صحيفة المثقف

شعرية النص

طلال الغوارالمفهوم التقليدي للشعر يحدد الانتساب له من خلال الوزن والقافية، ومن خلال هذين العاملين الخارجيين نجد الكثير من القصائد قد حازت شرف الانتساب للشعر لتصبح قصائد (شعر) في حين أنها تفتقد إلى الشعرية حيث لا حرارة للشعر فيها،  أنها نظمٌ في إطار الوزن والقافية،بالمقابل نجد هناك نصوصا نثرية تحفل بطاقة شعرية عالية،ولأنها تفقد إلى العاملين المذكورين لم يعدونها من الشعر بالمفهوم التقليدي .من هنا نجد أن معاير الشعرية ليس مقترنة بالوزن والقافية ب هذين العاملين الخارجيين وإنما ثمة معاير أخرى متعلقة بالطاقة التعبيرية للغة وبإمكانية استنفار الطاقة الاستعارية فيها وكيفية استخدامها وخلق العلاقات المغايرة للمألوف .

ولتأكيد ما ذهبنا إليه فأن البحور الخمسة عشر التي وصف بها احمد بن خليل الفراهيدي إيقاع الشعر العربي، وحوّله من إيقاع شفوي إلى إيقاع مكتوب وبتسميات معينة، أدت إلى بروز أراء ومواقف تختلف مع الفراهيدي فقد رفض الاخفش تقبل بحرين من بحور الخليل، كذلك أبو العتاهية كان يقول بما معناه إنا اكبر من العروض،أي أن الفعالية الشعرية هي المنتجة للإيقاع وعلى علماء العروض أن يصفوها، وفي الوقت ذاته اكتشف الاخفش تشكيلا إيقاعيا وأضافه إلى البحور الخليلية، وضمن هذه الرؤيا فأن هذا النوع الكتابي (قصيدة النثر) لم تكن منقطعة عن مجرى الشعر العربي المعروف منذ القدم  ولها جذورها التاريخية .

ومن المعروف أن الشعر هو ديوان العرب كما يحدثنا التاريخ فهم أدرى واعرف به حين نجدهم يطلقون اسم الشعر على بعض النصوص التي لا تعتمد البحور الخليلة، كقصيدة عمر بن قميئة، وقصيدة المرقش الأكبر، الاختلافات الوزنية في قصيدة عبيد بن الأبرص وغيرها.

 وهناك كثير من الشواهد على وصف النصوص النثرية بالشعر، كوصفهم للنص القرآني بالشعر واتهام الرسول ( ص) بأنه (شاعر) وهذا الوصف يعتمد على رؤية العرب وفهمهم للشعر، فقد كان الشعر بالنسبة للعربي آنذاك فطرة، وهو ملازم للشخصية العربية، حيث أن الشعر يمثل المكانة الراقية في حياة المجتمع العربي،وإعجابهم بالنص القرآني وشبهوه بالشعر، فقالوا أنه شعر بما وجدوا فيه من طاقة تعبيرية عالية للغة لم يألفه العرب، كان يعبر عن إحساسهم بالشعر ونظرتهم إليه .

أن معظم تعريفات الشعر كانت تهتدي بالوزن والقافية وترى الاحتكام إليها من الشروط الرئيسة في تأشير شعرية النص من عدمه، لكن نرى ثمة من يخرج عن هذه التعريفات تعد نقلة قوية في الرؤية إلى الشعر أو في تعريفه، الجاحظ مثلا  الذي يرى " أن الشعر صياغة وضرب من التصوير"  وهذا ابن رشد يقول (ليس كل نظم شعرا، اذ كثيرا ما يوجد   من الاقاويل التي تسمى اشعارا ما ليس فيها من معنى الشعرية الا الوزن واللحن ) وهنا يتجاوز في هذا القول الوزن باعتباره معيارا تقليديا للتميز بين الشعر والنثر، وتخطى القافية.

وهذا الجرجاني أيضا الذي يرى الشعر بقوله " تعليق الكلم بعضها ببعض وجعل بعضها سبب من بعض "وهنا نرى في هذا القول أن الشعر لا يستمد شعريته في وزنه وقافيته بل من النظم،  وتجاوز المعايير المعروفة ويؤكد  على خلق العلاقات الجديدة في اللغة باستخدامها المتميز.

وهنا نذهب الى اللغة الشعرية والتي من خلالها يستطيع الشاعر ان يخرج الواقع من واقعيته، يخرج الشيء من ذاته، ويؤسس عالما  مشابها للواقع ومغايرا له في الوقت نفسه، يستمد عناصره من الواقع ولكنه يخلق لها علاقات جديدة تبدو غير واقعية، وهذا لا يتم إلا من خلال اللغة ذات الاستخدام الخاص، فالتمكن من اللغة في استخداماتها المختلفة خارج السياقات التقليدية المألوفة وعلى عمل من المخيلة  تجعل لغة الشعر تقول ما هو غير مألوف، وما هو غير عادي، أنها تخرج من عاداتها، ليتجلى دور المخيلة إبداعيا، من خلال توليد الصور الشعرية المكتنزة الدلالة، صور لها فاعلية من الدهشة والغرابة،، لذا أجد أن الشاعر عليه أن يكتب بأقصى التعبير اللغوي، يكتب بمعرفة عالية باستخدام اللغة التي تجسد قدرته عن اجتراح تعبيرات غير تقليدية، ومتجددة بأبهى ما يمكن من خلق الحساسية الفنية والجمالية، وباي شكل من اشكال الكتابة الشعرية سواء كانت قصيدة الشطرين او التفعيلة  او (قصيدة النثر) كما يطلق عليها.

 

طلال الغوّار.. العراق

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم