صحيفة المثقف

وباء كورونا.. دهشة الإنسان وعودة الفلسفة

قادة جليدإن الكوارث الطبيعية والأوبئة على مر العصور لم تكن شيئا جديدا في تاريخ البشرية، إذ تحفظ لنا كتب التاريخ أن هناك حضارات وشعوبا لم تعد لها قائمة وأصبحت أثرا بعد عين، وهذا مما جعل هذه الشعوب  في القديم تعتقد بفكرة العود الأبدي والتصور الدائري للتاريخ بحيث أنه يعود من جديد إلى نقطة البدء إذ تقوم الطبيعة بتدمير كل ما أنجزه الإنسان بعقله وجهده .

ولكن مما يثير الإستغراب اليوم والدهشة أكثر من أي عصر مضى هو أن هذا الفايروس اللامرئي فرض قوته وجبروته على أعتى الدول التي تفتخر بتقدمها العلمي والتكنولوجي مثل الولايات المتحدة الأميريكية وأوربا وباقي العالم المتقدم، إنه تحدي جديد لم يعرف له العالم المعاصر مثيلا من قبل، من حيث قوة إنتشاره وفتكه، فهل ستكون الإستجابة على قدر التحدي على حد تعبير مؤرخ الحضارات أرلوند توينبي، وبالتالي ينجو الإنسان والإنسانية من هذه المحنة، أم أن هذا التحدي وهو عامل طبيعي اليوم يكون أكبر من إمكانية الإنسان وطريقة إستجابته المحدودة فتكون الكارثة والنهاية المأساوية للعالم ؟

إن وباء كورونا المستجد وأمام دهشة الإنسان المعاصر والإنسان الغربي تحديدا الذي عجزت مخابره وعلومه على مواجهته قد أزال من الأذهان كل تلك التقسيمات التي فرضتها الرأسمالية المتوحشة والعولمة المادية التي حولت الإنسان من قيمة عليا إلى شيء مثل بقية الأشياء الأخرى وأصبح إنتشاره وتفشيه يطرح أكثر من قضية فلسفية شغلت الفلاسفة خاصة منذ عصر الأنوار وهي معنى الإنسان ووحدة الإنسانية ومصيرها في المستقبل،ألم يعتبر فلاسفة الأنوار أن الإنسان هو مركز الكون وقيمة القيم وأنه أكبر قيمة في الوجود على الإطلاق وأن الإنسان هو مستقبل الإنسان،ألم يكتب الفيلسوف الألماني كانط عن فكرة السلام العالمي وكارل ياسربرس عن مصير الإنسان في ظل التسابق على السلاح النووي، ألم يطرح الفلاسفة فكرة تأسيس دين جديد قائم على المبادئ والقيم الإنسانية الواحدة يكون فيها خلاص الإنسان بعيدا عن التعصب الديني وصراع الثقافات والحضارات، فلماذا تخلى الغرب عن إرثه الفلسفي والإنساني وحاد عن قيم الحداثة والتنوير؟

لقد إبتعد الإنسان الغربي المعاصر عن كل القيم الإنسانية التي بشر بها الفلاسفة والمفكرون والديانات الكبرى، وهاهي الطبيعة من خلال هذا الفايروس تعيد الإنسان إلى رشده وإلى ضرورة التفكير في مساراته الخاطئة المليئة بالشرور والحروب والإستغلال والظلم والمآسي وسفك الدماء في كل مكان من أجل حسابات مادية صرفة قائمة على تصور خاطئ لمعنى الحياة والوجود .

إن وباء كورونا هو إنتقام الطبيعة من هذا الإنسان الذي نصب نفسه إلاها جديدا على هذا العالم باسم القوة والتفوق العلمي والإقتصادي والعسكري في مقابل شعور هذا الإنسان بالدهشة من خلال عجزه وضعفه في مواجهة هذا الوباء المجهول الذي لم يجد له تفسيرا مقنعا أو جوابا علميا شافيا، هذا الوباء الذي يزحف على كل القارات ولا يفرق بين دين أو لغة أو ثقافة أو عرق أو جنس أو دولة متقدمة وأخرى متخلفة، إنه يستهدف النوع الإنساني برمته، أي أصل الإنسان الأول .

لقد أحيا وباء كورونا الكثير من الأسئلة الفلسفية وبشكل حاد ومأساوي، مثل مشكلة الموت وكيفية مواجهتها والإستعداد للإنتقال للعالم الآخر وما يرتبط به من قضايا ميتافيزيقية وعلاقة الإنسان بالآخر سواء داخل المجتمع نفسه أو علاقة مجتمع بمجتمع آخر وطريقة العيش ومعنى السعادة الحقيقية ومفهوم الخير والشر وقضية مصير الإنسانية ككل في غياب دواء أو لقاح لهذا الداء .

إننا نعيش اليوم وبشكل دراماتيكي صورة مصغرة ليوم القيامة أو نهاية العالم، والأكيد أنه بعد زوال هذه الأزمة التي نتمنى أن تزول في أقرب وقت سوف تتغير الكثير من المعايير والمفاهيم التي كانت تحدد نظرتنا إلى أنفسنا وإلى العالم .

 

الدكتور قادة جليد الجزائر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم