفاده أن هنالك إثباتات على أن اغتيال الرئيس "رفيق الحريري" تم على يد القوى الإيرانية وحزب الله بقيادة "حسن نصر الله" و"عماد مغنية".. وأضاف الخبر حينها بأن المحكمة الدولية ستوجه اصبع الاتهام إلى المرشد الأعلى للثورة الإيرانية "علي خامينئي" شخصياً على أنه يقف وراء اغتيال "رفيق الحريري" حيث أن الأوامر لتنفيذ عملية الاغتيال حولت من إيران إلى "عماد مغنية" من حزب الله الذي أُعّد بالتعاون مع مساعد له طاقماً لتنفيذ عملية الاغتيال في قلب بيروت.. من أجل تمكين "حزب الله" من السيطرة على لبنان.. وكان لهم ذلك!

الوضع السياسي في لبنان يعيش مأساة حقيقية.. فتنة طائفية تمزق لبنان الذي يعيش منذ زمن بلا رئيس قوي ولا ثقل ولا حكومة ذات صوت مسموع.. الكل خائف من العودة إلى مربع الحرب الأهلية بسبب مواقف "حزب الله" من الأزمة السورية من جهة، وتطاولها ضد "دول مجلس التعاون الخليجي" بالذات بعد أن "تجرأت" دول الخليج على تصنيف "حزب الله" كجماعة إرهابية.. والحكومة اللبنانية "المهزوزة" تحاول قدر الإمكان إنقاذ جبهتها الداخلية من ردود الأفعال والتطورات الغير محسوبة من قبل "حزب الله" وفريقه.. في حين يدرك الجميع بأن الحزب يستخدم الحوار ومشاركته في الحكومة الهشة كغطاء لكل ما يقوم به من جرائم وإرهاب!

يبدو جلياً لكل عاقل بأن لإيران أنياب في لبنان تعمل على خلع عروبة لبنان والزج به تحت العباءة الفارسية رغماً عنه.. عملية فصل للبنان عن واقعه العربي للربط بين طرفي الهلال "الشيعي" الموالي لولاية الفقيه، الممتد على امتداد شمال شبه الجزيرة العربية، من مدينة "قم" مروراُ بالأهواز العربية وبغداد ودمشق حتى بيروت.. والعرب لا يزالون يتكلمون بلغة السياسة الناعمة والأمل أن تعود إيران إلى رشدها والكف عن خططها.. وكيف لدولة تتبع في سياساتها لغة الدين وضرورة إتباع الأوامر "الإلاهية" التي تنزل على الولي الفقيه الذي لا تجوز مخالفته ولا الشك في أقواله المعصومة، كيف لمثل هذه الدولة أن تتبع أي منطق غير منطق ولائها التام لولاتها؟ إن أكثر ساستها علماً وعقلاً ومنطقاً لن يجرؤا للحظة على مخالفة أمراً واحداً من أقوال سادتهم المعممين الذين أضفوا على أنفسهم صفات الألوهية والنبوة والعصمة من الأخطاء!!

ألا ترى إيران أن كسب ود جيرانها العرب سيأتي عليها بخير أضعاف ما قد تعتقد عبر محاولاتها الإرهابية تجاههم؟ ألم تتعلم إيران من كل تاريخها بأن للسلام مكاسب أعظم من كل الخلافات والحروب؟ ألم يعد للمنطق السليم موقع في قاموس الفرس تجاه سياساتها "المغرورة" في حين أن أغلب الشعب الإيراني يعيش دون أدنى الحقوق المدنية؟ ربما قالها السياسي النيابي اللبناني "أحمد فتفت" في سطر ما يمكن وصف "حزب الله" ومن خلفها الحكومة الفارسية وكل من يتبع خطاهما الغوغائية: "إن من يمارس إرهاباً سيُصنف إرهابياً".

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم