صحيفة المثقف

رأي في التخلف (6)

عبد الرضا حمد جاسمالتاليتان من الحياة وفيها من مظاهر التخلف او إشارات اليه وعنه.. الأولى حقيقية بتفاصيلها وشخوصها وأنا أحدهم والثانية قُصَّتْ عليّ! فلحنت فيها واظفت بما يناسب الموضوع.. وموضوعها ليس بغريب على العراقيين ففيه الكثير من الواقع

1- العالم الجليل والغشاش:

وانا في غرفتي في الطابق الثاني في معامل الشركة العامة لمنتجات الالبان/ أبو غريب لمحت أحد أكبر الأساتذة علماً في قسم الصناعات الغذائية والالبان/كلية الزراعة جامعة بغداد/ أبو غريب الأستاذ الدكتور العالم الجليل حامد العاني..استغربت لوجوده وحسبته في زيارة علمية فههمتُ لتحيته وهو استاذي في الكلية والقسم لم الحق به فدخلت غرف الزملاء رؤساء الشعب الإنتاجية بحثاً عنه ولم اجد له اثر..حيث لم تبقى سوى الحمامات والمكتبة المغلقة بشكل شبه دائم .. استفسرت من احد الزملاء فقال لي انه موظف جديد في المكتبة.. المكتبة التي ربما لم تُفْتَحْ منذ سنوات ولا فتحت بعد سنوات.. ذهبت لتحيته خَجِلاً وعرفتُ بعد ذلك انه مُبعد من الكلية ويعمل موظف /مأمور/أمين مكتبة المعامل التي لم يدخلها أحد قبله تقريباً ولم يدخلها خلال تواجده الا البعض الذي كان يبحث عن تحية الدكتور العاني و السلام عليه .. والدكتور العاني قليل الكلام حد السكوت.

 استاذ كبير عمراً وعلماً وأخلاقاً ..زاهداً..كان المتداول عنه ان له أبحاث مهمة في موضوع الانزيمات ومسجلة باسمه عالمياً..غير حزبي ملتزم دينياً له علاقات علمية مع جامعات عالمية مرموقة في مجال الكيمياء الحيوية والانزيمات..قصته بدأت حين كان مشرفاً على طلبة ماجستير عندما تم غلق القبول فيها على الحزبيين وفي احدى الامتحانات النظرية ضبط أحد طلاب الماجستير من الحزبيين يغش في الامتحان فقامت القيامة عليه..الغشاش صار استاذاً بعد ان اُبْتُعِثَ للحصول على شهادة الدكتوراه.. والعالم الجليل تحول الى مأمور/أمين مكتبه لا يدخلها أحد ليتقاعد منها. لك الذكر العطر والرحمة استاذنا الدكتور حامد العاني المحترم..وهو ونحن نعرف ان الكثير من الاجلاء العلماء حصل لهم مثل او بعض ما حصل له.

2- طالب ذكي ومدرس شجاع:

في الصف طالب يوصف بالغباء حيّر القائمين على الصف ومنهم المدرس المشرف..لم ينفع النصح والتشجيع في تحسن مستواه وزحزحته عن لقب الغباء الحاد..كان متحجراً في آخر(رحله/كرسي) في الصف لا يشارك ولا يتفاعل لكنه هادئ مشغول نظيف..تُرك هكذا حتى لا يُساء له او تزداد حيرته.

مُحير هذا الطالب في نظافة لبسه وهدوء سلوكه اثناء الاستراحة وانتظام حضوره للفصل لدراسي.. ذلك ما راكم َحيرة الأستاذ المشرف حيث كثيراً ما يُطرح اسم هذا الطالب في اجتماع إدارة المدرسة..

فَّكر الأستاذ المشرف كثيراً في حالته واعتبر النجاح مع هذا الطالب هدف سامي ونجاح له لكنه كان محتار كيف يبدأ الخطوة الأولى فاختيارها يحتاج دراسة ودقة وشجاعة وانتباه ..

اول وأسهل خطوة فكر بها الأستاذ هو ان يزحزحه من مكانه الذي تسمر به منذ اليوم الدراسي الأول في اخر الصف معتقداً ان لمكان الجلوس تأثير او هو الحاجب الذي يداري به الطالب حيرته وضياعه وهي خطوة غير مُحرجة للجميع ولا تثير اسئلة كثيرة.

أخبر الطلاب انه في الدرس الأول ليوم غد سنعيد ترتيب جلوس الطلاب في الصف..وفعلاً طلب منهم اخراج كراسة الدرس المكتوب عليها اسم كل واحد منهم

ووضعها على الْرَحْلَة (كرسي الجلوس) وان يغادروا الصف واغلق الباب عليه وأعاد توزيع الكراريس وطلب منهم الدخول ليجلس كلٍ منهم في مكانه الجديد

وسيكون هذا المكان شبه دائم.. المهم في كل تلك الحركة انه أجْلَسَ هذا الطالب في الصف الامامي ومع أفضل طالب في الصف.

اخذ الأستاذ يراقب الطالب بدقة لأنه امامه لكن دون ان يتعمد احراجه حيث كانت يده من بين التي لا تُرفع/ترتفع للإجابة على ما يُطرح من أسئلة..

مع الوقت أخذ هذا الطالب يتلفت يمين وشمال ليجد انه الوحيد او من القلة من الطلبة الذين لا يشاركون/يتفاعلون مع الحصة الدراسية .. وبعد أسابيع ومجاملات ورفقة جيدة من الطالب الذكي صارح زميله الذكي بكل جراءه وقال له:

 اشعر إني غيرك في الدرس وغير اخرين هل تُريد مساعدتي؟

 فقال الذكي النبيل بكل سرور نعم..

فقال له سأُعطيك سؤال تطرحه على الأستاذ وسأرفع يدي للإجابة عليه وأكيد عندما ينتبه الأستاذ الى يدي المرفوعة سيطلب مني الإجابة..

فعلها أول مره ونجح وفي الثانية والثالثة.. انتبه الأستاذ إلى ذلك وهو واثق من أن الطالب الذكي الذي يسأل يعرف الجواب..وفي المقابل فرح لمساهمة الطالب (الغبي)..فقرر البحث في الموضوع وتوصل ان هناك علاقة ما بين طارح السؤال والمجيب عليه فطلب من الطالب الشاطر السائل الحضور في وقت الاستراحة إلى غرفة المدرسين.. وحضر فستأذن الأستاذ زملائه لكي يختلي بالطالب فلبوا ذلك..

قال موجهاً كلامه للطالب: ارجوا أن تجيبني بصراحة عن التالي.. وطلب توضيح للحالة ..أجابه الطالب بكل صدق وصراحة..فَرِحَ الأستاذ كثيراً وسأل الطالب هل قلت لأحد من زملائك عن ذلك؟ فقال لا..فشكره على شجاعته وصراحته وأمانته وطلب منه الاستمرار بذلك

كرر الأستاذ الموقف مع نفسه كثيراً..وسأل نفسه: من كان البادئ؟ هل الطالب (الغبي) أم الذكي؟ ومن أوحى بالفكرة؟ إذا كان (الغبي).. فهذا ربما تأثير المكان والملازمة عندما جلس في الأمام بجانب الطالب الذكي..وهذه علامة صحة.. وهو يرغب أن تكون يده مرفوعة مع بقية زملائه وهنا تَحَوَلَ رأي المدرس عنه..وفي هذه الحالة ستكون المهمة أكثر سهوله

وإذا كانت تلك البداية من الطالب الذكي..فهذا نبل منه وحرص على الزمالة والرغبة في المساعدة وطيبة النفس التي تربى عليها وذكاء حاد تفتق عنه هذا

التصرف..وقال لنراقب الحالة كيف تتحرك وعندما تستقر على شيء جيد سنطورها

بعد فتره استدعى الأستاذ الطالب النبيل الذكي ليطلب منه أن يبادر هو على اختيار الأسئلة التي يسألها ويتفق مع الطالب (المهمل) أن يهيئ الجواب وأن تكون هذه الأسئلة من صلب المواضيع المطلوب تحضيرها..نجحت هذه المهمة وأصبح الطالب (المهمل) يُحَّضر دروسه لينتقل من (مهمل) إلى مجد.

بعدها طلب المدرس وفي التفاته عززتها ثقته بالطالبين وثقة الطالب الذكي به أن يستعد الطالبين معاً للامتحان الشهري القادم..وكان ذلك مهم بالنسبة له ولهما وتابع ذلك عن بعد من خلال ما ينقله له الطالب الذكي.. وقبل الامتحان بأيام قام الأستاذ باستدعاء الطالب الذكي وقدم له خمسة أسئلة ليجيب عليها تحريرياً فأجاب أجابه كأمله كعادته..فقال له أعطي هذه الأسئلة لزميلك وأخبره أنك تتوقع سؤالين أو ثلاثة منها ستأتي في الامتحان و لا تخبره بما جرى وأطلب منه أن يحاول حلها وكتابة الحلول أكثر من مره

وفي يوم الامتحان كان من بين الأسئلة الخمسة أثنين وردى نصاً والثلاثة الباقية تلاعب بها الأستاذ ولكن بنفس الخط العام وأضاف سؤال سادس والمطلوب الإجابة على خمسة أسئلة

كان زملاءه يراقبون التطور في مستواه ويشجعه البعض وبداء البعض يطلب منه مساعدته على سؤال يحيره والأخر يريد رأيه في شيء..وكان تفاعله مفرحاً لزميله الذكي وللأستاذ النبيل

جاءت نتيجة الامتحان وحصل على 80% حيث من فرحته وارتباكه من التحوير الذي ادخله المدرس على الأسئلة الثلاثة الأخرى لم يسعفه الوقت للاجا به على السؤال الخامس الذي تعّمد المدرس أن يعَقد فيه كثيراً.. فرح الطالبين والمدرس فرحاً كبيراً وأفرد له المدرس ثناء خاص أمام زملائه مثمناً جهوده ومثابرته وداعياً الآخرين إلى الاهتداء به وداعياً إياه لمواصلة الجهود لتقديم الأفضل والأحسن

بعدها أتفق الأستاذ مع تلميذه الذكي النبيل أن يعملوا على أن يشعر الطالب الذي أصبح مجداً على أن تكون هذه الدرجة هي الأساس وأن يعمل على تجاوزها مستقبلاً

وعندما استقرت الحالة ولاحظ المدرس انبهار زملاءه المدرسين بتطور هذا الطالب وتحسن درجاته في كل الدروس قرر بعد الاتفاق مع تلميذه النبيل الذكي بأنه سيفاتحه بما جرئ وفعلاً استدعاه لغرفة المدرسين وتكلم معه بصراحة وصدق وشّجَعَه على الاستمرار والتطور

فجثى الطالب على ركبتيه أمام أستاذه النبيل واغرورقت عيناه بالدموع فشكره الأستاذ ولمعت عينيه لما وصل إليه تلميذه من مستوى علمي.. ولشجاعته..و عرفاناً بالجميل..

شرح المدرس ما حصل إلى مدير المدرسة وتمنى عليه الحضور للدرس ومشاركته في تقديم هديه بسيطة لذلك النبيل الذكي فرحب المدير بالدعوة..وبعد تحية المدير والقيام والجلوس نادى على الطالب الذكي لاستلام هديته بعد أن شرح ما حصل خلال الفترة السابقة أمام زملائه

عندما تقدم الطالب لاستلام هديته جثي المدرس أمامه على ركبتيه وهو يقدم له الهدية أمام مدير المدرسة قائلاً: لقد علمتني درساً بليغاً.. لم تعلمني مثله كل الكتب التي قرأتها..شكر مدير المدرسة الجميع

وفي احتفالية يوم المعلم وبعد تحية العلم ألقى مدير المدرسة كلمه شرح فيها ما جرى وشكر الطالبين وأستاذهم النبيل.. ودعا الاستاذ لاستلام هدية أدارة المدرسة وأثناء تقديمها جثي المدير على ركبتيه أمام المدرس/الاستاذ في موقف خشوع صاحبه تصفيق حار/حاد وهو يقول: تعلمت منك كيف يكون الإنسان كبيراً..وكيف نحارب التخلف وكيف نتطور

وقبل انتهاء العام الدراسي وصل أمر نقل المدرس والمدير إلى وظائف كتابيه في مديرية بلدية محافظه أخرى بعيده عن أماكن سكناهم.. استناداً لقرار مجلس قيادة الثورة وفي حيثياته أنهما تصرفا بشكل يسيء إلى حرمة التعليم وسمعة المعلم التي حرص عليه المعلم الأول والقائد الملهم..والمفجع أن المدرس/الاستاذ النبيل توفي بحاث سير وهو عائد إلى عائلته في اول إجازة له.

وتبين بعد ذلك أن النقل جاء نتيجة تقرير رفعه صغير متخلف متحجر إلى مسؤوله الحزبي الذي زاد عليه من اقوال القائد ورفعه للأعلى..

 كان ذلك عندما أغلق جهاز التعليم حزبياً وكان هذان الجليلان من ضحايا ذلك الإغلاق لأنهما لم يدخلا صفوف الحزب القائد.

ملاحظه: صاحب التقرير يعيش الأن في أوربا وينتقد التخلف في بلاده بعد ان تخرج من الجامعة التي دخلها بعد ان حصل على خمسة درجات إضافية على المعدل لكونه حزبياً..

 

عبد الرضا حمد جاسم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم