صحيفة المثقف

متاهة كورونا.. تلاعب غير مبرر!

منى زيتونتجارب المتاهة!: أثناء تدريسي لمقرر علم النفس التربوي نظريًا وعمليًا، كانت هناك تجربة شهيرة تُعرف بالمتاهة، أطلب من الطالبات القيام بها كتطبيق عملي على التعلم بالمحاولة والخطأ، وتتكون المتاهة المستخدمة في معمل علم النفس عادة من صندوق خشبي مكشوف به مجموعة من الطرق، بعضها مغلق لا يؤدي إلى أي مخرج، وبعضها الآخر يتصل الواحد منها بالآخر ويؤدي إلى نقطة النهاية.

وكانت الطالبة تُخبَر بأن عليها أن تتعلم كيف تنتقل من نقطة البداية إلى نقطة النهاية عبر هذه الطرق في عدة محاولات وفقًا لسرعتها في التعلم، وليس هناك زمن محدد لكل محاولة، بل سيتم تسجيل الزمن الذي تستغرقه في كل محاولة، ولن يؤثر عدد المحاولات ولا زمن كل محاولة إطلاقًا على درجتها، كما ولن يتم احتساب الأخطاء، لأن المطلوب أن تتعلم فقط، ويجب عليها أيضًا ألا تفحص الطرق الممكنة بين نقطتي البداية والنهاية قبل البدء، لأن نوع التعلم المستهدف في التجربة هو التعلم بالمحاولة والخطأ.

كانت أغلب الطالبات تستجبن للتعليمات وتتعلمن بشكل صحيح، ولكن دائمًا وأبدًا كانت هناك طالبات لا تلتزمن بتعليمات وشروط إجراء التجربة، فتحاولن اختلاس النظر إلى المتاهة وفحص طرقها بأنظارهن قبل إجراء التجربة لمعرفة كيف تتحركن من نقطة البدء وصولًا إلى نقطة الانتهاء، وهو ما كان يظهر فارقًا بينهن وبين زميلاتهن الملتزمات بالشروط في نتائج المحاولة الأولى للتعلم، فزميلاتهن اللاتي لم يسترقن النظر كان يأتي زمن المحاولة الأولى كبيرًا كونه تعلمًا بالمحاولة والخطأ ليست لديهن أدنى خبرة حوله، ثم يهبط الزمن شيئًا قليلًا في المحاولة الثانية، ثم يهبط بدرجة كبيرة ثم يثبت الأداء بعد عدة محاولات قليلة لأنهن بذلن جهدًا في التعلم، بينما مسترقات النظر كان زمنهن في المحاولة الأولى يأتي أقل بكثير مقارنة بالمحاولة الأولى لزميلاتهن، وبلا فارق يُذكر عن المحاولة الثانية وباقي المحاولات، وكان المنحنى بوجه عام يأتي متذبذبًا، بلا مناطق ثبات أو استقرار في الأداء، والزمن يعلو ويهبط في إشارة إلى تخبط واضح.

وتعلمت من هذه الخبرة مع طالباتي أن هناك من يحاول دائمًا التلاعب بالبيانات الإحصائية متصورًا أنه سيجعل بياناته تبدو أكثر صدقية، ولا يفهم أنه يثبت على نفسه التلاعب! والغباء هنا يكمن في أن التلاعب غير مبرر!

منحنى مشوه!

أصبحت أسترجع هذه الخبرة كثيرًا مؤخرًا أثناء تتبعي للأرقام المعلنة من بعض دول العالم لحالات الإصابة بفيرس كورونا، فتارة يتم تقليل عدد المفحوصين لتخفيض أعداد المصابين المعلنة، ومعروف أن الأعداد التي تُعلن للمصابين تتناسب مع عدد من تم تشخيصهم بأخذ المسحات وغيرها من طرق التشخيص، وتارة نسمع ونشاهد شهادات أطباء بأنهم تلقوا مخاطبات رسمية بتسجيل الإصابة بفيرس كورونا كسبب للوفاة، وأن هناك محاولات لتضخيم أعداد المصابين والمتوفين في الولايات المتحدة الأمريكية تحديدًا.

ومع فيرس لا زالت تُجرى الدراسات حول أفضل الوسائل لتشخيصه، وبحسب أغلب الباحثين فإن 80% من المصابين به لا تكاد تظهر عليهم أية أعراض، فلا ينقصنا إلا محاولات التلاعب في البيانات المتاحة لأجل إحداث مزيد من الهلع والذعر في العالم. فضلًا عن عدم الشفافية بشأن أعداد الحالات الحرجة في كثير من البلدان؛ ما يجعل هناك ضبابية حول حقيقة الوضع الصحي في العالم.

وبالنسبة لمصر، يحق لي أن أتساءل: من أين فهمت وزيرة الصحة المصرية أن أداء الوزارة سيُقيم بشكل سيء في حال سجلت أعداد مصابين أكثر بالفيرس وأنه ينبغي المحافظة على أعداد المصابين المعلنة في حدود معينة؟! علمًا بأن معدل الإصابات بالنسبة لعدد السكان، ومعدل النمو اليومي للإصابات في مصر لا زال صغيرًا جدًا، ومتوقع انكسار المنحنى وهبوط الأعداد قبل نهاية شهر مايو.

لقد بدأت إحصائية الأعداد المسجلة لدينا في مصر في منتصف شهر فبراير المنقضي بأعداد قليلة للغاية يوميًا، فكانت بالعشرات ولم تطأ خانة المئات، وتم المحافظة على هذا المعدل المنخفض لحوالي ثلاثة أشهر، ثم هبطت الأعداد لأيام معدودات، وانكشف السبب وراء هذا الانخفاض بأنه قد حدث بعد تقليل عدد المسحات اليومية، ثم فجأة -وفي الأيام الأخيرة- حدثت طفرة في أعداد المصابين المعلنة اليومية، لتعويض عامل الزمن!

وبدا للمتابع أن هناك رغبة واضحة في زيادة أعداد الإصابات المعلنة في مصر لتتناسب نوعًا ما مع عدد السكان، فزادت المسحات التشخيصية ومن ثم زادت أعداد الحالات الإيجابية، وكان أغلب من تم حجرهم ممن لا تظهر عليهم أعراض! وكذلك تم الإعلان عن إصابة بعض المشاهير كمحافظ الدقهلية ووزير البترول السابق وفنانة شهيرة، وهي طريقة غير مباشرة للإيحاء بوجود شفافية في الإعلان عن جميع الحالات الإيجابية بلا استثناء، وهو ما أصبح مشكوك فيه.

وجاءت هذه الزيادة على خلاف الحال في كثير من دول العالم الأشد تضررًا بالفيرس والتي انقضت ذروة المرض فيها منذ زمن؛ فالصين -بؤرة التفشي الأولى للفيرس- أعلنت سيطرتها على المرض منذ حوالي شهرين. ومنذ منتصف مايو تتوالى على أسماعنا أخبارًا تأتي من دول عديدة بتراجع حالات الإصابة وأعداد الوفيات من جراء المرض، منها دولًا عربية تجاورنا كالأردن وفلسطين وليبيا، بل سُجل التراجع في الدول الأكثر تضررًا من الفيرس بأوروبا كإيطاليا وإسبانيا وفرنسا. كما أعلنت السلطات الصحية في كوبا عن حالتي وفاة فقط بكورونا خلال الأيام الماضية. وفي اليابان أعلنت السلطات الخميس الماضي إلغاء حالة الطوارئ المفروضة لمكافحة تفشي كورونا وذلك في ثلاثة أماكن غرب اليابان.

فهل يُعقل أن ترتفع أعداد المصابين في مصر بهذا الإطراد في الوقت نفسه الذي تنحفض وتتراجع فيه أعداد الإصابات في جميع الدول من حولنا، وأكثر من 95% من هؤلاء المعدودين لم يحولوا إلى مستشفيات العزل بل عزلوا في المدن الجامعية لعدم وجود أعراض طبية خطرة لديهم! لكن، في الوقت ذاته يتم رفض أخذ مسحات وعزل من تظهر عليهم الأعراض؛ لدرجة أن فقدنا أربعة من شباب الأطباء في أول أيام عيد الفطر!

وإذا أردنا مواجهة مشاكلنا فعلينا أن نكون صرحاء؛ إذ يبدو أن هناك أناسًا لا يبلغون عن إصابتهم أو عن وجود حالات مصابة بفيرس كورونا لديهم من الأقرباء إلا في حال عدم تحسن المصاب واستشراء المرض، وعندها تتلكأ أجهزة وزارة الصحة وتتردد في قبول عزل المرضى، ليقين تلك الأجهزة أن احتمالات نجاتهم ضعيفة، وقد يموتون بالفعل، فتزيد من ثم أعداد الموتى في إحصائياتهم.

والحال يشبه ما كان يحدث في مستشفى سرطان الأطفال 57357 من رفض لأي حالة مرضية تلقت علاجًا سابقًا ببروتوكول غير البروتوكول العلاجي المستخدم فيها، لأن إدارة المستشفى تتوقع عدم تقدم الحالة بعد تلقيها علاجًا سابقًا خاطئًا، وهي بهذا تضع لنسب الشفاء المرتفعة لبروتوكول المستشفى الأولوية عن تقديم العلاج للمرضى!

وكمواطنة لدي قدر كافٍ من التعليم والثقافة العلمية تذكرني متابعة ما يحدث بالطالبة الفاشلة التي كانت تحاول الغش –بغشومية- في بيانات التجربة بلا مبرر فيأتي المنحنى مشوهًا عجيبًا غريبًا يكاد ينطق بحدوث تلاعب فيه!

زفات الفيسبوك

ويبدو أن الوزارة لا تدرك أثر البلبلة التي يحدثها تزايد الحالات التي تأخرت في تلقي العلاج وباتت حرجة، والتي تعاني أو يعاني أقرباؤها للتبليغ عنها وقبولها في مستشفيات وزارة الصحة لتلقي العلاج، أو الحالات التي توفي أصحابها بالمرض مع تأخر أو رفض عزلهم من قِبل وزارة الصحة المصرية؛ إذ يصاحب المنشورات عن كل حالة من تلك الحالات على صفحات وسائل التواصل -على الفيسبوك تحديدًا- من أقاربهم وأصدقائهم هرج ومرج وضجة لا تماثل أو تقارب الإعلان اليومي عن 500 إصابة و 20 وفاة! وهي المشكلة الأكبر من وجهة نظري التي تمنع المواطن من تقييم الوضع دون تهويل أو تهوين.

ولا أعلم من هو المسئول تحديدًا عن هذا الغباء برفض قبول المرضى المتأخرة حالتهم، وألا يُقبلوا إلا بعد زفة على الفيسبوك، وبعضهم يموت قبل أن تلتفت إليه أجهزة الوزارة! وبعد أن يكونوا قد أسهموا في خلق حالة من الهلع لدى باقي الشعب عند نشر تطورات الموقف على وسائل التواصل الاجتماعي، تشعرنا بأن كورونا يفتك بنا، رغم أن أعداد الإصابات ومعدل نمو الأعداد اليومي من أضعف ما يكون، حتى بعد طفرة زيادة الأعداد في الأيام الأخيرة.

توفير في غير محله ولا وقته!

في عدد المثقف صباح الخميس الماضي كتبت متسائلة عن افتقادنا للبيانات الإحصائية ذات القيمة في البيان اليومي لوزارة الصحة المصرية عن تطورات إصابات فيرس كورونا؛ حيث يتم إخفاء أعداد المصابين ذوي الحالات الحرجة؛ وهو من أهم المنبئات لمدى تفشي الجائحة ودرجة خطورتها، وبالمصادفة البحتة جاء بيان وزير التعليم العالي ظهر يوم الخميس الماضي –يوم نشر المقال- عن وضع الخدمات الصحية متضمنًا إحصائية مختصرة عن حجم المنظومة الصحية الحكومية، وإحصائية أخرى عامة عن أعداد الحالات الحرجة.

أظهرت الإحصائية أن إجمالي عدد أسرة المستشفيات الحكومية بمصر (وزارة الصحة + المستشفيات الجامعية) هو 92.757 ألف سرير، وعدد أسرة الرعاية المركزة 9264 سرير، وعدد أجهزة التنفس الصناعي 5237 جهاز، بدون إضافة مستشفيات القوات المسلحة والداخلية وباقي الوزارات. وبالنسبة للحالات الحرجة: يوجد حاليًا في مستشفيات العزل 2000 مصاب فقط، من بينهم 250 بالعناية المركزة و50 على أجهزة التنفس الصناعي، وباقي المصابين المعزولين حالاتهم أفضل وانتقلوا لأماكن عزل ثانية وأغلبها المدن الجامعية. وهذه البيانات تعني أن الوضع ليس حرجًا وليس في سبيله ليكون كذلك.

وأرى أنه حتى مع تأكدنا من وجود حالات لا تظهر عليها أعراض أو تظهر عليها أعراض خفيفة فإن ذلك يصب في صالح نظرية التخفيف من إجراءات الحظر، ويؤكد نظرتي التقييمية بأن الوضع ليس خطرًا إجمالًا في ضوء البيانات المتاحة، ومن الواضح أنه سينفرج قريبًا بعد إجازة العيد، بل هو انفرج بالفعل، وطفرة الزيادة في أعداد المصابين في الأيام الأخيرة لا وزن لها لعدم وجود حالات حرجة بينها، ولكنه كان قرارًا صائبًا بعدم الإعلان عن انفراج الوضع في العشر الأواخر من رمضان أو إجازة العيد، وربما كانت الفائدة الوحيدة –رغم التلاعب الواضح- في زيادة عدد المسحات لزيادة الأعداد المعلنة هو تخويف الناس من زيادة الاختلاط، وهو أمر جيد قبل الانكسار التدريجي للمنحنى الذي سيبدأ قريبًا مع استمرار سياسة التباعد الاجتماعي وأخذ الاحتياطات قدر الإمكان.

لكن السؤال الذي ينبغي علينا أن نسأله الآن هو: طالما لدينا أسرة مستشفيات وأجهزة تنفس صناعي فائضة، لماذا نسمع عن حالات متكررة للإهمال الطبي من وزارة الصحة حتى في حق الأطباء؟!

والبيانات الأخيرة التي أعلنها وزير التعليم العالي تشير إلى أن المنظومة الصحية كبيرة وقادرة على احتمال أعدادًا أكبر بكثير من أعداد المرضى الحاليين؛ ما يجعلنا لا نفهم مبررات حالة الشُح في تقديم الخدمات الصحية لمن يحتاجها، سواء من الأطباء المصابين أو غيرهم من المرضى، في الوقت ذاته الذي تكون فيه الدولة على أهبتها بعد إعلان مرض فنانة كبيرة بالفيرس، مع حجز حجرة للعناية المركزة وجهاز تنفس صناعي لها لاحتمال احتياجها إليهما لاحقًا في حال ساءت حالتها. ولا أريد أن يُفهم كلامي خطأً فهذه الفنانة لها الحق في العلاج، ولكن لغيرها أيضًا الحق فيه.

ولكن لماذا يتم تصدير أخبار الفنانين لنا في محاولة التغطية على أخبار الأطباء؟! ولماذا تتكرر محاولات النيل من الأطباء والتضييق عليهم، والكيد لهم حتى في تأخر أو عدم توفير الرعاية الصحية عند تأكد إصابتهم؟ هؤلاء هم ذخر الوطن وزبدة عقوله، والبلدان التي تريد التقدم تعرف لهم قدرهم.

وخلاصة ما يمكن استنتاجه من خلال البيانات المعلنة أن هناك قدرًا محدودًا من إمكانياتنا الصحية فقط هي المتاح استخدامها للمدنيين حتى في ظروف كالتي تمر بها البلاد، والبقية الباقية متروكة دون استخدام في حال ساءت الأوضاع وتفشى الفيرس، واحتاجتها الفئات المميزة في المجتمع من عسكريين وشرطة وقضاء وغيرها! علمًا بأن هذه الفئات لها مستشفيات خاصة بها، فلماذا تُستبقى مستشفيات حكومية دون تفعيل خدماتها للمواطنين المصابين؟ ولماذا لا يتم تخصيص مستشفيات عزل جديدة من بين المستشفيات الحكومية، أو نقل أجهزة تنفس صناعي من المستشفيات غير المخصصة للعزل إلى الأخرى التي يوجد بها عزل للمرضى؟ وسأقولها بالبلدي: أنتم بتستخسروا فينا؟!

 

د/ منى زيتون

الأربعاء 27 مايو 2020

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم