صحيفة المثقف

المُجدّدون وفلسفة التّعلم

عصمت نصارلمّا كان السؤال هو المُحرض الأول لإخراج الفلسفة والعلم من رحم العقل، فقد بات لزاماً على المجددين الإجابة عن الأسئلة المطروحة حيال هذه القضية، ألا وهى لماذا نتعلم؟ كيف نتعلم؟ ماذا نتعلم؟

وقد تعددت إجابات التربويين تبعاً لتطور الثقافات ووجهة الذين تصدوا لهذه القضية، فعن السؤال الأول ذهب المثاليون إلى أن التعلم غاية في ذاته؛ لأنه زاد التفكير المميز للإنسان عن غيره من الموجودات، ومنهم من نزع إلى أن التعلم أداة الإدراك والوعي الذي يكشف عن هويّة الأنا الإنسانية العاقلة؛ فبدونه يعجز الإنسان عن العيش في هذه الحياة، حيث التّعرف على الموجودات من حوله والتمييز بينها ثم إدراك ذاته بعد تأملها.

وتطورت الإجابات تبعاً لتفاعل ذلك الكائن العاقل المتعلم مع مدركاته من جهة والواقع المعيش من جهة أخرى.

فلم يصبح التعلم مصباحاً لإزاحة ظلمة الجهل التي تحول بين العقل والمعرفة، فراح التربويون يوضحون أن الغاية من تحصيل المعارف هو التطلع إلى الكشف عن المجهول وفضح المستور وتفسير الغامض، واستشراف المستقبل، وإعادة بناء الواقع والتحكم في المألوف وهدم الثابت وخلق عوالم بديلة والبرهنة على سيادة الأنا المفكرة وقدرتها على التفكيك والهدم وإعادة البناء.

أما السؤال الثاني: فلم تتباين إجابات التربويين إلى درجة الاختلاف بل جاءت لتتكامل وتتأزر، فقد انصبت حول ألية التعلم وكيفية الإدراك وتحصيل المعارف المختلفة وتنظيمها وحفظها ثم استدعائها ومراجعتها، فذهب البعض إلى إننا نتعلم عن طريق التذكر، أو الإلهام من قوة خارجية في حين أكد التربويون أن التعلم يحدث عن طريق التواصل مع الآخر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فالبحث الذاتي المتطلع لإدراك البيئة أو الوجود هو الذي يزودنا بخبراتٍ تمكننا من اقتحام المجهول وتنقل أذهاننا من مقام الجهل والغموض إلى المعرفة والوضوح، فالتجربة والممارسة هي الآلية الأولى المباشرة للتعلم، ثم يأتي التواصل غير المباشر مع المعرفة وهو المتمثل في التواصل مع الأغيار بالإخبار والتلقين ثم الحفظ إلى أن يصل العقل لدرجة الوعي وتصنيف المعارف.

وسرعان ما تمرّد الفلاسفة والعلماء على تلك الكيفية وبينوا إننا نتعلم عن طريق الاستنباط والتحليل المنطقي والاستدلال الجامع بين العقل والتجربة والنقد الذي يغربل المعارف ويقيّمها ويصنفها إلى مسلمات ويقينيات ويميز بين الجائز والمحتمل والمستحيل والعلمي والخرافي وما ينبغي الشك فيه ونقله من درجة الظن إلى درجة المجهول أو الغير معقول والغيبي والمتخيل والشعور الزائف.

ومع تطور المعارف والمناهج المعاصرة راح التربويون يبحثون عن ألية أو منهج لحماية العقل من التدليس والكذب والشك المرضي، بالإضافة إلي الأمراض التي تصيب العقل فتقعده عن القيام بمهامه، وعلى الجانب الآخر نجد بعض العلماء يبحثون عن آليات لتطوير التفكير البشري وتقوية ملكاته واستحداث آليات للتواصل وإعادة قراءة الركام المعرفي الموروث والاستعانة بالعوالم الافتراضية لقراءة خزانة العقل ومعرفة خبايا الحواس الداخلية، واستنطاق ما يرفض العقل البوح به أو الإفصاح عنه مكنون النفس.

وتأتي الإجابات عن السؤال الثالث : ماذا نعرف؟ فعلى الرغم من اختلاف إجابات التربويين الظاهر فأنهم قد اتفقوا في الحقيقة على أن الإنسان يتطلع إلي معرفة كل ما يثير فضوله ودهشته، ذلك المعيار الذي يفصل بين الثقافات والحضارات ويميز بين الجاهل والأمي والأحمق، والفيلسوف والعالم والمخترع، ويوضّح كذلك المعيار الذي تنظم بمقتضاه أهمية المعارف ومدى صلاحيتها وسلطة وقوة تأثيرها على العقل ومدى فاعليتها في رحلة التقدّم إلي الأمام أو التراجع إلي الخلف أو الجمود أو التعصب أو التطرف أو المجون أو الولاء أو الاغتراب وغير ذلك من مقاصد ومألات ومشاعر ونزاعات ونفور وإنعزالات.

ويبدو أن مفكرنا "حسين المرصفي" قد اضطلع على تلك الإجابات التي لفظها الفلاسفة والعلماء التربويون في الأحقاب والثقافات المتباينة على مرّ التاريخ. ولما كان مفكرنا ملتزم بالنسقية والموضوعية، فقد نظر إلي فلسفة التعلم على إنها مشروع استثماري لا غنى عنه لبناء الإنسان لتقويم سلوكه من جهة، وتأهليه ليصبح مواطناً صالحاً لخدمة مجتمعه والعمل على تقدُّمه من جهة أخرى.

فالعلم عنده ليس نافعاً في ذاته بل أن قيمته تحدد بمدى إثماره، شأنه في ذلك شأن الفلاسفة العمليين، فطالما ردد مقولة "أبي حامد الغزالي" (العلم بلا عمل لا يكون، والعمل بلا علم ضرب من الجنون).

وقد اتفق مع معظم التربويين على أن الغاية من التعليم لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق تفعيل المنهج الناقد في وضع متطلبات مهنة المعلم والمتعلم من حيث مستواه المعرفي واستعداده الذهني والتزامه الأخلاقي، فوضّح أن المعلم هو الآلية الغير مباشرة لتمكين الذهن من إدراك المعارف وأن أثر أسلوبه ونهجه وخصاله المهنية والشخصية لا يمكن إغفالها كمعيار انتقاء المعلمين، الذين يؤثرون تأثيراً مباشراً على المتعلمين وأن خبرتهم هي التي تمكنهم من التواصل الجيد مع طلاب العلم فيحببونهم في تحصيل المعارف أو ينفرونهم منها وهي التي تمكنه من التعرف على قدرات التلاميذ الذهنية ومدى صلاحيتها لاستقبال المعارف النظريّة أو العملية، وكذا استلهام الملكات وتنميتها وتقوية المهارات الفردية في شتى شئون الحياة .

ويقول عن أهمية المعلم:

"أنه إنسان أكملته التربية يحاول أن ينقل صورته ونظام أحواله إلي غيره، ليكون خلفاً منه؛ فإن لم يكن وهو غير كائن فإن أمر التربية مهمل، والناس متروكون للصدفة وكيف لا وليس لأحد فكر في معنى الوطنية والحماية والإنسانية، إذ غاية الواحد أنه متردد بقائد الضرورة وسائق الحاجة في تحصيل ما يعيش به ويمسك رمقه وقد رسخ في طبعه حب النزاع والاستلاب والاغتصاب والاختطاف والاستئثار وقهر الغير والاستيلاء وغير ذلك من الرذائل، وإنما يصده عن ذلك ما قام به البعض، بدلالة هذه العدوانات من الضبط وكف الناس عنها".

وحريُّ بنا أن نتسأل : هل يمكننا تفعيل المنهج التربوي المعاصر في اختيار متطلبات المعلم وأخلاقيات المهنة في معاهدنا التعليمية ومدارسنا وجامعتنا، وفي منابرنا الثقافية أيضاً، التي أضحت مستنقع عميق للجهلاء والحمقى والمتعالمين؟!

رسالة المعلم وآداب المهنة:

ويواصل "حسين المرصفي" حديثه عن قضايا التعليم، فنجده يؤكد على أمريّن أساسييّن أولهما ضرورة تدقيق القائمين على إدارة العملية التعليمية في اختيار ما يصلح لاحتراف مهنة التعليم من خريجي المعاهد والكليات المختلفة، فالشهادة وحدها لا تكفي لذلك، وفي رأيه يجب إعداد المتقدّمين لهذه الوظيفة وتأهليهم منهجيًا وتربويًا وأخلاقيًا تبعًا للمعايير التي وضعها كبار التربويين في الحضارة الإسلامية أولًا ثم الحضارة الغربية وتعويدهم كذلك على الالتزام بأخلاقيات المهنة؛ وذلك لأن شخصية المعلم لها عظيم الأثر في وجدان وتشكيل أذهان المتعلمين ولاسيّما في المراحل الأولى من سن التّعلم.

أمَّا الأمر الثاني فهو يختص بضرورة تنمية شعور الولاء والانتماء في وجدان المعلمين، وذلك لنقله للمتعلمين متبوعًا بثوابت ثقافة الوطن، والمبادئ والأسس التي تحمي الطلاب من الجموح والجنوح والاغتراب، وتبث فيهم في الوقت نفسه أداب الحوار والنقد والمعارضة وفهم ما يتلقونه قبل حفظه وتطبيقه.

ذلك بالإضافة إلى تبصير المتعلمين بالرسالة التي سوف تقع على كاهلهم، والمسئولية التي سوف يحملونها تجاه وطنهم، المتمثلة في محاربة الجهل والخرافة والتخلف، والفاسد من العادات والقبيح من الأقوال والتصرفات، وتنوير العقول وتخليص الأذهان وتحريرها من المعارف الموروثة التي تتعارض مع العلم وصحيح الدين؛ الأمر الذي يجعل من المدارس ودور العلم أداة لتطوير المجتمع وارتقاءه، والعمل على سلامة الأمة، والدفاع عنها ضد كل ما يسئ إليها في الداخل أو الخارج، ويقول " إذ تكون همتهم - أي المتعلمين - أن يسعوا بين الناس بتعريف منافعهم، وأسباب كثرة الخير فيهم محتالين بما أودع الله فيهم من حسن نظر ورقة إدراك لمنع انتشار الخلال السيئة، والمبادرة بمحو ما اختلسته الطباع منها، وحين ذلك تدر عليهم الأرزاق وتنبسط فيهم النعم ... فعلى ذوي البصائر أن يستأنفوا النظر ويشتدوا في البحث والتفتيش عن رجال أذكياء فضلاء تصرفت بهم الأيام وتقلبت عليهم الأحوال ونظروها نظر اعتبار، فاستحسنوا واستقبحوا وأخذوا وتركوا وظهر للناس جودة اختياريهم؛ ليسلموهم هذه الخطة - أي خطة التربية - ليستأنفوا عملًا جديدًا، ويسعوا فيه سعيًا حميدًا بملاحظات دائمة وأعمال مستمرة".

ويحذر مفكرنا من اضطراب الأسس والمبادئ والمعايير التي بمقتضاها يتم إعداد المعلمين، فإنّ أي اضطراب أو تغيّر عشوائي في متطلبات المهنة والأخلاق الضرورية لتلك الوظيفة سوف يؤثر تأثيرًا مباشرًا بالسلب على العملية التعليمية برمتها، ومن ثم يجب دراسة القائمين على التعليم في مصر لمقاصد العملية التعليمية وتزويد المعلمين بها بجانب المناهج الحديثة لتوصيل ما في الخطة التعليمية من معارف وقيم للطلاب بمختلف مراحلهم الدراسية.

وعلى المعلم أن يتعرَّف على طلابه وميولهم وقدراتهم الذهنية وينتخب الطريقة أو الأسلوب الأمثل للتواصل معهم، ويقول في ذلك : "إن الإنسان الذي يراد تربيته تربية عقلية فكرية يجب أن يكون إنسانًا فيه العلامات الدالة على حدة ذكائه وشدّة فطنته ليحفظ كثيرًا ويتذكر سريعًا ويدرك من الإشارة ما يفهم بالعبارة، فإنه يُرَبَى على أن يكلف ضبط كثير من الأعمال ومالها من الثمرات، وكيف تتفاوت في الجودة والرداءة، وكيف يعرض فيها الخطأ وتمضي بها الإصابة، ويقال إن بعض الناس المعلمين يرصدون الإنسان المتعلم، حتى يدركوا رهبته في أي شيء ويعرفوا ميله إلى أي عمل، وعند ذلك يقصرونه عليه، ويساعدونه على إتمامه وذلك إن صح يكون عملًا مفيدًا يجب أن يعمله جميع المعلمين، حتى يتقرّر ذلك الفن الذي يمكن أن يبني عليه ابتداء العمل في تربية الإنسان، دون إضاعة زمن من زمن التعلم طال أو قصر حتى تدرك رغبته ويعرف ميله".

ومع اعتراف "حسين المرصفي" بأن العقل الإنساني هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس؛ فإنه يؤكد أن لكل عقل ميوله ومواطن إبداعاته التي تميزه عن أي عقل أخر، ويتضح ذلك في تفاوت استجابة بعض المتعلمين للمعارف النظرية الأدبية دون المعارف العلمية التجريبية والرياضية والعكس صحيح، الأمر الذي دفعه إلى ضرورة تعدد المدارس التعليمية على نحو يمكنها من استيعاب الميول الطبيعية لأذهان النشأ، فهناك من طلاب العلم من ينبُغ في الأعمال الحرفية من صناعات وإنشاءات لا تحتاج لحشو المقررات العلمية أو الأدبية إلا بقدرٍ قليل، الأمر الذي يستلزم وضع مناهج خاصّة تمكن مثل هؤلاء من تطوير وتحديث المعارف الخاصّة بحرفهم أو فنونهم وذلك في المراحل المبكرة.

ويضيف "المرصفي" أن التعرّف على هذه المواهب ليس بالأمر العسير، إذا ما سلك المعلم نهجًا يمكنه من اختبار القدرة الذهنية للمتعلمين، فيبدأ بالتلقين ثم بشرح المبادئ الكلية دون الخوض في التفاصيل الجزئية.

ثم تبصير المتعلم بخصائص الفن أو العلم الذي يريد تعليمه إيّاه وذلك على نحو بسيط ومرتب ودقيق في آن واحد، أما الخوض في التفاصيل واستعراض الآراء حول المسألة الواحدة تجهد ذهن الطالب المبتدئ وتنفره من التعليم، "إن النفس متى نفرت كان قسرها على التعلم عبثًا أو أقبح من العبث، فأنه لا يتهيأ لها قبول ولا يؤمل منها إدراك".

ثم ينتقل "المرصفي" إلى الحديث عن أليات توجيه المعلم للطلاب وكيفية تقويمهم فبيّن أن أسلوب الشتم والسب أو العنف والقهر يتعارض تمامًا مع رسالة المعلم من جهة وأخلاقيات المهنة من جهة ثانية والمقصد الرئيس من العملية التعليمية والتربوية من جهة ثالثة، وذلك لأن مثل هذه التصرفات تعد انتهاكاً لكرامة المتعلم وتولد فيه صفة الجُبن عن دفع الضرر أو الإساءة، وتدفعه إلى العنف في آن واحد مع الأغيار وكراهية العملية التعليمية والمدرسة والمعلم.

ويقول في ذلك "هذا أول فصل من فصول الشقاوة وأكبرها، يجب على الناس اجتنابه والتحاشي بالكلية عن التلوث بمخامرة شيء منه، والاجتهاد كل الاجتهاد في تحصيل مقابله الذي هو أصل من أصول السعادة، وهو تنقية الألفاظ وتنزيهها عما يوجب نفرة شخص من شخص، وكذلك الأفعال ولا يتأتى إلا بتطهير النفوس وتنزيه القلوب من الغضب السبعي والهوى البهيمي، رجوعًا إلى تحقيق معنى الإنسانية، الذي أبان عنه كل الإبانة دين الإسلام واعترفت بحدة العقول، وجزمت بأنه الأصل الأول لبلوغ سائر أنواع الخيرات".

وأعتقد إننا في حاجة لمراجعة كتابات المجددين في فلسفة التعلم، وذلك لأن معظمها مستنبط من تجارب تطبيقية وممارسات واقعية، والجدير بالملاحظة أن "حسين المرصفي" في حديثه السابق عن مهام المعلم وأخلاقيات مهنته لم يتحدث عن ما ينبغي أن يكون ولم يفرط في المثاليات المستندة إلى الأوامر الدينية أو أقوال الحكماء أو المأثور عن الشعراء، بل كان أقرب إلى المصلح العارف بمواطن إخفاقات العملية التعليمية وسُبل معالجتها، وإذا ما نظرنا إلى ما نعاني منه الأن من سلوك معلمينا وأبنائنا الطلاب سوف نجد علته في تلك الرؤية الناقدة التي يقدمها "حسين المرصفي" في أخريات القرن التاسع عشر.

ويترأى لي أن معظم الانتقادات التي وجهت للنهضويين المصريين من قبل المتعالمين في أجهزة الإعلام لا ترد في المقام الأول إلا لجهلهم بالكثير من كتابات هذا الجيل، الذي أهملوا مشروعاته وسخروا من خطاباته، كما أن الاتهام الذي وجه للمشروعات الإصلاحية التي قدمها أعلام المفكرين في تلك الحقبة وبدايات القرن العشرين لم تجد من يُفَعِّلَها أو يحرص على تطبيقها وتحديثها من المعاصرين، أولئك الذين اكتفوا بوصفها بالرجعية وراحوا يطلبون أدوية الحاضر من النهوج الغربية والثقافات المغايرة، واندفعوا عبثًا يطوعونها لمعالجة بنيتنا المعرفية، متجاهلين مشخصاتنا وهويتنا.

فعلى سبيل المثال توسعنا في إنشاء المدارس الأجنبية وطربنا لتكلم أبنائنا بلسان إنجليزي أو فرنسي في المدارس الأولية وبالطبع أهملنا اللغة العربية.

وكثرة مدارسنا الحكومية ودفعتها الحاجة لقبول حاملي الشهادات الورقية دون أدنى إلتفات إلى معايير المهنية والأخلاق التربوية للمعلم، وأنشائنا المدارس الفنية بنايات وهياكل دون نهوج وبرامج ومعلمين لتأهيل الموهبين من أصحاب الميول والخبرات الحرفية والعملية، بل احتشد فيها جماعات من الفاشلين والهاربين من التعليم والساخطين على النهوج التربوية.

ومن المؤسف أن جامعاتنا قد أصابها الكثير من هذه الأدران وهاتيك الملوثات، الأمر الذي انعكس بالسلب على المنتج المتعلم من أبنائنا، وأصبح معظم خريجي المدارس والجامعات من أحوج الناس لإعادة التأهيل للسير وفق مقاصد التربية والتعليم التي وضعها المجددون في فلسفاتهم؛ لتنشئة جيل واعي مستنير منتمي إلى وطنه وحريص على سلامته ومصلحته.

تهذيب النفس وتثقيف العقل:

وينزع "حسين المرصفي" - مع معظم التربويين في الحضارة الإسلامية بخاصة، والمعنيين بالتعليم وتربية النشأ بعامة - إلى أن أداب المتعلمين وأخلاقيات العلم وأربابه مقدمة على تزويد العقل بالمعارف وتثقيف الأذهان بالمناهج والعلوم، فطالما ردد بعض المقولات المأثورة (إذا عجز المعلم عن تهذيب طلابه، باتت كل دور العلم معقل للأشرار لا يتخرج فيها سوى المفسدين).

ومقولة الشاعر "إنّ المعلم والطبيب كلاهما لا ينصحان إذا هما لم يكرما ... فأصبر لدائك إن أهنت طبيبه وأصبر لجهلك إن جفوت معلماً"؛ وذلك استنباطاً من المأثور "لا تعلموا أولاد السّفلة العلم، فإن علمتموهم فلا تولّوهم القضاء والولاية". وقوله (صلى الله عليه وسلم) "لا تمنعوا العلم أهله فتظلموا، ولا تضعوه في غير أهله فتأثموا".

والمقصود "بالسفلة" ليس الطبقة الاجتماعية أو الجنس أو النسب المنحدر منه الطالب، بل البيئة المنحطة التي نشأ فيها التلميذ؛ فطُبع سلوكه بفسادها وشرّها.

فمن العسير على المعلم أو المدرسة إعادة تأهيل الطلاب وتهذيبهم؛ وذلك لأن أثر البيئة الأولى والعائلة المحيطة به أكبر من تلك السويعات التي يقضيها المتعلم في معيّة مهذبيه.

ويقول "المرصفي" في ذلك "الأدب كلمة دارت على الألسنة، واستخفتها القلوب واستحلتها النفوس واستعملها الناس في التناصح والتزاجر، ونعماً هي والوطنية كلمتين لو تحقق معناهما عند جميع الناس - سكان الأرض الواحدة والأفق الجامع - لم يتعد أحد على أحد وكانوا يداً واحدة في تحصيل المنافع ودفع المضار أمراً يندفعون إليه بالطبيعة سهلاً لا كلفة فيه ولم تكن الحكومة فيهم إذ ذاك إلا تتميماً للنظام وتكميلاً للهيئة وكان الحاكم الشرعي مفتياً لا قاضياً، إذ يكون حينئذ غرض الناس إنما هو استكشاف الحق ومعرفة المشروع، ثم الامتثال والمضي مع الأحكام الشرعية لا يطمع أحد في كسب أحد ولا يستكثر نعمة الله عنده راضياً بأفعال الله, واعترافاً بسابق حكمه".

ويؤكد "المرصفي" على ضرورة التزام المعلمين بمهام وظيفتهم وينظرون إليها على أنها رسالة أدبية وواجب وطني؛ فمسئولية صناعة العقول ليس بالأمر اليسير فالمدرسة هي أهم أعمدة المجتمع وهي البوتقة التي يتخرج فيها بناة المستقبل ومن ثمّ يجب على المعلم أن يتحلى بالحيّدة والموضوعية والصدق والأمانة في شرح المعارف والعلوم لطلابه دون أرائه الشخصية وميوله وانتماءاته حتى لا يتأثر التلاميذ بأفكاره ومذهبه، ويقول "حقيقة الأدب أن يعرف كلٌ حدود وظيفته، فلا يتخطاها حتى لا يكون داخلاً فيما لا يعنيه ويحسن إسلامه كما قال (صلى الله عليه وسلم) (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، ولا يقصر عن تأدية وظيفة فيعد مفرطاً ويعرض نفسه للعتاب أو العقاب، ولهذا المعنى يشير القائل "أي ما روي عن البحتري (820 م – 897 م) " (من تمام جدك وقوفك عند حدك).. وبهذا يتبيّن أنه لا يتم صلاح الأمة إلا بعموم المعارف".

ويوضح مفكرنا إن للمتعلمين رسالة يجب أن يخلصوا في أدائها، ألا وهي توعية الرأي العام وتوجيهه وترغيبه في الاقتداء بهم ومن ثمّ يجب عليهم التحلي بالفضائل الخلوقية والتسامح والبر في ما بينهم والتواضع والوفاء لمن تعلموا على أيديهم والعزوف عن الكبر والتعصب وعدم التعالي على من هم دونهم من أرباب الحرف والعمال والزراع قانعين بأن معيار التفاضل بين كل أفراد المجتمع هو شدة ولائهم لوطنهم وتفانيهم في خدمته، والزود عنه في الداخل والخارج.

فمن السّخف أن نفاضل بين الطبيب والعامل الحرفي تبعاً لطبيعة وظيفته أو أجورهم، بل التفاضل والتنافس في مقدار كل منهم في التمكن من عمله وأمانته في أدائه.

فالواجب على المتعلمين الذين ارتقت أذواقهم وتثقفت عقولهم وسلمت نفوسهم من كل شر تنوير العوام وتنبيه الغافلين وتقويم المضللين والجانحين، وذلك بترغيبهم في دستور الحياة المتمثل في الالتزام بالأدب، ويقول " إنما الواجب على أرباب العلم أن يحثوا على الأدب ويزينوه في القلوب، ويذكروا محاسن فضائله ويرغبونهم فيها، ويكتبون في ذلك رسائل متقاربة الأطراف تتناولها الإفهام ويشافه الناس بها بعضهم بعضاً، حتى تصبح أمراً مستمراً مرعياً خصوصاً مع الناشئة... فلا شبهة بعد في أن أصل عموم الصلاح للأمة هو طهارة الأخلاق، والتحقق بمعنى الوطنية وملازمة الحدود الأدبية، وعلى كل من أسند الله إليه شيئاً من أمور الأمة أن يبذل جهده في أحكامه ويصرف كل أوقاته في الاشتغال به ويدقق النظر في تحسينه، مستعملاً في ذلك الاستشارة وإذا أشير عليه بما هو داخل في التحسين، بادر إلى امتثاله وأسرع في تحقيقه، والله الهادي".

ولا أخفي عليك عزيزي القارئ : صوت نحيب قلمي وأسفه على ما نحن فيه من جنوحٍ وتجاهل وانصراف عن تلك الدروس، وما تحمله الكلمات من أدوية لجل أدوائنا الأخلاقية والاجتماعية والثقافية والتربوية، فأصل الداء في تمردنا على الأدب الذي حسبناه قيداً موروثاً فكفرنا به ورغبنا في عوائد السفلة، وعظمناها تارة باسم الحرية وإثبات الذات واختلاف الأذواق وتطور العقول.

فبات القدح والتهكم والحمق سياجاً يحيط بنا، منطق اصطنعناه في إحداثينا ومناقشتنا في كل الأوساط ومع كل الأغيار، وبات المتعلمون أكثر إقبالاً وإقداماً ورغبةً على كل شاذ وشاطح وجامح، وأضحي الشذوذ مدخلاً للتميز، أما الكذب والتدليس فأمسى لغة المتعالمين، وأمّا العقوق والفجور والتبجح فقد نال حظاً موفوراً في عوائد النشأ، أما القسوة والعنف والاستبداد فأنتحله أهل الرأي والمتطلعين للسلطة.

نعم تلك شكاية قلمي الذي أشفق على صاحب "الكلم الثمان"، فلو قدر له أن ينظر من مقامه إلى واقعنا المعيش لحمد الله على كف بصره حتى لا تلوثه صور الفضائل المذبوحة، التي لم يدرك منها سوى رائحة الأدب الذي استحال إلى جيّفٍ نتنة يصعب التخلص منها أو معالجتها.

ورغم ذلك كله؛ فإن اليأس لم يتملكني ولم أصاب بفيروس الإحباط، فالأمل كامن وسوف تلفظه مصر من رحمها، ممسكاً بحبل الحياء ومصباح العفة، ساعياً إلي المدرسة ليتعلم ويفهم ويعي مواطن الإتقان في "الكلم الثمان".

 

بقلم : د. عصمت نصّار

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم