صحيفة المثقف

أصول الثقافة الثوريِّة في القرآن

مجدي ابراهيمتظهر الأصول الثوريّة كدعائم ثقافية في الأديان الكتابية على وجه الخصوص، وتحيطها الكتب المقدَّسة إحاطة مركزة؛ فالتوراة والإنجيل والقرآن مصادر أولية مرجعية لأصول الثقافة الثورية، لكن أشملها مصدراً وأصدقها أصلاً هو القرآن الكريم؛ لأنه أثبتها قيمة وأحكمها سياقاً وأكثرها اتساقاً وأحفظها علماً وإحاطة، وأقدرها قناعة للقارئ الموضوعي المقارن بين ودائع الكتب المنزلة المقدسة، والمستنبط ببصيرته الواعية مقدار الاتساق بين نصوصها وحروفها.

فالنقد اللغوي والتاريخي يبرز أحقية القرآن لصفة الصدق والشمول وفي أحكام العلم والإحاطة، وبخاصّةٍ فيما لو وضعنا في الاعتبار تحريف التوراة وتبديل الإنجيل، وأن العبث من طريق التحريف والتبديل يقدح في مرجعيتهما في حين يثبت مرجعية القرآن الكريم.

ويعدُّ النقد التاريخي للكتب المقدَّسة على وجه العموم أحد المناهج العلمية التي اتسمت بها الفلسفة الحديثة، كما يعتبر في المجمل من أهم مكاسب الحضارة الأوربية بالنسبة لدراسة التوراة والإنجيل، نتجت عن تأليه العقل في القرن السابع عشر، واخضاع الطبيعة له، فكما يكون هناك نظام للطبيعة، تكون هناك قوانين لضبط صحّة الرواية، ولا فرق بين الظاهرة الطبيعية والنص الديني : كلاهما يخضع للقواعد العقل. وقد حمل لواء النقد التاريخي واللغوي في هذا القرن ثلاثة : سبينوذا، وريشارد سيمون، وجان أوستريك. 

هنالك كان النقد في حدّ ذاته يمثل ثورة على الانحراف عقلية، على جمود تراءى في متون النصوص بوصفها مقدسة وهى لا تحمل في داخلها إلا الاضطراب. ولم يكن النقد التحليلي لكتب العهد القديم بالذي يغفل التناقض في أسفار المِقْرَا أو يتجاهل وجوده الظاهر من أول وهلة لا من جهة العلم أو العقل أو التاريخ. وقد كان سبينوذا بحق من أوائل الفلاسفة اليهود الذين وضعوا لأنفسهم منهجاً نقدياً لغوياً يقوم على دعائم النقد ومقارنة النصوص بعضها بالبعض الآخر, ومعرفة ظروف تدوينها واللغة التي كتبت بها, وعلى الفحص التاريخي اللغوي لكي يتم له تحقيق النصوص ومعرفة مدى صحتها واتساقها حيث قال: "عقدتُ العزم على أن أعيدَ من جديد فحص الكتاب المقدس بلا ادعاء وبحرية ذهنية كاملة, وألا أثبت شئياً من تعاليمه أو أقبله ما لم أتمكن من استخلاصه بوضوح تام منه. وعلى أساس هذه القاعدة الحذرة وضعتُ لنفسي منهجاً لتفسير الكتب المقدسة" (رسالة في اللاهوت والسياسة : ص 114)، وهو ما طبقه في نقده لأسفار الكتاب المقدّس، إذْ أظهر التناقض وأوضح إمارات الاضطراب.

ولئن كان النقد يمثل ثورة من جهة العقل التحليلي، إذ يظهر الاضطراب في النصوص، بفعل التدخل البشري؛ فإنّ أصل النص نفسه - قبل أن يُحرف - يمثل ثورة من جهة الوحي على كل وضع مقلوب؛ فثورة النقد العقلي إذن تصحيح لمسار ثورة الوحي، تواكبها وتماشيها كحذو النعل بالنعل، هى تكميل لها وتتميم، إذ كانت الغاية الهادفة التي يرومها قصد الإصلاح سواء من جهة الوحي أو من جهة العقل.

ولا يعني هذا، طبعاً، أن ثورة الوحي كانت ناقصة، فكملها العقل ثم تمّمها بعد نقصان؛ بالطبع لا، ليس هذا هو المقصود؛ فالتمام والكمال في الوسائل الإدراكية هو المقصود : في المناهج التي توصّل إلى المقاصد، إذْ العقل وسيلة شريفة لإدراك حقيقة الوحي، وإدراك صحة مقاصده. ومن هنا؛ كان التمام : بمعنى التماس المقاصد بالوسائل الشريفة.

ولم يشأ الفلاسفة المسلمون (ابن سينا، وابن طفيل، والسّهروردي المقتول) مثلاً فيما وضعوه من قصصهم الرمزية إلا أن تكون المقابلة بين مقاصد الوحي وصحة المقاصد العقلية في نهاية المطاف واحدة؛ لأن ثورة الوحي المقدّس في تصحيح الأوضاع المقلوبة هى نفسها ثورة العقل الذي يتخذ من النقد تصحيحَ مَسَار لغاية واحدة ولهدف واحد. وعليه؛ فاتفاق مقاصد الوحي مع عمل العقل النقدي، واستغراقه الدائم في البحث عن الحقيقة ومحاولة كشفها أمام البصائر والأنظار إنما هو شرعة مقبولة وهو شيء مُقرَّر فيما لو صحت هداية العقل بهدى البصيرة والإيمان. أمّا البصيرة العقيمة والإيمان الضعيف فهما اللذان يعطلان عمل العقل النقدي في الوصول على الغاية الصحيحة.

ولا يلزم من تقرير الصحة في ثورة الوحي أن تكون معارضة لعمل العقل النقدي؛ لأن هذا التعارض ينفي شرط الثورة كونها تغييراً جذرياً لواقع متردي، وينفي من ثمَّ قيامها في المجمل على مشروط العادة؛ باعتبار العقل النقدي فيها تصحيحاً لحركة الوعي ونقداً لاعوجاج كان بادياً في الفهم أو في التخريج أو في التصوّر أو في الاعتقاد، ثم اتخذ على شرط هذا كله، ضروباً منوّعة من عسف السلوك وضلالة الاعتقاد.

ولم يكن انحراف العقائد إلا رهانات مُحمّلة بقوى التحدي المناقض، نتجت من غياب البعد النقدي الذي يلزم عن مواكبة ثورة الوحي المقدّس، ولم يشترط فيها مسايرة العقل في أرفع عطاياه لثوابت الوحي، خلال عميلة التغيير والتصحيح؛ فالعقل تكميلٌ من هذه الجهة في ذلك المسار، وتصحيح.

وغيابه مشروط بشرط الانحراف عن ثورة الوحي المقدس، واتاحة الفرصة سانحة للكهانة المقدسة أن تعمل عملها الفاعل في المتاجرة بالدين واستلاب خصائصه؛ لتعطي لنفسها حق القداسة من دون ما هو مقدّس في ذاته، واتخاذه ذريعة ارتزاق، وتسويغ ما لم يكن سائغاً لا في العقل ولا في الشرع ولا في العلم ولا في التاريخ. ليس هذا فقط، بل تحريف الشرائع المقدسة وتبديل مقاصدها وإلباسها ثوب المنافع القريبة المرهونة بزمانها ومكانها، والقضاء على حيوتها وطلاقتها الروحية، والسّماح للحق المطلق أن يكون مقيداً بأوهام الرجال، عرضة لآفات الناس وأهواء التسلط والسيطرة والاستحواذ، ثم تشريع الشرائع فيما بعد لتصبح عقائد هي من وضع قادة الدين ورجاله لا من وضع الله تعالى. وهل نذكر حرف الكندي : ليس للدين رجال؟ لذلك كله، ومن أجل هذا كله؛ وجبت ثورة الوحي المقدس، ووجب للعقل أن يكون داعماً لها ومؤيداً، يترقبها رقابة منظمة، ليقها مغبّة الانحراف، لا يأتي حقيقة من علماء الدين، ولكن من عدماء الدين.

ولكن.. هل تسمى الثورة ثقافة؟

تصبح الثورية لا شك ثقافة حين يرتهن كل عنصر فيها بالوعي الإنساني، فتصاحب آفاق التفكير. إمَّا إذا نحن أخذنا الثقافة مجرَّد ترف عقلي ليس إلا؛ فلا حاجة بنا إلى إطلاق هذه الصفة على الثورية. وفي الحق؛ ليست الثقافة ترفاً عقلياً ولا هى بتحصيل حاصل ولكنها حركة الوعي دائم التفكير فيما هو حاصل؛ ليغيره بالصواب المقبول لا ليتمادى في خطأه المرذول.

وإذا قيل إنّ الثقافة عمل ذهني ليس إلا، بعيدٌ عن مصدر الوقائع والأحداث، وإنْ كان قريباً منها من حيث المعرفة، ليس بمستطاعه أن يغير من مجرياتها شيئاً في حين تكون الثورة مرهونة حرفياً وعملياً بتغيير الواقع، فإنّ هذا القول مردودُ عليه، إذ الواقع لا يتغير بداهة من تلقاء نفسه بل بمجموعة أفكار كبرى تشكل ثقافة سائدة بمقتضاها يحدث التغيير.

 وفي إطار تمثلاتها السياسية والاجتماعية وعقائدها الفكرية والروحيّة، تصبح أصول هذه الثقافة ثوريّة غير منازع؛ فما من ثورة مغيرة قامت إلا اتكأت على فكرة كبرى، تضمَّنت مجموعة من الأفكار المندرجة تحتها، فشكلت ثقافة سائدة، تجري على مقتضاها القناعات الجمعية. هنالك يكون التغيير محتوماً، ولا يمكن أن يتحتم التغيير وهو في معزل عن ثقافة سائدة، تشكلت من أفكار كبرى، وانتظمت مفرداتها وقوائمها حركة الوعي الجمعي العام. أمّا كون الثورية ثقافة، وفي القرآن الكريم؛ فهذا ممّا نقوم بتوضيحه في الصفحات المقبلة :                         

(1)

القرآن أصل الأصول الثورية الأول. وفكرة الثورة التي تحمل بين طياتها أسس التغيير، تتضمنه، وتنطلق منه، وتجيء خاصة ذاتية من خصائصه؛ ففي هذا الكتاب الثوري المبارك، معالم الثورة العارمة على ضروب الجهالة والتخلف والظلم والفساد، بمقدار ما هو ثورة كبرى على ضروب التقليد والرجعية والكساد.

هذا الكتاب ثوريُّ؛ لأن الثورة فيه هدفها أن تغيّر من عادات الناس وأخلاق الناس وطباع الناس، وتحولهم من طريق في الحياة إلى طريق، ومن منهج في العبادة إلى منهج. ولكن بماذا؟ ببلاغ من عند الله. ولا شرط لمثل هذا التغيير غير شرط "الثورة" في هذا البلاغ :"هذا بلاغ للناس"؛ هدفه الإنذار الذي يجيء فيه الإنذار بالعلم والعمل تغييراً لحياة الناس، وقلباً لأوضاع الحياة التي يعيشها آحادهم على سبيل العادة والألفة، لكأنما كانت حياتهم، في مجملها بموجب المألوف المعتاد، هى هي الحياة ولا حياة غيرها.

لم يكن هدف الإنذار البلاغي في القرآن إلا أن يقلب أوضاع الحياة التي يألفها الناس في سبيل حياة أفضل، أرقى ما فيها من ضروب الأفضليّة أنها تتغير وفق هذا البلاغ :"هذا بلاغٌ للناس" ثم ماذا؟ "ولينذروا به، وليعلموا إنما هو إله واحد، وليذكَّر أولوا الألباب". أول معالم هذه الثورة ومعطياتها الظاهرة تصحيح التوحيد، فكان من خصائص هذا البلاغ، الثورة على التعدديّة في الاعتقاد، إنّما هو إله واحد، حتى إذا ما جاء البلاغ تضمَّن أولاً ثورة في الإنذار على أن يكون الإنذار ضرباً من التغيير، يجيء فيه حكم الإنذار كفاية بما في القرآن من عظة وتذكير واعتبار، ومن هداية الناس بعد تعدد مفاهيم الضلال والإضلال.

وتلك بلا شك خاصيّة ذاتية للقرآن : أن تتحوّل فيه حياة الأرض من الدُّون إلى السماء والرفعة، وأن يتصل الفاني الزائل بالباقي الدائم، وأن تكون الغاية هنالك بعيدة بعيدة عملاً دائماً للإنسان مع الكدح إلى الله، فإنه ملاقيه. 

ففي هذا الإنذار تكمن الثورة على أوضاع بالية تتهتك فيها ضمائر البشر وتتفسخ فلا تستقيم، وتتفكك شخصياتهم مزقاً وآحاداً، وهم على هذه الأحوال والأوضاع، وليكن الإنذار تغييراً جذريّاً من الأساس، وقلباً مطلقاً لهذه الأوضاع بكل ما يمكن أن يكون فيها من وضوح واضح لمعالم الضلال، أو من فساد ظاهر لسائر الأحوال الإنسانية وجوانب الحياة المُعاشة في واقع الناس؛ يجيء الإنذار ليقلب في ثورة بلاغه للناس هذه الأوضاع والأحوال مُغيراً إيّاها من باطنها لا من ظاهرها وكفى، وهو لا يكتفي بإماطة الأذى عنها من خارج، بل يثور فيشمل أذاها الداخلي الذي من شأنه أن يتغلل في أعماق الذوات الفردية الخفية، فيسبب من ثمَّ لها مثل هذا التهتك الذي لا يعرف استقامة، ومثل هذا التفكك والانحلال.

فلئن كان الناس في هذا وذاك لا يشعرون بما يسود حياتهم بالعادة من فساد وتهتك بل يرتضون من هذه الحياة أوضاعاً وأحولاً اعتادوها وألفوها حتى صارت جزءً لا يتجزأ من شخصياتهم، بمقدار ما صارت عادة استمكنت في طباعهم وفي كل ما يألفون ويعتادون؛ فإنّ الإنذار هنا له خصائصه وأشراطه : وأولها تصحيح المفهوم النظري الذي اشتملت عليه ثورة البلاغ الذي هو الإنذار، فقد اشتمل الإنذار على العلم أولاً ثم ما يتبع العلم فيما بعد من تصديق، أي اشتمل على تصحيح العقيدة في إطارها النظري "وليعلموا إنما هو إله واحد"، وهذا التصحيح هو أول خاصيّة ثورية تضمنها الإنذار الذي هو بلاغ للناس.

فإذا جاء الإنذار لم يكن استقبالهم لمجيئه شيئاً عارضاً سطحياً، بل هو شيء يعز عليهم أن يتخلوا فيه ولأجله عن عقائدهم وعاداتهم وسائر ما ألفوا من أحوال واعتادوا من أوضاع. وما دامت هنالك ثورة منذرة يلزم عنها التغيير يتوجه بها المنذر على قلوب الناس؛ فلا مناص فيها من "رد الفعل"، يأتي على مقدار قوة هاته الثورة، وكذلك كانت دعائم اللجج وآفات المعاندة موصولة بشرايين التحجر والتصلب والنفور من كل صواب في هداية الطريق.

وحينما يكون "الإنذار" ثورة من ضمن ثورة كلية عارمة شاملة مغيرة هى ثورة البلاغ، لا تستغرب أن تجيء الثورة الجزئية مشروطة بشروط الثورة الكلية العامة؛ لأنك تلاحظ في ثورة الإنذار تطبيقاً لأركان الثورة الكبرى والعامة، وتدليلاً على ثوابتها وأهدافها، وعلى وجودها في الفعل والواقع، واستمراراً لخصائصها في تغيير وجه الحياة الباطن منها قبل الظاهر.

واستقبال هذه الثورة في مفتتح ركنها الأول "الإنذار"، لم يكن قط بالأمر الهين على أفئدة الناس، ولا هو باليسير على عواطفهم واعتقاداتهم ولا على مألوفاتهم وعاداتهم. ولم يكن من الغريب أن تمتلئ صفحات الكتاب العزيز بقص القصص الوارد عمداً، لاستجلاء مقومات هذه الثورة ومعاناة النفوس في ثقل تبعاتها؛ ليعلم من لم يكن يعلم أنها ثورة عارمة مُغيرة لآفات صارت عادات مستحكمة، وإنها لكذلك لثورة كاسحة ومدمّرة للباطل الذي شبت عليه النفوس آلفةً وعادةً ممّا كانت ألفته واعتادت عليه من الأمراض الباطنة والأهواء الدائمة، فتغييرها من ثمَّ لم يكن بالأمر الهين، ولم يكن كذلك بالشأن اليسير الذي يتقبَّل البلاغ مع ثورته التي تتطلب التغيير المنشود.

إنها لثورة؛ الإنذار فيها شرطها الأول، ثم ما يتضمّنه الإنذار إنما هو تفاصيل الاعتقاد الذي جاءت من أجله الثورة؛ لتثبته بعد أن تزيل من عوالق القلوب اعتقادات بالية إزالة تامّة؛ لتقرّ مكانها بعد الإزالة الكاملة ذلك الاعتقاد الجديد، وهو الذي جاءت الثورة لتقيمه وتؤكده. غير أنّ النفوس اعتادت ألا تحتمل مثل هذه الإزالة من أول وهلة، فإذا بها تعترض وتعاند وتتأبى وتستنكر كأقوى ما يكون التأبِّي والاستنكار.

(وللحديث بقية)

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم