صحيفة المثقف

الرد الحازم وفلم "يافا أم الغريب"

بكر السباتينللمخرج الفلسطيني رائد دزدار الحاصل على النخلة الذهبية...

تم مؤخراً عرض الفلم الفلسطيني الوثائقي الحاصل على السنبلة الذهبية في مهرجان القدس الدولي، "يافا أم الغريب" للمخرج الفلسطيني رائد دزدار في سينما الريمبو بجبل عمان حضره جمهور غفير من المثقفين والمهتمين..

ويتناول الفلم المظاهر الحضارية المتفردة لمدينة يافا المحتلة ما قبل عام 1948في إطار ذاكرة فلسطينية حية لا تبور.. وأعقب العرض حوار تفاعلي مفتوح مع الجمهور الذي أبدى تفاعله الإيجابي مع تفاصيل الوجع الفلسطيني من خلال أسئلة حميمة وعاطفة جياشة.. قدم للفلم وأدار الحوار الكاتب بكر السباتين، حيث أجاب مخرج الفلم دزدار على الأسئلة التي عكست مدى تفاعل الحضور مع تفاصيل الذاكرة الفلسطينية التي أحياها المخرج بصرياً وفق رؤية تاريخية إعلامية لتزهر الدهشة في عقول الأجيال الفلسطينية المتعاقبة، فغاص الجمهور بكل ما لديه من وعي، في تفاصيل مدينة يافا "أم الغريب" لمدة ساعة وربع دون كلل أو ملل، فقد نال هذا الفلم التوثيقي والمرجعي من حصاد الرضى ما جعل البعض يطالب بجزء تكميلي له..

وتكمن أهمية فلم "يافا أم الغريب" في أنه جاء تحديداً ليكذب الدعاية الصهيونية المتمركزة في سياقها التضليلي على فكرة أن الصهاينة دخلوا فلسطين فوجدوها أرضاً يباباً دون شعب، يعيش على يباس عشبها البدو الرحل، ليثبت هذا الفلم الرائع بأن فلسطين كانت ذات حضارة بهية ومزدهرة في كل المجالات الثقافية والاجتماعية والسياسية والصناعية والاقتصادية، فاعتبرت درة شرق المتوسط.

وكانت يافا كما صورها الفلم تتفوق أو تضاهي في رقيها بعض المدن الأوربية التي قدم منها اليهود الصهاينة، ليقيموا دولتهم على أنقاض فلسطين بعد تشريد أهلها الذين قاوموا المحتل بإمكانياتهم البسيطة بعدما منعوا من امتلاك حتى السكاكين.. فالفلم جاء ليفحم الرواية الصهيونية الكاذبة القائمة على الأساطير اليهودية والدعاية الصهيونية المضللة. صحيح أن الاحتلال طمس معالم المدن الفلسطينية المحتلة؛ لكن تفاصيلها أبت أن تغادر ذاكرة الأجيال المتعاقبة من اللاجئين الفلسطينيين حتى وهم في المنافي لأنها لا تبور.

والمخرج الفلسطيني رائد دزدار يقيم في القدس المحتلة وهو متخصص بالتراث الشعبي الفلسطيني الشفوي وخاصة ما قبل عام 1948.

وذكر لي المخرج رائد دزدار على هامش العرض كيف أنه اختيار يافا لعدة أسباب موضوعية، أهمها:

أن يافا كانت بوابة فلسطين إلى العالم، فيقصدها الحجاج كي يرتحلوا بواسطة القطارات إلى القدس وبيت لحم في حركة دؤوبة لا تنتهي.. أما السفن التجارية فتحمل في جوفها صناديق البرتقال اليافي كما جاء في هذا الفلم الرائع؛ ليباع في الأسواق العالمية حتى تحول اسم يافا إلى ماركة تجارية يعرفها العالم، وتبشر الأسواق بنكهة يافا وأريج برتقالها.. واليوم باتت ماركة (يافا) تذكرهم بتفاصيل نكبة فلسطين.

يافا أيضاً بلد السلم الاجتماعي والديني والانفتاح على الآخر، حيث شهدت المدينة نهضة تنموية شاملة (ثقافية وصناعية واقتصادية) لا مثيل لها آنذاك على نطاق عربي وبأيدي أبناء المدينة وعقولهم المنفتحة على تجارب العالم المتنوعة، حتى أنها استقطبت الأيدي العاملة العربية من المحيط إلى الخليج دون استثناء، فأطلق عليها اسم أم الغريب.. فيافا باتت تمثل القضية الفلسطينية بكل أبعادها، كونها كذّبت الرواية الصهيونية التي ادعت بأن فلسطين كانت أرضاً يباباً، يقطنها البدو الرحل؛ لتقلب الذاكرة الفلسطينية الموثقة على رؤوسهم الطاولة، فيافا هي فلسطين بكل تفاصيل الوجع الفلسطيني، حتى أن فتيل ثورة عام 1932 اشتعل بداية في ميدان الساعة بيافا انطلاقاً من مسجد المحمودية الكبير، لذلك قامت العصابات الصهيونية بالتواطؤ من حكومة الانتداب البريطاني بارتكاب المجازر في أرجاء المدينة كما حصل في عموم فلسطين، بعد مقاومة يائسة حيث تم تجميع من تبقى من أهل يافا الصابرين على الضيم وحشرهم في حي العجمي لدفعهم إلى الرحيل ولكن دون جدوى.

وقد اختار المخرج رائد دزدار اللغة البصرية لنقل الحقيقة إلى العالم دون رتوش..

لقد أبدع المخرج في التنقل بين المادة التوثيقة التي قدّم فيها للمحتوى؛ لتعزز الروايات الشفوية حتى يثق المشاهد بالمضمون.. من أجل أن يغوص بعدسته في ذاكرة يافا العميقة اعتماداً على الرواية الشفوية لشخصيات يافيّة عاصرت تفاصل النكبة وشهدت مظاهر يافا المزدهرة قبل عام 1948.. وقد عزّزها بوثائق إثباتية حصل عليها من عدة مصادر أهمها مكتبة الكونغريس؛ لتخرج الرواية الشفوية والوثيقة في سياق لقطة بصرية توثيقية مشتركة وأكثر فاعلية، بحيث يُحْتَرَمُ من خلالها عقلُ المشاهد فيحقق الفلم أهدافه.

تناول فلم "يافا أم الغريب" عدة محاور جاءت على النحو التالي:

- المحور التاريخي من خلال المقدمة التوثيقية

- المحور الاجتماعي فأظهر مدى التواؤم الاجتماعي بين الناس، حيث تتعانق المساجد مع الكنائس في ظاهرة مألوفة شهدتها فلسطين عبر تاريخها الطويل.. ناهيك عن التنوع الثقافي من حيث المأكل والمشرب واللباس بطابعيه الشرقي والغربي، وانتشار المقاهي والنوادي الليلية والشواطئ المنفتحة دون قيود في اللباس، ثم المُكَوِّنُ الفسيفسائي لسكان يافا ما بين السكان الأصليين والعرب الوافدين للعمل والإقامة في المدينة كما يحدث اليوم في المدن الأوربية، لذلك سميت "أم الغريب"..

- المحور الاقتصادي والسياحي، فكانت يافا مركزاً صناعياً وسياحياً بارزاً في فلسطين، من خلال ممارسة السياحة الدينية حيث نشطت وسائط النقل البرية والبحرية، لنقل السياح والحجاج إلى مدينتي القدس وبيت لحم، ناهيك عن وجود كنيسة القديس بطرس في جبل القلعة ومقام القديس سمعان بجوار المنارة القديمة بيافا.. كذلك اشتهرت يافا بتصدير برتقالها المتفرد إلى دول العالم كما ذكرنا آنفاً، كذلك اشتهرت المدينة بالصيد.. ناهيك عمّا شهدته المدينة من نهضة صناعية في قطاعات الصلب والحديد والنسيج وصناعة الباصات (مصنع السروجي) والعطور ومطاحن الحبوب وغيرها.. ثم هناك ميناء يافا الشهير بعنابره الضخمة. ولا يفوتنا أن نذكر بأن يافا كانت تمتلك قاعدة مصرفية متينة من خلال وجود أهم البنوك الفلسطينية مثل: البنك العربي وبنك الأمة وجريلندز وغيرها.. وانتشرت الفنادق في أحياء يافا كما واستثمرت البلدية الرياضة من خلال امتلاكها لملعب البصة الشهير والقريب من شارع جمال باشا الراقي بحدائقه المدهشة.

- المحور الثقافي والاجتماعي والتعليمي: وقد شهدت يافا تطوراً لافتاً في هذا القطاع، بدءاً من النشاط النقابي في المدينة وانتشار عشرات الجمعيات الخيرية التطوعية فيها بالإضافة إلى المدارس العربية أو التابعة للإرساليات المسيحية، والمستشفيات، والصحف الكبرى مثل الدفاع وفلسطين وغيرهما،، وعشرات دور السينما مثل الرشيد ونبيل والشرق ولعل أهمها مسرح وسينما الحمراء التي بنيت بمقاييس عالمية فريدة، وكانت توجد في حي العجمي إذاعة الشرق الأدنى الشهيرة التي زارها كبار النجوم المصريين من أمثال يوسف بيك وهبي ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم ومحمود عباس العقاد وغيرهم. وتجدر الإشارة إلى أن أحد أقطاب إذاعة الشرق الأدنى ورئيس القسم الموسيقى فيها، صبري الشريف، يسجل له الفضل في تطوير الأغنية اللبنانية من خلال تأسيسه لمهرجان بعلبك واكتشافه للأخوين رحباني وإسهامه في تطوير أداء فيروز التقني في الغناء باللغة العربية وضبط مخارج الحروف صوتياً.. وقيامه بعد نكبة فلسطين بنقل إذاعة الشرق الأدنى إلى بيروت.

والمخرج الفلسطيني رائد دزدار صاحب تجربة ثرية في مجال إخراج الأفلام الوثائقية الجادة. حيث قام بإخراج ثلاثة أفلام وثائقية، وهي:

أولاً: فلم "هنا القدس" تحدث فيه دزدار عن التجربة الفلسطينية الإذاعية انطلاقا من إذاعة "هنا القدس" والتي تأسست في 30-3-1936وترافق تأسيسها مع تزايد الغليان الشعبي وانفجار الثورة المسلحة ضد المشروع الصهيوني بكل مراحله. وترأسها الشاعر إبراهيم طوقان الذي رسخ في خطابها الإعلامي البعد التراثي الفلكلوري الفلسطيني، وتطورت الإذاعة في عهد عزمي النشاشيبي.. وأعيد افتتاحها بعد نكبة فلسطين في رام الله ثم استقرت أخيراً في عمان باسم إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية..

ثانياً: فلم "السامريون على خطا موسى".. تناول فيه حياة اليهود السامريين في نابلس كجزء من الشعب الفلسطيني المضطهد.

ثالثاً: فلم "الأخوان لاما" رائدا السينما العربية في فلسطين ومصر. وهما فلسطينيان قدما من تشيلي وأخرجا أول فلم مصري صامت عام 1947 بطولة بدر لاما، وأسهما في تأسيس السينما في مصر.. لا بل أنهما قاما بإنتاج وإخراج أول فلم سينمائي فلسطيني في بيت لحم عام 1936 "الهارب" بطولة بدر لاما وعبد السلام النابلسي وفاطمة رشدي من إخراج إبراهيم لاما ووزع الفلم في عدة مدن عربية وخاصة القاهرة. وتطرق المخرج درزار في هذا الفلم إلى حقيقة أن أهم المنتجين في تاريخ السينما المصرية كانوا من فلسطين بدءاً من الأخوين لاما والأخوين تلحمي وصولاً الخواجة الذي اشترى أصول السينما المصرية، والعريان في السينما المصرية الحديثة.

رابعاً: فلم "يافا أم الغريب" مدار البحث في هذا المقال.

من هنا فإن اختيار المخرج رائد دزدار لتوثيق الذاكرة الفلسطينية البصرية من خلال حديثه عن مظاهر ازدهار يافا، والتركيز على الطابع الحضاري لهذه المدينة التي كانت تمثل درة شرق المتوسط، إنما جاء للرد على الدعاية الصهيونية التي ما زال يرددها الاحتلال في خطابه المتعفن في أنه احتل أرضاً قاحلة تقطنها بعض القبائل البدوية، فوهبها المهاجرون الصهاينة الحياة؛ لذلك ركز الفلم على ازدهار درة شرق المتوسط (يافا) التي حاول الاحتلال طمس بريقها الحضاري فباء بالخيبة والفشل الذريع.

 

بقلم بكر السباتين.

4 يناير 2020

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم