صحيفة المثقف

كورونا الذي كشف عورتنا

محمد حسين النجممع تفشي فايروس كورونا، وتوقف الجامعات والمدارس عن التعليم، صارت الحاجة ماسة للتعليم الالكتروني وهو امر طبيعي . الغريب اننا كنا الى وقت قريب نرفض ما نسميه التعليم عن بعد قبل ان تصبح تسميته تعليما الكترونيا، وهو ما يكشف هشاشة وسطحية المتولين للتخطيط التربوي والعلمي في بلدنا . معروف ان صراع الاجيال يمكن ان يكون فاعلا في الموقف من الجديد، حينما ينحاز كبار السن ضده في مقابل الاجيال الشابة، وهو امر ينطبق كثيرا على الوافد من (الموضة) والعادات المتغيرة المكتسبة، اما في مجال العلم والمعرفة فلا اعتقد ان ذا عقل يمكن ان يعتمد هذا المسار، فالمعرفة في تنامي، ووسائلها كذلك، ومن يتخلف عن الركب لا يمكن ان يجد له مكانا في المجتمع الحديث .

ان ما تعلمناه ان المنطلق الاساس الذي انبثق منه تطوير محركات البحث الناعمة كان نتيجة حاجة طلابية علمية حين سعى احد الطلبة الجادين لان يطور وسيلة قادرة على ان تجعله يشارك زملائه مقرراتهم الجامعية عبر الفضاء الالكتروني، وهي الخطوة التي فتحت الافاق للتطورات اللاحقة .

ان ميزة العالم المتقدم هو استثمار كل الوسائل للتطور المعرفي، ولهذا فان ظهور فايروس كورونا لم يخلق لهم ازمة كبرى كما هو الحال عندنا، فمنذ امد بعيد اخذت الجامعات والمدارس هناك باستخدام الشبكة العنكبوتية لبث محاضرات اساتذتها جنبا الى جنب مع المواظبة على الدوام الفعلي فيها، في حين اننا شغلنا انفسنا بترتيب ملازم بائسة لطلابنا لتبسيط، ان لم اقل تشويه، المقررات الدراسية .

كنا في سبعينيات القرن المنصرم نحرص على تسجيل كل ما يتفوه به الاستاذ المحاضر، ومن لا تعينه سرعته، يستنجد بزملاءه لملء الفراغات التي لم يتمكن من تسجيلها، وكانت متابعة ما يؤشره الاستاذ في محاضرته من كتب ومصادر محل تنافس على المكتبات لاستعارته، حين تضيق ذات يدنا عن شراءه، بل وننتظر احيانا اياما حين يعيده المستعير السابق لنتلقفه بل ان بعضا من سوء التفاهم الذي يحصل بيننا حينها كان تاخر المستعير عن اعادة الكتاب في وقته المحدد، وكانت هناك غرامات حقيقية على التخلف عن موعد الارجاع، ليس لتعزيز الموارد كما هو القصد الان بل لان هناك من ينتظر دوره لاستعارة الكتاب .

حين دخلنا الحرب ضاعت مكتبتي ضمن ما ضاع في مدينة على خط النار، لم يسعفها الزمن لتنقل اي شيء، كانت النار تحاصر ساكنيها وليس ثمة فرصة الا لانقاذ الارواح التي اوشكت ان تتقطع بهم السبل، ضاع كل شيء، وكان ذلك مؤلما، ولكن يمكن تعويضه بافضل منه، الا ضياع المحاضرات الجامعية التي كنت محتفظا بها، خلفت في النفس غصة لاتزول . .

ان العالم المتقدم حين وضع المحاضرات واللوازم العلمية على الشبكة العنكبوتية، لم يكن في باله ان هناك لجنة جودة ستظهر لتقييمه، كان القصد ترسيخ المعرفة في اذهان الدارسين، ولهذا تجد التفاعل الكبير الذي يساهم به الطلبة في تنشيط الدرس وتوسيع مداه، في الوقت الذي نجد ان الطالب لدينا حين يستفهم عن امر مع انتهاء الحصة الدراسية يكون محل لوم من اقرانه لانه اضاع عليهم فرصة التسكع في ارجاء الجامعة او فرصة الانشغال بتوافه الامور.

لقد كان الظرف الطاريء الذي حصل بسبب الفايروس كارثيا حين كشف عن مستوى الجهل والامية الالكترونية التي نعيشها، وصار الهم الاكبر هو التذرع باي وسيلة لاسقاط الفرض، في مقابل طلبة لا يهمهم الا انتظار نهاية السنة يتسكعون على ابواب الاساتذة استجداءا لدرجات ترمم انتكاستهم .

وعلى الرغم من ما نعرفه من تفاعل كبير لاجيالنا الشابة مع التقنيات الالكترونية العصرية، وتفاؤلنا بقدراتهم بان تكون منفذنا الى التقدم، الا ان الممارسة اثبتت بانهم، الغالبية اقصد، لا يهمهم من هذه التقنيات الا ما يروج فيها من العاب يضيع الوقت بالانشغال بها، ولا يهمهم من وسائل التواصل الاجتماعي الا ما يوفر لهم الغث من الحكايات والمحادثات، وحين جد الجد رفعوا عقيرتهم بالصياح والضجيج والاعتراض .

ان درس كورونا ينبغي ان يوجهنا الى ايلاء هذا الجانب من الاهمية ما يستحق، وان يصار الى اعتماده والتشديد عليه بصفته ملزما للطالب والاستاذ، على ان يكون المحتوى بالمستوى الذي يحقق لوطننا قفزة على مستوى المعرفة وليس قفزة في تسجيل نجاحات شكلية كما نلاحظه الان . واذا كان لكل جديد آثاره الجانبية، فيبدو لي ان طغيان الكم على الكيف هو اكبر المساويء التي نواجهها بتقدمنا المعرفي . انه لمن الضار تماما ان نسخف وسيلة تقنية عالية بالارتكان الى نشر كم هزيل لا يغني ولا يسمن، وهو ما يفرض على القيادات الاكاديمية ومسؤولي التربية والتعليم باعادة النظر بمعايير تقييمهم للعطاء المرفوع على الشبكات المعرفية، فالبلدان التي تقدمت، تقدمت من خلال استقطابها الكم الاكبر من الباحثين عن جديد المعرفة، وليس عن الشكليات .

 

د. محمد حسين النجم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم