صحيفة المثقف

ما بين استهلاك المعرفة العلمية وإبداعها:

علي اسعد وطفةتوطين المعرفة وتأصيلها خليجيا عربيا؟

تكمن قوة أمة ما في قدرتها الإبداعية وهذا قول لا يختلف عليه مفكران في العالم المتحضر، فعندما تباشر أمة من الأمم فعلها الإبداعي ستكون قادرة بالضرورة على تسنم مركب الحضارة في أرقى تجلياتها. أما التقليد فهو انتحار كما يقول مارفا كولنز. فالأمم التي اعتمدت الابتكار منهجا هي الأمم التي تسود عالم اليوم، وتفرض هيمنتها الحضارية فيه، ويقابل ذلك أن الأمم التي تعتمد التقليد الجامد للغرب، والاستهلاك السلبي للمعرفة العلمية، ما زالت حتى اليوم تتخبط في الدرك الأسفل من الحضارة الإنسانية. فلم يعد المال تلك القوة التي تفرض الحضارة كما تؤكد كل الدراسات والبحوث العلمية ولم يعد العنصر الحاسم في التحضر والتقدم إذ تنحى وترك مكانه للإبداع والابتكار والإنجاز في العلم والمعرفة العلمية والتكنولوجيا. ولم يعد يكفي اليوم نقل المعرفة والتكنولوجيا لتشكيل الحضارة بل أصبح توطين المعرفة بالإبداع والتجربة هو السبيل الأعظم للنهضة الحضارية والقوة الاقتصادية. فالدول التي تمتلك الثروات الاقتصادية الخام لم تحقق ثراء وقوة اقتصادية مثل أغلب الدول النامية المنتجة للنفط والذهب والغاز، وبالمقابل فإن الدول التي تفتقر إلى الموارد الطبيعية هي الدول التي انتفضت وسادت وتطورت بفضل العلم والمعرفة والابداع في البحث العلمي مثل سنغافورة وماليزيا وفنلندة والسويد واليابان وهونغ كونغ والصين.

هذه الدول التي حققت مجدها الاقتصادي ونهضتها الحضارية هي الدول التي استفادت من تجارب الغرب فتعلمت منه وأضافت إلى المعرفة بالمعرفة الإبداعية واعتمدت الابتكار منهجا وطريقة إلى المجد الحضاري. وهذا هو الفارق بين الدول التي تقدمت وبين الدول العربية التي تخلفت لأنها لم تعتمد العلم والابتكار وتوطين المعرفة منهجا حضاريا. ونجد هذه المعادلة واضحة في فلسفة مالك بني نبي عندما يحاول تفسير الفرق بين نهضة اليابان وسقوط العرب في المستنقع الحضاري بقوله: « إن اليابان وقفت من الحضارة الغربية موقف التلميذ ووقفنا نحن العرب والمسلمين موقف الزبون، واليابان استوردت من الحضارة الغربية المعارف بوجه خاص واستوردنا نحن منها البضائع الاستهلاكية". ففي التقليد مقتل الأمم ومصرع الحضارات لأن التقليد يشكل حضارة المستنقعات بينا يؤدي الإبداع وتوطين المعرفة إلى تفجير الطاقات والينابيع الثرة للحضارة لأنه وكما يقال في الإبداع تكمن حياة الأمم وتسطر أمجادها وفي التقليد يرتسم موتها وفناؤها.

إن أحد أهم وأخطر عوامل تخلف المجتمعات العربية يكمن في مجافاة العلم ونبذ الإبداع ورفض العمل على توطين المعرفة العلمية. فالعرب يستوردون المعرفة، يستجلبون الحضارة، ينقلون التكنولوجيا، ويستهلكون العلم بصورة سلبية وهم في ذلك يمتلكون قصب السبق، ولكنهم قلما ينتجون المعرفة، أو يبدعون العلم، أو يبتكرون التكنولوجيا، أو يوطنون المعرفة، وقد اعتمدوا بدلا من ذلك التقليد الأعمى والاستنساخ الجاهل لمعطيات العلم والمعرفة ضمن أطر ضيقة تفرضها الحاجة رفضا لتوطين المعرفة وتشكيلها وإبداعها. فالعالم المتقدم كان قد ارتهن بالمعرفة توطينا وإبداعا وخلقا وابتكارا. نعم قامت الدول التي تقدمت مثل اليابان وكوريا وسنغافورة والصين بنقل المعرفة ثم بتوطينها ثم بإبداعها وابتكارها وتطويرها وعملوا الليل وصلا بالنهار على مدى سنين في ميدان الابتكار والإبداع فاستطاعوا أن يرسموا مجد حضارتهم وقوتهم المعاصرة. أما نحن العرب فقد استوردنا واستهلكنا معطيات المعرفة والتكنولوجيا بصورة سلبية حتى أصبنا بالثمالة العدمية، فسقطنا في مستنقعات الاجترار العلمي والاستهلاك العدمي للحضارة. وهنا يكمن سر من أسرار تخلفنا الكثيرة التي تترابط وتتماسك ويشد بعضها بعضا لتشكل حصنا حصينا للتخلف الوجودي والسبات الحضاري.

العالم العربي مع الأسف لم يتفاعل مع العلم والتكنولوجية على نحو يؤدي إلى توطينهما أو تطويرهما. " وعلى الرغم من توفر الفرص الحيوية للاستثمار في المعرفة والإبداع في العلم والتقانة فضل العرب خيار الاستهلاك ثم الاستهلاك حتى النخاع وما أتقنوه هو فن الشراء و الاستهلاك السلبي ومنهج التقليد والاستنساخ الساذج لكل ما هو قادم من الغرب وقد أدى ذلك بالضرورة إلى تهميش خيار التصنيع من أجل الشراء الأفضل، وقد أدى ذلك بمقتضى الحال إلى توليد فجوة معرفية رقمية حضارية هائلة تفصل العالم العريب عن العالم المتقدم " ومثل هذه الفجوة الحضارية ليس من السهل ردمها، و ليس من الممكن تجاهلها، فوجود هذه الفجوة يحتم العمل الجاد و المؤسس من أجل التجاوز وفق خطط استراتيجية واضحة "[1].

فاستيراد التكنولوجيا والمعرفة العلمية لم يؤدي إلى توطين المعرفة وتطوير البحث العلمي، وهناك أسباب عدة لذلك كما ورد في تقرير التنمية الإنسانية العربية منها: "الاعتقاد الخاطئ بإمكانية بناء مجتمـع المعرفـة من خلال استيراد نتائج العلم دون الاستثمار في إنتاج المعرفة محلياً والاعتمـاد فـي تكـوين الكوادر العلمية على التعاون مع الجامعات ومراكز البحث في البلدان المتقدمـة معرفيـاً دون خلق التقاليد العلمية المؤيدة لاكتساب المعرفة عربياً .[2]

لقد دفعت بنا النزعة الاستهلاكية المتمثلة في النقل الجامد للمعرفة والتكنولوجيا إلى نوع من التبعية المخيفة للغرب والدول المتقدمة فوقعت الدول العربية في مدارات الهيمنة التي تفرضها الشركات «الاستشارية» العالمية التي تفكر وتدرس وتستشرف بالنيابة عنا، " وتكلفنا أضعاف ما يمكن أن نحققه من دعم مراكز الفكر الوطنية ومنظومة البحث العلمي وتطويرها، وأيا كان الوضع فيما يتعلق بمستويات الإنفاق الراهن على الأبحاث والتطوير لدينا وما يراه متخذو القرار، فإن المؤكد حاليا أن العالم المتقدم اتخذ قرارا دائما بزيادة إنفاقه في هذا المجال الحيوي، ليس لأسباب ترفيهية وإنما باعتبار هذا التوجه هو قاطرته ليس فقط إلى التنمية المستدامة بل إلى السيادة الاقتصادية " [3].

لقد أصبح استهلاك المعرفة العلمية سلبيا، ونقلها دون توطينها، وجلب التكنولوجيا دون إبداعها، واستنساخ التجارب الغربية دون نقدها منهجا وطريقة في دول الخليج العربي كما هو الحال في العالم العربي. لقد أضعفت سياسات الدولة الخليجية التنموية المجافية للمعرفة العلمية وتيرة تطوُّر البحث العلمي المحلي في مجتمعاتها؛ وذلك عندما "اندفعت إلى الاعتماد على أعداد هائلة من الشركات الأجنبية الوافدة في تنفيذ مشروعاتها الخدمية والعمرانية والترفيهية، وعندما منحت تلك الشركات ما تسمى (مشاريع امتلاك المفتاح)، أي منح الشركات كامل المشروع من البحث إلى التخطيط فالتنفيذ ومن ثم الصيانة" [4]. وكان حريا بهذه السياسيات أن تعتمد على مؤسسات البحث المحلية ومشاركتها في البحث والتطوير كي تحقق التراكم المعرفي المطلوب ولتكون قادرة على تطوير خبراتها وإمكاناتها، وبالنتيجة فإن حرمان مؤسسات البحث الوطنية فرص البحث والمشاركة إعلانا بالقضاء على مختلف المحاولات الوطنية في تحقيق التراكم العلمي المطلوب والتوطين المعرفي المرغوب وبدلا من التوجه نحو الإبداع والـأصيل والتوطين توجهت هذه المؤسسات البحثية والباحثين نحو تمثل الخبرات الأجنبية لتنفيذ مشروعاتها الخدمية والعمرانية والترفيهية. [5]

ومع الأهمية الكبيرة لما سجلته دول الخليج العربية الخليجية من تطور في مجال التنمية الاقتصادية والصناعية حيث يربو عدد المنشآت الصناعية في دول المجلس على 7300 مصنعا يتجاوز حجم الاستثمار فيها 80 مليار دولار وتستخدم أحدث التقنيات وتطرح منتجات بمواصفات وجودة عالية، " وعلى الرغم من وجود العديد من مراكز البحث العلمي في دول المجلس في مقدمتها مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، ومعهد الكويت للأبحاث العلمية، ومعهد البحوث في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن والعديد من الجامعات الخليجية الأخرى، إلا أن دول الخليج العربية لا تزال تعتمد على استيراد الخدمات التكنولوجية المعظم الصناعات القائمة والمشاريع الجديدة" [6].

فالباحثون في دول مجلس التعاون الخليجي – كما هو الحال في العالم العربي - يواجهون تحديات كبيرة تتمثل في تهميش دورهم العلمي وعدم الثقة بأبحاثهم ومنشآتهم البحثية، "وتتمثل هذه المشكلة في انعدام الثقة بهم وعدم الاستفادة من أبحاثهم وتوصياتهم التي بنيت على أسس علمية. فالحكومات الخليجية غالبا ما تلجأ إلى الخبراء الأجانب والمؤسسات العلمية في البلدان الغربية وتقدم لها الأموال الطائلة في من أجل الحصول على الدراسات والبيانات دون أن تعير اهتماما كبيرا للباحثين المحلين ودون أن تعطيهم فرصة للعمل العلمي والنشاط الفكري الذي يشكل بدوره تجربة تراكمية تصب في مصلحة الدولة الوطنية. وقد أدى هذا الأمر إلى حالة من الركود العلمي والتراجع المعرفي وتردي البحث العلمي في دولنا الخليجية إلى الحضيض، وما يلفت الانتباه في هذا السياق " أن هؤلاء الخبراء الأجانب في نهاية المطاف يلجؤون إلى الباحثين والمتخصصين في الجامعات الخليجية وذلك لعلمهم اليقين بدراية هؤلاء الباحثين بأمور المنطقة وقربهم من المتغيرات التي تحدث في المنطقة[7].

ويرى اليوم كثير من الباحثين أن الاعتماد على استيراد كل مظاهر الحياة، ابتداء من الإبرة إلى الصاروخ، ومن الرغيف إلى الماء المعلب، هو أحد أسباب تخلف العرب وتهالك التنمية في مجتمعاتهم". وفي هذا يقول عبد العزيز المقالح: " بأن الواجب يدعونا إلى أن نكون على درجة عالية من الصراحة، وأن نواجه أنفسنا بالحقائق، وإن كانت مؤلمة ومريرة، وإذا أردنا البدء في التغيير ينبغي أن لا نغضب أو نثور إذا قيل عنا إننا أمة مكوّنة من مجموعات من الكسالى والعجزة، نريد أن ننام في دعة ونصحو، فنرى كل شيء في انتظارنا من السيارة اليابانية إلى الثلاجة البريطانية، ومن الجبنة الهولندية إلى الثوم الصيني"! [8].

فهناك مؤسسات علمية وجامعات أجنبية نشطة في دول الخليج العريب، وهي تسعى إلى تحقيق الربح بالدرجة الأولى، ومثال ذلك المعهد الفرنسي للبترول الذي قام بإنجاز 156 عقدا بحثيا للتطوير العلمي، ونشر أكثر من 500 بحث علمي، ونظم العشرات من الحلقات والدورات التدريبية لأكثر من 8000 مشارك، وقد وصلت أرباح هذا المعهد بنشاطاته داخل الخليج أن يحقق أرباحا وصلت إلى 18 مليار فرنك فرنسي[9]. وهذه الدخول الجبارة والمبالغ الضخمة التي تجنيها الشركات الأجنبية في مجال الاستثمار العلمي كان يمكن أن توظف لصالح التنمية باعتماد مؤسسات علمية عربية لتقوم بمثل هذه الأبحاث أو على الأقل بالتعاون مع المؤسسات العلمية الغربية لتحقيق ما يسمى بالتراكم المعرفي المحلي أو الوطني الذي يشكل بذاته طاقة تنموية ضرورية للمجتمعات المحلية.

وتشير بعض الدراسات إلى أن مؤسسات الدولة، ومؤسسات القطاع الخاص، في معظم البلدان العربية، تتوجه في تلبية حاجاتها، من المعارف والتقنيات في ميادين الإنتاج والخدمات، إلى جهات أجنبية دون أن تأخذ بعين الاعتبار الإمكانيات المحلية ودون أن تعنى بالمؤسسات العلمية الوطنية ودون أن تستأنس بالجامعات التي يمكنها أن تؤدي دورها الفعال في مختلف ميادين الحياة الاقتصادية والخدمية[10].

ويقوم اليوم الباحثون العرب بإثارة هذه الظاهرة الاستهلاكية ويقدمون كثيرا من المقترحات والتوصيات الكفيلة بمعالجتها، وهم يركزون اليوم على التعاون والتنسيق بين القطاعين الحكومي والخاص، والإنفاق بشكل أكبر على عملية البحث العلمي، "وإنشاء المزيد من مراكز البحوث، ودعم القائم منها، وبخاصة فيما يتعلق بتسويق مخرجاتها من نتائج البحث لكي تجد طريقها إلى التنفيذ العلمي، وإيجاد آلية مناسبة للتنسيق والتعاون سواء بين مراكز البحوث الخليجية نفسها، أو بين هذه المراكز والمنشآت الصناعية لضمان عملية النقل الفعلي لنتائج البحوث إلى الصناعة، وتوفير البيئة المناسبة من التشريعات المنظمة للبحوث والحوافز للاستفادة منها" [11].

وأخيرا وليس آخرا فإن توطين المعرفة العلمية في دول الخليج العربي وفي الدول العربية بعامة يتطلب تجاوز النظرة التي لا ترى في العلم والتكنولوجيا أكثر من سلعة تستورد وتشترى وتستجلب، وهذا الأمر يتطلب نقلة حضارية في النظرة إلى العلم والبحث العلمي بوصفهما نابضا حضاريا، كما يتطلب العمل على بلورة استراتيجية فعالة ونشطة في مجال البحث العلمي والتطوير؛ وهذا يعني بالضرورة إعادة تشكيل الرؤية الجديدة إلى الإبداع العلمي وتوطينه وتأصيله بوصفه القوة الجبارة التي تنهض بها الأمم وتتقدم على مدارج الحضارة الإنسانية.

 

د. علي أسعد وطفة

جامعة الكويت – كلية التربية

.....................................

هوامش المقالة:

[1] - فؤاد محمد عيس السني، أين نحن العرب من اقتصاديات المعرفة، مجلة الأسواق، العدد 120، جدة، المملكة العربية. السعودية، 2005، ص 29.

[2] - برنامج الأمم المتحدة، تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2003م، نحو إقامة مجتمع المعرفة،  عمان : المكتب الإقليمي للدول العربية، المطبعة الوطنية، 2003.

[3] - خالد عباس طاشكندي، مستقبل الإنفاق على البحث العلمي!، العربية الجمعة 13 نوفمبر 2015. http://bitly.ws/8GLw

[4] - رسول محمد رسول، إشكالية البحث العلمي في منطقة الخليج العربي: من سلطة التوظيف الأيديولوجي إلى نخبويَّة تداول المعرفة، مجلة آراء حول الخليج، مركز الخليج للأبحاث، العدد 36، سبتمبر 2007، (صص 30-31) ص 31.

[5] - رسول محمد رسول، إشكالية البحث العلمي في منطقة الخليج العربي: من سلطة التوظيف الأيديولوجي إلى نخبويَّة تداول المعرفة، مجلة آراء حول الخليج، مركز الخليج للأبحاث، العدد 36، سبتمبر 2007، (صص 30-31) ص 31.

[6] - نبيل علي صالح، البحث العلمي في دول الخليج العربي :الواقع والآفاق، مركز الخليج مركز الخليج للأبحاث، العدد 36، سبتمبر، 2007، (صص 32-37) ص 36 .

[7] - أحمد علي مراد، هموم البحث العلمي في دول مجلس التعاون الخليجي، آراء حول الخليج، العدد 36، سبتمبر 2007 (صص 50-52) ص 51.

[8] - عبد العزيز المقالح، واقع البحث العلمي في الجامعات العربية، مركز الجزيرة للدراسات 9 نوفمبر 2009، شوهد 16/2/2020.

http://studies.aljazeera.net/ar/issues/2009/201172224912109548.html#1

[9] - أحمد السيد تركي، البحث العلمي في دول الخليج بين الأفاق والتحديات، آراء حول الخليج، العدد 36، سبتمبر 2009، (صص 97-99)، ص 99.

[10] - عبدالله عبد الدائم،  استراتيجية تطوير التربية العربية. المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس 1995م، ص138.

[11] - أحمد السيد تركي، البحث العلمي في دول الخليج بين الأفاق والتحديات، آراء حول الخليج، العدد 36، سبتمبر 2009، (صص 97-99)، ص 99.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم