صحيفة المثقف

مُذَاكرَةُ العِلم تسبيح

مجدي ابراهيمعندي أن التسبيح بالقلم ذِكر. هو ذكر وأي ذكر. تأمل قوله - صلوات ربي وسلامه عليه - "مذاكرةُ العلم تسبيح"؛ وتأمل قول الله تبارك وتعالى: "أذكروني أذكركم". وفي الحديث عن أم أنس في وصية لرسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - قالت أم أنس لرسول الله، يا رسول الله: أوْصِني، قال: أهجري المعاصي، فإنها أفضل الهجرة. وحافظي على الفرائض، فإنها أفضل الجهاد. وأكثري من ذكر الله؛ فإنك لا تأتين بشيء أحَبَّ إليه من كثرة ذكره". ففي الحديث كما يلاحظ : هجران المعاصي، والحفاظ على الفرائض، وإتيان الذكر الذي هو أحب الأشياء إلى الله: دعائم وجود روحي مؤسس بالدرجة الأولى على الإخلاص.

وثمرة الذكر حقيقةً لا تُقَالُ بكلمات ولا توصف مطلقاً بعبارات ولا يُعبَّر عنها بلفظ خارج من اللسان دون القلب. أقل ثمار الذكر الكثير أنه مصدر الصحة النفسية بإطلاق، ولن يضام من يذكر الله في كل حال .. لن يضام.

هنالك "قوة توجُّه" بالذكر لا ينفع معها ولا يصلح إلا الذكر المخصوص ذي الهيئة المخصوصة، فقوة التَّوَجُّه بالذكر هى أهم درجات القوة الحقيقية حين لا يكون على الحقيقة هناك حَوْلٌ ولا طَوْلٌ ولا قوةٌ إلا بالله.

أمّا التسبيح بالقلم الذي أقصده هنا؛ فهو نقش في  روضة من رياض المعرفة خاصة جداً فيما لو كانت مقصودة عند صاحبها موجهة إلى الملأ الأعلى، لا يمكن لنا أن نتجاوز حقيقتها إذا نحن تعاملنا معها بتبتل العارفين؛ إذْ كانت حقيقتها من الأهمية بمكان بحيث يكون القلم الذي أقسم الله به في كتابه هو الأداة التي يقتدر المرء من خلالها على تسبيح الله بفضل فيه جزاء صاحبه أن يكون مع الله، والله قدَّر ذكر الذاكرين.

عندي أن القلم تعبيرٌ عن حالة "القلب" الموصولة بالله على الدوام. ومن هنا؛ فإن فضله لا يمكن أن يتأتى بغير معرفة، أعني لكي تكون كاتباً على الوصف المقصود عندنا بخصوصية الكاتب هنا عليك أن تكون من جملة الذاكرين الله تعالى بالقلم؛ فللقلم في حالات اتصاله - لا انفصاله طبعاً - تسبيحٌ علويٌ مباركٌ لاشك فيه، ولن يأتَّي لك هذا الفضل ما لم تكن في الأصل قادراً على تقدير الموهبة التي وهبك الله تعالى إيَّاها : رعايتها، والعناية بها، والوصول بها، ومن خلالها، إلى الله تعالى؛ مع سؤالك له التوفيق في كل حال. فإن وَجَدت في نفسك إقبالاً على القراءة والعلم والبحث والتقييد فهو توفيق. توفيقٌ فوق كونه من فضله تعالى فهو كذلك تسبيحٌ علوي بكل تأكيد. وإلا فهو البطر الذي ينتاب النفس جحوداً يمزقها ويفتت روابطها وعراها في أكثر أحوالها من عدم الاجتهاد، وغياب الجد في جليل الأعمال.

نعم! قد يصيبُ النفس في كثير من الأحيان شدة البطر والإحساس المرير بالفشل، والعزوف والإهمال لقيمها ومصادر تفوقها وامتيازها، وهى في المقام الأول مصادرٌ إلهيّة؛ لكنما البطر يرتدُ إلى التعلق بالأغيار وممارسة شؤون الحياة اليوميّة. غير أنها من جانب آخر كلما تعلقت بالله شعرت بتفوقها وامتيازها لا لشيء إلا لأنها شعرت من فورها بحريتها كاملة غير منقوصة بعد تحرِّرها من علائق السِّوي، بمقتضى ثورتها الروحيَّة ضد الظلم والبغي والعدوان أعنى : عدوان النفس على النفس، وظلم الإنسان للإنسان، وبغي النفس على النفس أو على سواها من نفوس الآخرين.

في مثل هذا التَّحرُّر لا تحسَّ إذْ ذاك بأن أعمالها صادرة منها بل من توفيق الله لها، ولكن البطر؛ وهو أشدُّ ألوان العدوان، كثيراً ما يُصيبها في شتى النواحي المُدركة للقيم العلوية فيشل حركة النهوض فيها ويقطع عنها من ثمَّ أجمل ساعات الاتصال بالملأ الأعلى، فلا تقبل على مهامها وتبعاتها، ولا يعودُ الضرر إلا عليها لا على غيرها ممّا يُكثر فيها الغمِّ واليأس والقنوط بما عساه تكره؛ لأنها كانت ضَمَخَتْ بالبعد عن الله واتصلت بالعلائق والأغيار، بمقدار ابتعادها قطعاً عن هذه الروضة الطيبة المباركة : روضة التسبيح بالقلم ..!

يقول لك أطباء النفس قيد حالاتك النفسيّة إنْ في حال الفشل، وإنْ في حال النجاح، وأرقبها جيداً؛ ليكون من بعدُ فعل الكتابة نفسه هو العلاج الناجع لمدقع الآفات التي تلمُّ بالنفس في أحوال البطر والإهمال؛ لكأنما التدوين نفسه هو طريق الترقي الدائم مع الباطن ليجيء البصر بخوافي النفس أصدق مع القلم وأفعل.

كل كلمة يكتبها القلم وهو على حال التسبيح هذا؛ مصدرها التوفيق الإلهي، تصلح لأن تكون ذكراً لله عن طريق القلم مع تصحيح النية وتصحيح العزم والإقبال على الله بجدٍ وحزمٍ. كان سيدي الإمام الهمام القطب الكبير أبو الحسن الشاذلي رضى الله عنه وأرضاه يقول :"من أكتسب وقام بفرائض رَبَّه؛ فقد كمُلت مجاهدته".

وكان تلميذه الشيخ أبو العباس المُرسى يقول :" عليكم بالسَّبب؛ وليجعل أحدكم مكوكه سبحته، وقدُّومه سبحته، والخياطة سبحته، والسَّفر سبحته".

وربما كان المقصد من وراء هذا هو أن الصُّنعة تصبح طريقاً لله فيما لو صدقت النية، وكان العمل خالصاً لله تعالى؛ إذْ الأعمال موصولة بالنوايا، والنوايا موصولة بالله، والأعمال إذا خلِّصَت لله تعالى، وكانت النية فيها حاضرة مع الله كبُرت وعظمت وآتت أكلها وأثمرت خيراً وفضلاً ومثوبة؛ وإنْ كانت صغيرة.

وإذا هى (أي الأعمال) كانت محجوبة عن وحدة القصد وخلوص السريرة، مهما كَبُرت؛ فهى حقيرة متهافتة متناقضة في ذاتها، إلى زَوَال، وإنْ ظن الظانون فيها العِظَم والكبر والاقتدار، لكن :" ما كان لله دَامَ واتَّصل، وما كان لغير لله أنقطع وأنفصل". الإحساس بالله تعالى أثناء العمل هو موطن التوفيق.

ومعنى الإحساس بالله هنا، هو الحضور. والحضور قوة تلقِّي، هو البرزخ يلتقي عنده العمل مع التوفيق؛ إذْ التوفيق من الله تعالى، والعمل من العبد، وفضل التوفيق جليل، وجلال العمل في حدِّ ذاته ضربٌ من توفيق الله تعالى للعامل.

كيف نستطيع فهم ذلك أو تحقيقه في حياتنا؟

يخبرنا الإمام سَهْل بن عبد الله التُّسْتَريِّ في شذرة ممتازة سابحة من شذرات العارفين بالله، تجيء دالة كل الدلالة على الثقة بالله في عرفان الطريق، وذلك حين يربط العمل الخالص بالتوفيق الإلهي ويربط التوفيق بالتضرع والدّعاء.

يقول في إشارة له :" الأعمال بالتوفيق، والتوفيقُ من الله، ومفتاحها الدُّعاء والتَّضرّع ".

أقول؛ يخبرنا أن العملَ مَرْهُونٌ بتوفيق الله في كل حال، لكن هذا التوفيق هو في الأساس تحت ضراعة العبد أيضاً مع بذل المجهود في كل حال، فما للعبد إلا أن يسعى، والسّعي عمل، وليس عليه إدراك النتائج؛ لأنها توفيق، والتوفيق من الله.

وفي إشارة أخرى لطاووس العلماء هو أبو القاسم الجنيد تقول :" مَنْ فَتَحَ على نفسه باب نيّة حسنة، فتح الله عليه سبعين باباً من التوفيق. وَمَنْ فَتَحَ على نفسه باب نية سيئة، فتح الله عليه من حيث لا يشعر سبعين باباً من الخذلان".

في هذه الزاوية القائمة ينبغي أن تنحصر الأعمال، ولا تنحصر في زاوية سواها : في زاوية الرقابة الباطنة على القول والفعل والتصريف يحق لأعمال الخُلَّص من الصادقين أن تنحصر، وهى توفيق.

فلئن كان المكوك سبحة، والقدوم سبحة، والسّفر سبحة، وكانت الخياطة سبحة؛ فأحرى بالقلم عندنا وأولى أن يكون هو سبحتنا، فلنسبِّح به صباح مساء، لعَلَّنَا نلقى الله به ومن خلاله في روضة الرضوان، تلك الرّوضة هى الغاية الشريفة من وجدان القلم عندنا، وهو من الآثار النافعة الباقية، والتي نسأل الله على الدوام أن تكون نافعة باقية ليتمَّ لها الشرف والمجد والبقاء، إنْ لم يكن في نفس القارئ وفي عقله وفي ضميره؛ فعلى أقلِّ تقدير في نفس كاتب هذه السطور وفي عقله ووجدانه وضميره.

الغاية من وجدان القلم عندي هى غاية تشريفية فوق كونها غاية تكليفية، فليس من الشرف في شيء ألا تكون للإنسان غاية؛ ولئن كانت فهى في الأغلب الأعم تقع ضمن الغايات الترابية. أمّا القلم فوجوده عندي من أشرف المنافع العلوية؛ ولأنه بهذا الشرف، فلابد أن يكون تكليفاً أيضاً، أنه تكليف في تشريف وتشريف في تكليف، إذْ مجرَّد الرَّقم به على قرطاس المعارف الذوقية لدليلٌ على نفعه وبقائه ودوامه، واتصال هذه الوسيلة بأرقى المنافع الباقية فيما لو أنتفع بها حقيقةً خادمها، ولابد له في النهاية من مَزِّيّة الانتفاع.

ربما كان القلم في حدِّ ذاته وسيلة مادية لغاية روحيَّة، وهو بالتأكيد يخضع لحالات التعبير الصافية التي تمتلك صاحبها تماماً كما يخضع لأوهام كثيرة عند من لا يقدِّرون له قيمة ولا وزناً في عالم التفكير والتعبير، ولكن هذه الوسيلة المادية تصبحُ في يد الماهر المتقلِّب في رياض النشوة الروحيّة والفكرية من أكثر الوسائل تبتلاً وانقطاعاً إلى عالم الروح؛ فكما لا يترك الصوفي الكبير مسْبَحَتَه ولا يفارقها، كذلك الكاتب الذي يتَبَتَّل في خدمة الكلمة لا يفارق قلمه إلا أن تكون اللحظات الأخيرة من حياته، حيث يترك كل شيء ولا يتركه عمله.

إنها لغايةٌ شريفةٌ تفيدُ رجل الفكر والروح، إنها لحقاً الغاية الشريفة تجعله قادراً على مواصلة المسيرة الطيبة التي يمكن إدراكها والسير فيها من بعيد : من الفضاء الروحي والفكري، تماماً كما يمكن إدراكها من قريب : من الوسيلة المادية التي تتمثل في هذا القلم. لا ريب كان هذا الإدراك النافع من بعيد قد يعجز عنه آخرون لم يكونوا قد تدَرَّبُوا سلفاً على امتلاك زمام القلم، ولم يكونوا قد أدركوا مثل هذه الحالة الروحيّة العالية التي يتصفُ بها المرء خلال تعامله مع "قيمة الكلمة" أو تعامله مع القلم النافع ذي العلم النافع ذي الفضل النافع في كل حال.

ماذا عَسَاهَا تقدِّم أقلامنا إنْ لم تذكر الله على الحقيقة؟ ماذا عَسَاهَا تقدِّم؟! لا شيء! إنّ فضيلتنا الحاضرة كفضيلتنا الباقية هى أن تذكر الله ولا تغيب عن ذكره لحظة واحدة؛ فإن الغفلة عن ذكر الله بالقلم جريمة في حق الوجود الروحي وتربية الأفكار العلويّة.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم