صحيفة المثقف

البلهاء وصحن الدبس

بكر السباتينتساءل أحد الأصدقاء ويدعى عبد العزيز البقال، بجلافة واستخفاف:

هل تذكرتم معي ذلك الولد التافه الفاشل "صحن الدبس" .. دعوني أتذكر اسمه.. نعم عماد!

فصمتنا وكأن على رؤوسنا الطير، وعربدت الأسئلة في الرؤوس، وتساءلت في سري بأنه ما دام الحديث سيكون عن عماد! فهذا يعني بأن صاحبنا سيأخذنا إلى قصة طريفة عن بهلوان أو زعيم عصابة فاشل! فالمكتوب يظهر من عنوانه.

وكان عبد العزيز أثناء ذلك يقلب عينيه الغائرتين بالحسرة، كأن ما يجمعه بعماد ثأر دفين أخذت تتكشف أنيابه.

في الحقيقة ابتلعت الدهشة ألسنتنا.. وبعد إلحاح، شرع صاحبنا في الحديث وهو يزدرد غصة كادت تخنقه.. هذا ما بدا من صوته المتحشرج، كأنه مدنف يصارع الموت، أو عرافة تستنطق صدفات الحظ حتى أوشكت على التحطم بين أناملها المتشنجة، قال عبد العزيز:

ذهبت ابنتي للمقابلة في إحدى الشركات المعروفة، وفوجئت لسوء الحظ بأن قائمة المتقدمين تتجاوز المائة، فغشي اليأس قلبها إلى أن حوصرت نتيجة الخيار في ثلاثةِ كانت ابنتي على رأسهم، فتنفست الصعداء.. وكالعادة وجدت الحل فتمتمت في سرها قائلة بأن الحل يكمن في الواسطة.. فنحن في زمنها. وحينها عرضت الأمر عليّ، فطلبت منها معرفة اسم صاحب الشركة بالكامل حتى نحرك الواسطة تجاهه.. لذلك دخلت ابنتي بحماس إلى موقع الشركة الإلكتروني وانشغلت بالبحث حتى وجدت البيانات الخاصة به، وقالت بصوت رتيب:

هذا هو اسمه وصورته أيضاً، بوسعك التمعن في شخصيته. وفجأة! وأنا أتمتم باسمه "عماد خضر الدبس".. انطلقت من أعماقي ضحكة مجلجلة كادت تخرج معها أحشائي، حتى أثار ذلك احتجاج ابنتي التي تساءلت بصوت عالي:

"هذا ليس وقته يا أبتي، إن عرفت طريقاً إليه فتحرك بسرعة.. إجْرِ اتصالاتك على الفور، فلا وقت أمامنا، هذا الرجل ظاهرة اقتصادية، والوصول إلى مكتبه من الصعب بمكان، حتى ليهيأ لك بأنك في حضرة وزير.. كيف لا ومشاريعه الإنشائية تغطي دول الخليج العربي، وها هو قد بدأ ينتشر في عمان! كثر الله من أمثاله".

أخذ عبد العزيز يضرب كفاً بكف مكملاً حديثه المتشنج:

فقلت لها دون تفكير بأن هذا الرجل عرفته ذات يوم تافهاً فاشلاً أيام دراستنا الإعدادية، وكنا ننعته بصحن الدبس، لذلك فهو في نظري مجرد رجل نكرة أنيق المظهر، ربما آلت إليه ثروته من مصادر مشبوهة فهذا ليس مستبعداً عن أمثاله ومن المؤكد أنكم ستوافقونني الرأي.. تتذكرون "صحن الدبس". قالها ضاحكاً حتى انتبه إلينا بعض الزبائن في المقهى، ثم أكمل حديثه الممل بقلب تعتصره الخيبة:

فقد تشاركنا جميعاً العبث بكرامته ونحن أشقياء صغار..

كان ذلك بالطبع من باب المداعبة!..

آخ من الزمن الذي سيرغمني على التعامل مع رجل كان في صغره يتسوّل منا ما يسد الرمق كي لا يجوع!

(ابن...!)..يا للخيبة..

فها أنا قد تحولت إلى رجل تتلاطم به الظروف القاسية حتى أقعدني المرض وبت غارقاً في الديون كما ترون! أما هو فمراكبه تعود بالخير الوفير! هذا ظلم لا استحقة!

اللهم لا حسد.. استغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم.. أرزاق مقسومة على العباد.. وحالي بالطبع لا يعيبني في شيء.. الحمد لله على كل حال.

وكان من بين الجالسين صديقاً دأب على متابعة أخبار عماد، لذلك لم تعجبه افتراءات عبد العزيز فانبرى يدافع عن صديقه الغائب بافتخار، بعد أن أخرج مبسم الأرجيلة من فمه الأشرم، ونفخ الدخان الذي انتشر متصاعداً من فوق رأسه الأقرع، وجبهته العريضة التي توحي بالطيبة والتفاؤل:

الظروف التي تتحدثون عنها يا أصدقائي هي التي حولت ذلك الولد الفاشل من متسول كما يصفه صديقنا إلي عبقري خلاق صنع من المستحيل معجزة استثمارية تجاوزت المعقول فيما لو تتبعتم أخباره بموضوعية وإنصاف.. لقد استطاع الدكتور المهندس عماد (كما يجب أن ننعته احتراماً له) البدء من الصفر.. باع العصائر في صغره ليصرف على أسرته حينما كنا نتنعم بمصروف يومي قد يكفي آنذاك أسرة عماد لعدة أيام.. ثم ترك الدراسة التي كان متعثراً فيها لكثرة تغيبه رغم أن المدرسين كانوا يعترفون بذكائه الفطري، ليفتتح صاحبنا مقهًى صغيراً تحت بيت درج إحدى المؤسسات التجارية وسط البلد بعد أن تجاوزنا مرحلة الدراسة الثانوية.. ثم صمم على إكمال دراسته الثانوية بعد أن تحسنت ظروفه.. فالتحق بالجامعة وتخرج منها مهندساً معمارياً بدرجة امتياز، وانخرط بعد ذلك في سوق العمل ثم تمكن من الحصول على درجة الدكتوراة في الهندسة.. هذا نجاح انتزعه من أشداق الزمن المر.. ليستغل صاحبنا رصيده المالي المتنامي في تأسيس شركة لتنفيذ المشاريع الصغيرة اسماها " الدبس للمقاولات" فإذ بذلك الفاشل في نظرك يتحول إلا اخطبوط تتحكم به أخلاقه الحميدة بشهادة كل من تعامل معه في السوق.

ثم ربت صاحبنا على كتف عبد العزيز، وأكمل حديثه ناصحاً:

يا صديقي.. اذهب إليه فقد حظيت بمقابلته قبل أشهر، وأعطاني حينها من وقته الكثير وساعدني في حل مشاكلي الصغيرة، وأذكر بأنني ذبت يومها خجلاً كشمعة خجلى، إذْ ذكرني صاحبنا من باب التفكه بذكرياتي معه حينما كنت ادلق كوب الشاي برعونة وتشاقي كلما مر من أمامي كي أهزئه أمام الأصدقاء.. فعل ذلك بطريقته المرحة منوهاً وابتسامته تروي حديقة وجهه الياسميني:

"أنتم صنعتم نجاحاتي فلولاكم لتحولت إلى فاشل لا يحسن إلا التصغير من شأن الآخرين".

وكأن الرسالة وصلت صديقنا عبد العزيز صاحب الحاجة إليه.. ولم ينتظر حينئذْ ليفاتح صديقنا مستجدياً منه خدمة:

"فقط مهد لي الطريق واترك الباقي عليّ.. لا بد من الظفر بهذه الوظيفة لابنتي.. فأنت تدرك مبلغ ما أعانيه من ظروف سيئة".

وعلقت في سري:

" فعلاً أنتم فاشلون لا تحسنون إلا اتهام الناجحين بالفساد واللصوصية وتلفيق ماضِ لهم لمجرد أنهم تفوقوا عليكم وعروكم أمام أنفسكم.

حقاً أنتم بلهاء!! أفحمتهم يا صحن الدبس.. سيغرفون بألسنتهم من حلاوتك علهم يشكرون".

وضحكت في سري، ثم آثرت تحويل الحديث إلى شأن آخر.

***

قصة تحفيزية..

بقلم بكر السباتين..

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم