صحيفة المثقف

تفكيرٌ في الدِّين (3)

مجدي ابراهيميكادُ يتفقُ المحللّون والمتابعون لواقعنا العربي الإسلامي المعاصر على أن المجتمعات الإسلامية تعيش أزمة "فكر" قبل أن تعيش أزمة عقيدة ومبادئ أو أزمة موارد واقتصاد. وأزمة الفكر الديني في المجتمعات الإسلامية إنما هى أزمة ترتد باتفاق المحللين والمتابعين إلى قصورٍ في العملية التربوية والتثقيفيَّة.

وعندي أن هذا القصور نفسه يكشف عن غيبة في الوعي الديني أساساً، بمقدار ما يعكس تشتت هذا الوعي وحركته الخلافية : فُرْقَةً لا وحدة فيها ولا هدف، ومن ثمَّ لا أيديولوجية لها ولا سند، لكأنما كانت أوامر العقيدة ونواهيها في جانب، وكانت أوعية التلقِّي لمثل هذه الأوامر والنواهي في جانب آخر، الأمر الذي يتحتَّم معه أن تلتقي الأفئدة والقلوب على فراغ في هواء يسبِّب بغير شك حدوث الأزمة فى الفكر ثم في التطبيق. وأزمة الفكر لا محالة دليلٌ مباشرٌ لا شك في دلالته على أزمة التطبيق، فكلما كانت أزمة التطبيق منحرفة عاجزة عن أن تلبي مطالب الإنسان وحاجاته المعنوية والروحية، كانت انعكاساً يقول بأبلغ لسان إنَّ الأزمة في "الفكر" قبل أن تكون في التطبيق، فتصحيح السلوك والتطبيق من أجل هذا معناه أن الفكرة قد صحَّحَتْ من قبل، فترتب على صحتها تباعاً صحة السلوك والعمل.

على أننا إذا نحن قلنا إن هنالك أزمة في الفكر الديني؛ فينبغي أن تجدر التفرقة بين "الدين في ذاته"، وبين "ما يُقَامُ على الدين من شروح وتفسيرات"، تتأوَّل هذا الدين وتسخِّره لخدمة أغراضها ومطالبها، منافع وحاجات ينتفي فيه التَّجَرُّد فيقبل القسمة على اختلاف المواقف وتعدٌّدها! ففي الحالة الأولى : حالة الدين في ذاته متجرِّداً عن اللواحق والأغراض والمنافع والحاجات، لن تكون هنالك أزمة؛ أى في حالة الدين قبل أن يتوجَّه توجُّهاً سياسياً وعملياً، لكأنما الأزمة نشأت من الحاجة والمطلب والغرض والمنفعة اللاحقة، وجميعها أعمالٌ تتدخل فيها السياسة ليّاً بألسنتها وطعناً في الدين.

وفي الحالة الثانية : حالة ما يتراكم على الدين من حيث كونه شروحاً وتفاسير، هنا تكون الأزمة وتحلُ اللعنة على المتأزمين. إنه ليُرادُ لنا أن نفهم الفرق بين "الدين" من حيث أنه "نصوص" مُوحي بها إلى الأنبياء لتبليغها للناس كافة، وبين مجموع ما يتراكم على "الدين" من شروحات وتفاسير، ومن أحكام ورؤى وتأويلات، ومن أذواق ومواجيد وإشارات، ومن أوهام وخرافات وتعصُّبات، ومن جملة آراء تتناول الدين أو تتأوَّله في نصِّه المقدَّس، بمناهج تختلف باختلاف نقطة السير عند أصحابها : أعقليون هم أم مثاليون، أبرهانيون هم أم حدسيون روحانيون، أجدليون هم أم خطابيون، أذوقيون هم أم غير ذوقيين، أإرهابيون متطرفون هم أم غير إرهابيين معتدلين أو متسامحين؟

وفي جميع هاته الحالات التي تُقَام على النَّصّ المقدس، تجد الاختلاف الجوهري الذي يفصلها عن "الدين في ذاته"، في منبعه الصافي الأصيل، فلم يصبح المقدس مقدساً، وترجع جميع "المواقف" برمتها عوداً على بدء إلى أصحابها.

فالدين من حيث هذا المنبع الأصيل شيء مختلف كل الاختلاف عن مجموع ما يتراكم عليه من شروح وتأويلات، فإذا أنت رأيت أن هنالك "أزمة" فاعلم من فورك أنها آتية من جملة ما يتراكم على الدين في الشرح، والتأويل، والرأي، والاجتهاد. لكن الفَرْقَ بعد ذلك كبيرٌ جداً بين "الدين في ذاته" وبين مجموع "ما يتراكم عليه" من شروح وتأويلات ورؤى وتفسيرات.

هذا " التراكم " المجموع على هيئة تراث هو ما يسمى بالفكر الديني، وهو الذي تنشأ فيه الأزمة وينتفي فيه "المُقَدَّس" من كونه مقدساً؛ لتعدُّد "المواقف" بتعدد رؤى أصحابها. ومن هاهنا لزم التنويه إلى هذه التفرقة كيما لا نخلط خلطاً عجيباً بين الدين في ذاته وبين الفكر الديني. وزيادة في التوضيح أقول: أفرض مثلاً أننا نريدُ أن ندرس شيئاً ممَّا جرت به أقلام كبار الشرَّاح والموؤليين، أو ممَّا عرضته قرائح النظار من الفلاسفة وعلماء الكلام والفقهاء والمتصوِّفين؛ أو حتى ممَّا اعتنقته بعض الفرق والمذاهب والاتجاهات الضالة التي أساءت إلى الإسلام بمقدار ما اعتنقت من آراء متطرفة سَبَّبَتْ حدوثاً لأزمات وَصَمَتْ بها الإسلام بما ليس موجوداً فيه.

أقولُ؛ هَبْ أننا أردنا دراسة هذه الاتجاهات كلها، وشاءت لنا دراستنا أن ننقدَ شيئاً مَمَّا كانوا وقفوا عليه وهم بصدد شروحاتهم وتأويلاتهم وتخريجاتهم ومجمل أفكارهم الدينية؛ أَيُقَالُ بعدها أن نقدنا هذا موجَّه إلى الدين؟! أم ببداهة النظر الأمين هو نقد مُوَجَّه إلى جملة ما يتراكم على "الدين" من نظر وعلم، ومن فكر بشري، لا يرقى إلى مستوى النّص المُقَدَّس بحال؟

ومن هاهنا، تبدو نقطة الخلاف .. فِيمَا هى؟ في "درجة الفهم"، وملابسة الموضوع؛ درجة الفهم التي سبق أن أرجئنا الحديث عنها وقلنا إنها كانت سبَّبتْ اشكاليات ليست بسيطة على مستوى الأيديولوجي؛ فإنّ الحكم الذي يُقَاس عليه درجة الصحة أو الخطأ مردَّه إلى استدلال المستدل في حكمه الذي يحكم به على موضوع أختاره أو على قضية تبنَّاها؛ أو على فكرة ألتمس لها من النصوص الدينية تأويلاً، أو على تَوَجُّهٍ خاص دعَّمه بشتى وسائل الشرح والتدعيم.

وإنّه ليرجع به إلى "النص المقدس"؛ وبناءً على فهمه لهذا النّص يكون استدلاله : أخطأ هو أو صواب؟

هنا نعود ثانية إلى "درجة الفهم" التي ذكرناها عن ابن رشد قبل حين :" درجة الفهم تختلف من جهة العمق في معرفة الشيء الواحد نفسه"؛ فأنت ترى أن درجة الفهم هنا مرتبطة بالاختلاف، وأن هذا الاختلاف موقوف من جهة العمق فى معرفة الشيء الواحد على حدود الإدراك؛ لأن معرفتنا بوحدة الشيء هنا مُحَدَّدة تحديداً دقيقاً وعمقيَّاً بدرجة فهمنا له، فعلى مقدار ما نفهم من معارف على الأشياء نختلف. فالمعنى هو أن اختلاف التوجُّهات الفكرية ونتائج الاعتقادات مَرَدًّهُ في أول مقام إلى درجة الفهم؛ فمنها يجيءُ الحكم الفكري، وما دامت درجة الفهم مختلفة، فإن النتائج التي تستند إلى الاستدلال يستدلُّ به مستدلٌّ بادئاً بمسلمة مفروضة يريد أن يتوصَّل من خلالها إلى نتائج يزعم لها الصحة، لابد وأن يُرْجَعُ فيها إلى "درجة فهمه"؛ وليس فيها بعد الرجوع إليه أغلب الظن، ما يَضْمَنُ له العصمة من الخطأ.

من أجل ذلك؛ فإن الأزمة الفكرية واقعة لا محالة إذا نحن رددناها إلى درجة فهم النّص الديني على اختلاف المستويات في فهمه واختلاف التخريجات؛ فالإرهابيون المتطرفون المتعصِّبون لهم مستوى خاص في "فهم النص الديني"، وتطبيق هذا الفهم بحرفه على واقع الحياة المعاشة فعلاً في الواقع العملي.

(والإرهاب هنا نعنيه على تفاوت أصعدته التي يعمل فيما سواء كان فى الواقع أو كان فى الفكر، وإرهاب الفكر أشدُّ وطأة على القلوب النقية والضمائر الحييّة من إرهاب الواقع). والعقلانيون المعتدلون المستنيرون لهم مستوى أعلى من "فهم النّص الديني"، إنْ على صعيد الفكرة النظرية أو من حيث يُرَادُ له التطبيق أحياناً في دنيا الواقع. وأهل البصائر والأذواق من طلاب الحقائق العُليا بفقه الباطن لهم مستوى "نُوَرانيٌّ" أشدَّ علواً، من "فهم النّص الديني"، يختلف باختلاف المنهج والمسلك والمشرب عن أولئك وهؤلاء.

هذا المستوى الخاص في فهم النص الديني يُعَبِّر عن "موقف" يزعم فيه لنفسه إرشاد العقل إلى الحقيقة الدينية، لكنه بمقدار ما يرشد يتسبَّب في المقابل في حدوث الأزمات؛ لأنه يتخذ موقفاً ضد غيره ليعبِّر عن مثل هذا الموقف وحده دوناً عن سواه، محتكراً بذلك "الحقيقة المطلقة" إنْ لم يكن يحتكر حقيقة الحقائق!

هكذا قُل ما شئت في كل المواقف التى سبقت الإشارة إليها، مع التفاوت في حدّة التفكير والتعبير.

ولكي أوضح للقارئ مقصدي من وراء الحديث عن أزمة الفكر الديني، عليَّ أن أوضح تباعاً ثلاثة مجالات يجري فيها الكلام عن تلك الأزمة : مجال منها يتصل بـ "الاعتقاد" وفيه ضربان : الأول حق والثاني باطل؛ فإذا آثر المعتقد فكرة الحق على الباطل كان اعتقاده صحيحاً. والمجال الثاني : يجري فيه "الفعل"، وفيه طرفان، طرف منه خير وطرف آخر شر؛ فإذا سلك السالك سلوك الخير وارتفع بسلوكه عن الشر، جاء فعله خيِّراً. والمجال الثالث : هو الذي يجري فيه "القول"، وهو كذلك مجال الفكر الذي يمثل القنطرة يَعْبُر من خلالها الاعتقاد إلى السلوك.

وهذا المجال الأخير (أعني القول) إمّا أن يكون صادقاً أو كاذباً، فإذا كان صادقاً، فالصدق هنا تعبيرٌ عن صحة العقيدة فكرياً ونظرياً، ولا تزال مرتبة الصدق ناقصة ما لم تدل عليها الممارسة العملية : صحة الفعل الخير والسلوك الفاضل.

الاعتقاد والفعل والقول؛ مجالات عمل الإنسان في الضمير، وفي السلوك والإرادة، وفي التفكير؛ فالأمة الإسلامية التي تعيش أزمة الفكر الديني - وفق هذا التوضيح - هى أمة تشعر في أعمق دخائلها بالفراغ الروحي والضباب الفكري لا لشيء إلا لغياب العلاقات الفاعلة بين هذه المجالات الثلاثة، ومع اجتماعهما معاً (أي الفراغ الروحي والضباب الفكري)؛ تبدو رؤية العقل معزولة عن دفعة الوجدان.

ولا شيء يغدو ذي حياة ووجدان الإنسان مفصوم فصماً مبالغاً فيه بين النظر والتطبيق أو بين الممارسة العملية والخطاب الأيديولوجي أو بين العقيدة والسلوك أو بين القول والفعل. إلى آخر هذه الخطابات الازدواجية والإشكاليات المُعْضلة التي تجعل سلوك الفرد في ناحية، واعتقاداته وآراءه، وألفاظه وأقواله في ناحية أخرى مضادة. والأمة التي تشعر بمثل هذا الشعور في أعمق أعماقها - فراغاً روحياً وضباباً فكرياً - هى أمة لا تستطيع التطبيق مطلقاً لمبادئ العقيدة وأحكامها.

صحيحٌ أنها أمة تعتقد! ليس في ذلك شك. لكن هذا الاعتقاد بدوره معزولٌ عن العملية الفكرية، الأيديولوجية، التي من شأنها أن تقود المعتقد إلى الفعل التطبيقي الخيِّر والتنفيذ السلوكي الصالح للحياة مع هذا الاعتقاد.

ومن ها هنا تنشأ الأزمة في الفكر : الفكر الذي يُظهر طبيعة ذلك الاعتقاد بقول صادق لا كذب فيه، فيرفض من السلوك ما يُبْطله وينقضه، ويشجب من التطبيق كل ما من شأنه أن يُعَكِّر صفو الاعتقاد، ومن ثمَّ لا يجعل الهوَّة سحيقة بين النظر والتطبيق، أو بين الخطاب الأيديولوجي والممارسة الفعلية، أو بين الفكر والعمل. وكلُّ تطبيق لا يقوم على فكرة تُبَصِّره هو تطبيق عُرْضَة للضعف والغفلة، ثم للانهيار والكساد؛ ولأجل هذا يُحدث بعده خمول وخمود تمهيداً لاستقبال الأزمة في الفكر، وفي المنهج، وفي غياب الرأي والرؤية سواء بسواء.

وكل كلام عن العقيدة يعوزه فكر عامل ويفتقر إلى منهج صحيح هو كلام يدور بالمطلق في فلك التضليل.

على أن تشخيص الأزمة في الفكر الديني يَنْصَبُ على منهج التفكير الذي يصلح أو لا يصلح لأن يجيء تعبيراً مباشراً أو غير مباشر، عمَّا نأخذه أو نرفضه من الثقافات الذاتية، أو من ثقافات الآخرين تفرض ذاتها علينا. وعلينا نحن أن نفرض على أنفسنا في الوقت نفسه طريقةً للتعامل معها؛ شريطة أن نكون على وعى بما نتعامل، وبما نقبل أو نرفض من مضامين الفكر والثقافة الخارجية والداخلية، الأصيلة الموروثة والحديثة المستوردة، ثقافة "الأنا" وثقافة "الآخر".

لننتقل من هذه "الوقفة" المعاصرة، إلى ما كنا بصدده من حديث السياسة : فعْلُها المباشر تارة وغير المباشر تارة ثانية، وتأثيرها الإيجابي أو السلبي تارة ثالثة، وإضفاء المواقف المتعددة عليها انطلاقاً منها واحتكاراً لها تارة رابعة، وتفعيل ذلك كله واقعياً في تشكُّل الأزمة الفكرية الدينية، بحيث لم يعد الفكر الإسلامي - من جرَّاء فعل السياسة - فكراً فلسفياً نظرياً حُرَّاً خالصاً، بل كانت السياسة مرجعيته لكأنما كانت حاجة المجتمع إلى تلك الضرورة العملية من الأهمية بمكان فيما لو أرجعنا أزمة الفكر الديني إلى المطالب السياسية.

من أجل ذلك؛ فقد كانت الحاجة الواقعية العملية مَاسًّة إلى تشكيل الفكر الإسلامي تشكيلاً اجتماعياً وسياسياً لا فلسفياً خالصاً. مثل هذا التشكُّل العملي لا يجعل روح الحضارة الإسلامية كروح الحضارة اليونانية في الغرب القديم أو الأوروبية في الغرب الحديث مثلاً بحيث يمكن الفصل بين الحاجة العملية واقعياً، والمطالب النظرية البحتة في ذاتها.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم