صحيفة المثقف

سقوط الحب

صالح الرزوقريبيكا غولد

ترجمة صالح الرزوق


 I.

همس وهو يمرر أصابعه في خصلات شعرها:”عليك أن تخبريني إذا شعرت يوما أنك غير محبوبة”. كانت قد مرت ثلاثة أيام على تعارفهما. ومع ذلك حصل شيء غير متوقع أبدا. كأنهما عاشا هذه التجربة من قبل، وانتابهما القلق من إطلاق طاقة الوداد والألفة في الفضاء. كان جسداهما مغمورين بروائح ورواسب وذكريات العواطف السابقة. 

أردف:“إن شعرت في أية لحظة أنك غير محبوبة يجب أن تخبريني، اتفقنا؟”.

قالت:”حسنا”.

“هذا وعد؟”.

وعدته، فهي لا تتخيل أن لا يحبها،  كان هذا الرجل الأكثر حنانا من بين كل الذين عرفتهم على الإطلاق. على مدى الأيام الستة الماضية، لم تبتعد يداه عن جزء محدد من جسدها. وكانا قد التقيا في باريس، في الدائرة 13، في فندق بيلامبرا في شارع  كورفيسارت. وقد تعارفا بواسطة البريد الإلكتروني عن طريق سام، إحدى معارفه، وكانت تحاول مساعدة ديمتريوس للتخلص من ماضيه. والتقت سام بتيريزا في مؤتمر عقد لتكريم زوجها الذي توفي قبل ثلاث سنوات في حادث سيارة. وعلى الرغم من أنها تعلم أنها لن تنساه أبداً، قالت لسام بعد أن جرعت الكثير من النبيذ إنها مستعدة للمضي قدماً، والعثور على رجل آخر. لكن المشكلة أنه لا يوجد  أحد يمكن أن تقع بحبه، لأن كل معارفها مرتبطون مسبقا. قالت سام:"حسنا. أعرف صديقا بنفس الوضع، ويبحث عن قصة حب”.

كان صديق سام رجلا يونانيا يدعى ديمتريوس. وأب لابن واحد. وكان حديث الطلاق. وكان ديمتريوس أيضا من معارف صديقتها جيسيكا. وهذا يعني أنهما يشتركان بحالة انفصال من مستويين. وأخبرت سام ديمتريوس أن لصديقته صديقة ولعله يرغب بمقابلتها. قال وهو يبتسم مع شيء من الإيحاءات:”لا بد أنها  بنفس حالتك”. همست جيسيكا في أذن تيريزا وهي ترافقها إلى محطة القطار تقول:”أنتما مخلوقان لبعضكما بعضا في السماء. وأتوقع أن ينجذب أحدكما للآخر دون فراق”.

لو كان لديها مجال الاختيار بين الرجال، لن يكون هو أول من تختار. فقد كان موظفا مدنيا ضمن قطاع الوظائف البيروقراطية المريع في أوروبا، واختصاصه الفيزياء النظرية. رجل مثله دون أي قيمة عملية أو قيمة فنية ولا يدعوك للمراهنة عليه؟. كان أمامها في حياتها الخاصة ما يكفي ويزيد من العلماء. هذه الطبقة من الناس لم تكن ترتاح لها لما تمثله من عاطفة بطيئة وعقل ضيق وخشونة وانطواء على الذات إلا فيما يتعلق بمجال العمل. والأسوأ من ذلك: أنه ابتعد عن أبحاثه بعد حصوله على الدكتوراة. وانضوى في سلك الوظائف، ليبني مستقبله في الدولة. بيروقراطي!. مرتزق!. كيف يمكنهما التواصل؟. كان عمله يضمن له دخلا مريحا ووضعا آمنا، ولكنه لا يعطي لحياته أي معنى. بينما هي لم تكن تجني من عملها مبلغا مناسبا، وأحيانا تصبح في عداد اليائسين، مع ذلك كانت تشعر بمغزى الحياة. سألت نفسها: ماذا لو أنه يكره ما أحب؟. أو أنه يبغض الحقائق التي أومن بها؟. وماذا لو أنه تحسس مني، كما يحصل مع بقية الرجال؟. وأصرت تيريزا أن هذه الشكوك ثقيلة ولا تحتمل. ثم وافقت أن تلتقي به في باريس. فقد كانت تعيش في المملكة المتحدة، وهذا لن يكلفها أكثر من رحلة في نهاية الأسبوع.

 II.

حينما وصلت إلى الفندق، اتصلت به من الاستعلامات. وهبط ليقابلها. وتبادلا التحية مثل صديقين قديمين. وامتد الفطور ليتحول إلى غداء. وتطور الغداء لعشاء ورغبا لو أنه يستمر للأبد. وكانت المحادثة أشبه برحلة في قطار يصعد المرتفعات، دون أي نهاية تلوح في الأفق. كان لديهما أشياء كثيرة يعبران عنها!. ولم يتمكن ديمتريوس من امتلاك الشجاعة الكافية ليطبع قبلة على وجهها منذ أول ليلة. ولكنه رغب بذلك. ثم تمنى لها ليلة طيبة وافترقا وذهب كل منهما إلى غرفته الخاصة.

وسهرت لوقت متأخر، واللوعة تتملكها. وشعرت أن شعر جلدها يقف مثل الإبر، بطريقة لا تنقصها المتعة. كان شيء على وشك أن يقع لها، له، لحياة كل منهما. وامتنت لهذا التأخير، فقد منحها وقتا لتفكر وتتوقع، ولتنتظر قبلة. وقالت لنفسها: بعد ذلك نهوي من القمة على طول السفوح. ولم تتحرر من ذكريات العشاق السابقين الذين تعرفت عليهم قبل زواجها.

وفي وقت مبكر من صباح اليوم التالي، وبعد الإفطار فورا، طلب الإذن ليزورها في غرفتها. وبدأ يكلمها عن رواية كان يقرأها وهي “ستونر” لجون وليامز. كانت رواية أمريكية من فترة الستينات لقيت التجاهل في حياة المؤلف وبقيت منسية حتى اكتشافها مؤخرا بترجمة فرنسية عام 2013. واهتمت تيريزا بمنطق ديمتريوس الأوروبي حول الرواية الأمريكية كلما استغرق بالكلام عن حبكة الرواية. ثم فجأة توقف بمنتصف الجملة وطبع قبلة على شفتيها. ومنذ تلك اللحظة وصاعدا امتلكها الشعور أن جسدها بطريقة أو أخرى مغروس في جسده.  بعد الإفطار والقبلة تابعا الكلام طوال الأمسية وحتى منتصف الليل. رسما صورة للمدينة وتجاهلا ما حولهما. وبعد ساعة من المشي على ضفاف السين، وصلا إلى شكسبير وشركاه، المكتبة التي استضافت جويس وهمنغواي. دخلا وتبادلا المعلومات عن كل الكتب التي استمتعا بقراءتها. وهما يجلسان متجاورين على كنبة مريحة في صدر الصالة في الطابق الثاني وبأيديهما كتب اختاراها من الرفوف. وأنفقا يومين بالتجول في الأرجاء وداخل وخارج البانثيون. كانت أزقة وشوارع باريس تبدو كما رسمها كتابهم وشعراؤهم ومخرجو الأفلام المفضلون. شارع ليبيك أصبح مسرحيات تشيكوف. وشارع سان أنطوان كان انعكاسا لأجواء دستويفسكي. وشارع روزير بدا كأنه من أفلام كرزيشتوف كيزلوفسكي. وتابعا في الأزقة الضيقة، وهناك دعاها لترحل معه إلى بروكسل لتمضية ما تبقى من العطلة برفقته في بيته الحالي. قال وهو يتنهد:”بيتي واسع!. وسأخصص غرفة لك فقط إذا أردت أن تكوني وحدك”. كانت هذه عطلة الشتاء عند كليهما. وكان ابنه يمضي استراحة عيد الميلاد مع أمه، ولذلك يمكنهما الانفراد طوال عطلة عيد الميلاد ويحتفلان معا بالعام الجديد. عام 2015 كان عام الفراق والموت. عام 2016 - كما يأمل - سيكون عام لم الشمل. استقلا القطار السريع من باريس إلى بروكسل، وكانت سيقانهما متلامسة طوال الرحلة. والإحساس من هذا التلامس، دون أي تشنج وبلا أي تقارب مفتعل، عاد بذاكرتيهما لأوقات بعيدة. رافقها إلى مكتبته الخاصة، وأشار باعتزاز لثلاثة رفوف من السنديان، محفورة بالجدار، ومزدحمة بكل أنواع الأقراص المضغوطة، والبلوراي، وحتى أشرطة الفيديو القديمة. كانت مجموعته من الأفلام ومن الكتب واسعة النطاق، وتغطي كل الفترات والأمكنة والأنواع. وعلى الجدار المقابل مكتبة أصغر للكتب النقدية عن الأفلام ومصنفة حسب بلد المنشأ. وكان الصف الثالث في الرف الأوسط مخصصا لمخرجه المفضل: فريتس لانغ. وأخبرها ديمتريوس عن هروب لانغ إلى هوليود أثناء الرايش الثالث، في نفس اليوم الذي حصل فيه على عرض من جوزيف غوبلز ليشغل منصب رئيس استوديو الأفلام الوطنية الألماني. لكن زوجة لانغ رفضت مرافقة زوجها واختارت أن تبقى خلفه مع النظام النازي. قال:”ما رأيك أن نرتب مهرجانا قصيرا للأفلام على شرف زيارتك. وللاحتفال بقدوم عام 2016؟”. ابتسمت وهو يلفها بذراعيه وقالت:” أفكارك عظيمة دائما”.

سألها وهو يطبع قبلة على شفتيها:”هل هذا يعني نعم؟”.

ردت بقبلة مماثلة. ووضع لسانه في فمها، وسريعا ما استلقيا معا على الكنبة. وتقرر ترتيب مهرجان الأفلام المصغر في القبو، وهو بسعة صالتي عرض. في أول ليلة شاهدا فيلمين، أحدهما من فترة لانغ الألمانية، والثاني من الفترة التي أعقبت هجرته إلى أمريكا. وأثناء الفيلم الثاني حضنت بنعومة عضوه حتى انتصب تماما. أصبح هذا تقليدا. أحيانا يتابعان مشاهدة الفيلم حتى النهاية، وأحيانا يتوقفان عند هذه اللحظة ويمارسان الحب. وليلة أن أصر أن تخبره هل انتابها الشعور لمرة في حياتها أنها غير محبوبة صادفت ثالث ليلة من مهرجان الأفلام المصغر. وبدأ بفيلم من الفترة الألمانية، وتبعه “أنت تعيش مرة واحدة” من فترة لانغ الأمريكية. ثم تناولا البوغاتسا، وهي فطيرة يونانية محشوة بالقشدة، وامتص كل منهما صلصة الليمون المتبقية على شفتي الآخر. وفي تلك الليلة ذهبا إلى السرير كما كانا يفعلان كل ليلة في باريس، كل منهما بين ذراعي الآخر. واستيقظ يسبح بعرقه، فعقد ذراعيه حولها، ولف ساقيه حول ساقيها. وتوافق الكلام مع الاندماج العاطفي حتى سالت دموعها من عينيها. كان جسدهما جائعا لمثل هذا الاتحاد ومنذ سنوات طويلة. في الليلة الرابعة من المهرجان انتقلا من فريتز لانغ إلى ثاني مخرج مفضل عند ديمتريوس، وهو لارس فون تيرير. وأول فيلم شاهداه هو نيمفومانيا “المرأة الشهوانية”، واستغرقت مشاهدته ثلاث ليال لأنه تخللته ممارسة الحب الجنوني.

وغرقت بالتفكير: كيف سقطت سريعا بالغرام، بعد ترملها، مع رجل متزوج لا يبادلها الحب. وحينما أخبرته بمشاعرها قال بطريقة ميكانيكية تقريبا إن عاطفته مرتبطة بمكان آخر. وأخبرها أنه لا يمكنها أن تفعل شيئا لتبديل ذلك. وشعرت بالخجل من الاعتراف له، ولكنها الحقيقة: مشاعرها نحو رجل متزوج لا يحبها قد حطمها أكثر من وفاة زوجها، ونهاية زواج استمر لثلاثة عشر عاما.

وفي هذه السنة نفسها، كان ديمتريوس يرعى ابنا من امرأة كشف عن هويتها فجأة، ولكن قبل ولادتها بشهر، طلبت الطلاق. وأخبرته أنها توقفت عن حبه. ويوم الولادة رفضت أن يعانقها وقالت له إنها تبغض نبرة صوته. لكن احتكاك جسد تيريزا به كان مثل رؤيا بالنسبة له. وقد وجد نفسه عدة مرات خلال ممارسة الحب على وشك البكاء. وزاد وضوح الفرق الوحيد بينهما بعد كل جلسة حوار: كانت أذنه لا تستمتع بالشعر. وبعد أن تكلما عن كل الروايات والمسرحيات والقصص القصيرة التي قرآها، سألته عن الشعراء وقالت:”أليس هناك شعراء تحب قراءتهم؟”. رد:”يجب عليك أن تخبريني عن الشعر. استمتاع الناس بهذا الفن مجرد لغز بنظري. الشعر مثل الاعتناء بالحدائق. لا يشكل مشكلة. ولكنه لا يفيد أيضا؟. من بحاجة للشعر؟”. كانت تعيش في الكلمات، وتستمد من الشعر القدرة على التحمل. وغشيتها موجة من الألم وهو يتكلم، وسرعان ما غمرتها عاطفة أخرى مع اقترابهما من اهتمامات مشتركة. وبعد خمسة أيام من زيارتها وجدت نفسها تقول كل يوم، كما لو أنها تردد بيتا من الشعر: هذا أقرب ما يكون للفردوس/ مثل جنة على الأرض. وشعرت بالنشوة، وأنها على طريق السعادة. لقد اكتشفت مجددا معنى الحب بعد عام كامل من الجفاف العاطفي الوجودي.

 III.

بعد مرور أسبوع من هذه الاستراحة عادت إلى بيتها في إكستر، وهي مدينة صغيرة وأثرية في الجنوب الغربي، وقد انتقلت إليها قبيل ثلاثة شهور بغاية الحصول على وظيفة في مجلس الفنون البلدي. وفي إكستر تابعت مهامها اليومية: مراجعة استمارات التمويل، وترتيب جدول القراءات الشعرية، واللقاء بالمجتمع المحلي. وغمرها الندم لأنها تبعد عن لندن حوالي ثلاث ساعات، وهي المدينة التي تبدو وكأنها تنتمي لها. ومع أن في إكستر أشياء كثيرة تهمها، غير أنها معزولة وضيقة إلى حد ما. وأن تعيش في لندن يعني توفر قطار مباشر إلى بروكسل والتواجد على مقربة من محبوبها.  

وهكذا مر الوقت. الأسابيع أصبحت شهورا طويلة. وكانا يتبادلان الكلام بالهاتف في كل ليلة، بما يعادل ساعة أو أكثر، وهما يتصارحان بكل شيء عن ظروف هذه الحياة المقسمة في مكانين. كيف ينامان، ماذا يأكلان، ماذا يرتديان، الذهاب للعمل والعودة منه، وتفاصيل مكالماتهما مع العائلة والأصدقاء: كشفا الغطاء عن كل شيء، حتى أدق التفاصيل إلا ما لا يمكن الكلام عنه ويجب عدم المساس به أوتوماتيكيا. والأجزاء المحذوفة من المكاشفة هي كل ما يملأ حياتها من الداخل. وهي توافه لا يمكن أن تعني له شيئا: مثل أماكن التسوق، وعدد ساعات التدريس، وماذا تناولت على الغداء، وماركة الثلاجة التي تحفظ فيها طعامها. بالمقارنة مع ديمتريوس لم تكن تود المشاركة بهذه الترهات. ومع مرور كل ساعة كانت تشعر بالمزيد من الاغتراب والعزلة عن الرجل الذي أحبته.

وكانت المبادرة بالمكالمات الهاتفية منه. وشعرت أنها تريحه. كان يريد “أن يعيش كل حياته برفقتها”. كما قال، ولاحظت أن تلك المكالمات ضرورية ليكونا معا. ودغدغ هذا الإصرار أحاسيسها وما توحي به من إخلاص وطاعة، وانصاعت لطلبه كي تكون صابرة وتتجاهل مشكلة الوقت. ولكن لهذا السبب كانت تشعر بالمرارة كلما حان وقت مكالمة كل ليلة. فقد استدعى ذلك منها أن تسهر وهي تفكر بما يجب أن تقول له في المرة القادمة. فعليا بدأت تنفر من هذه المكالمات. ولكنها لم تود أن تخاطر بعلاقتهما في مرحلة مبكرة منها. بالإضافة لذلك أصابها القلق من احتمال أن تأسف على عزل نفسها عن الشخص الوحيد الذي شعرت طوال حياتها بالحاجة للكلام معه على أساس يومي، سواء كانت المكالمات تعزز من ثقتها بذاتها أم لا.

وبعد ثلاثة أسابيع من هذه المكالمات المؤلمة، وبغرض تبديل إيقاعها، قررا اللقاء في لندن. كان لديها حصص تدريبية حول أخلاق التعامل مع الحكومة، وكان مسرح دوق يورك يعرض مسرحية فرنسية تكلمت الصحف عنها  وهي “الأب”. عرض مسرحي. وكان ديمتريوس متحمسا للحضور. اشترى تذكرة القطار السريع وطلب إجازة لعدة أيام حتى نهاية الأسبوع. وجددت بدورها حجز الفندق ليكون لشخصين. وأملا كثيرا من لقائهما هذا، لأنه سيجدد مشاعر فترة باريس، لو كان المدخل مختلفا.

وتماما مثل أول لقاء لهما في باريس وصلت متأخرة ساعتين. وطوال الطريق، أخبرت نفسها أن تأخرها لن يؤثر بشيء. فهو سيتوجه للفندق مباشرة، وهناك يلتقيان عوضا عن اللقاء وسط المدينة كما خططت. ولكن لم تكن محقة بذلك. فقد حياها وهو يتذمر من الوقت الضائع الذي يمكن أن يمضيه مع ابنه. وحاولت تبريد جراحه بلمسة رقيقة في مواضع يستجيب لها جسمه، حسب خبراتها من أيام باريس وبروكسل. ولكنه ابتعد عنها بإصرار.

ومرت الليلة بمرارة. وبهجة اللقاء التي جعلتها مخدرة في باريس لم يمكن استعادتها. وأول مشكلة كانت باختيار مكان للطعام. كل مكان يعجبها كان برأيه تافها. وقرعها لأنها رخيصة وقال:”كم ذوقك رخيص!. أنت لا تحترمين المستويات الراقية في الحياة!”.

وفي النهاية، لتخفيف التحسس، قررت الموافقة على أي مطعم يختاره.  فهو من حضر إلى لندن ليقابلها، ولم يكن في نيتها إفساد زيارته بالجدال. ولكن هدوءها ضاعف من غضبه.

قال:”أعتقد يجب أن أنصرف؟”.

سألته ملتاعة:”تنصرف إلى أين؟”.

قال:”أنصرف فحسب! وتوقفي عن إلقاء الأسئلة”.

مدت يدها بالغريزة لتلمسه، ولكنها جمدت عندما لاحظت الغضب على وجهه. ما خطأها؟. تابعته عن مبعدة وهو يغذ خطاه في الشارع. ثم يئست منه. صاحت على أمل أنه سيسمعها:”سأقابلك عند مدخل المسرح في مور لاين في السابعة والربع”.

بدأ العرض في 7:30. ولكن لدهشتها وصل في 7:15 بعد أن زال غضبه. وكان وجهه بلا ملامح، لكن على الأقل كان صوته هادئا. وبدماثة كما لو أنه إنسان آلي قبض على يدها. وهما يصعدان السلالم باتجاه مقعديهما، تساءلت سرا: أين ذهبت تلك العاطفة التي أوشكت أن تغير حياتي؟. ماذا قتلها؟. كانت المسرحية قصيرة ومشحونة وتروي حكاية رجل مسن مصاب بالزهايمر. وكلما قابل الأب ابنته كان يلاحظ كأنها شخص آخر ولها شريك مختلف. وتدهورت حالته مع كل مشهد مسرحي جديد. وقررت الابنة في خاتمة المطاف أن تودع أباها في بيت للرعاية في باريس. وقبل أن تفارقه للأبد، وعدته أن  تأتي كل أسبوع من لندن لتزوره. كان ديمتريوس وتيريزا في الصف الأول. وتماسكت أيديهما لكن راحتيهما كانتا باردتين. وكانت متوترة وخائفة بعد نهاية العرض لأن هذا يعني أنهما سيتجادلان مجددا. وخشيت أن لا تسعفها الكلمات. ثلاثة شهور من الحب، والشهر الرابع أوشك على نهايته، ولكن الكلمات لم تعد تسعف أيا منهما.

بعد نهاية العرض غادرا الصالة وتوقفا لعشاء سريع في جيمي أوليفير، وهو مطعم إيطالي عند أول منعطف. ومر العشاء دون نقاش لكن من الواضح أن رومنسيات باريس تبدو لهما الآن حلما بعيدا. لم يتماسكا بالأيدي في قطار الأنفاق خلال العودة إلى الفندق. وكل كلمة كان يمكنها تسميم جو الأمسية، لذلك لزما الصمت تقريبا وهما يسيران، وبينهما عدة بوصات تفصل الواحد منهما عن الآخر. ولم يكن المشوار يشبه النزهة المتأخرة على ضفاف السين واليد باليد!.

وغرقا بالنوم وكل منهما على جهة من السرير. وكانت هذه أول ليلة بلا جنس منذ ثلاثة شهور من التعارف. وعندما بدأ ديمتريوس بالشخير استدارت وواجهته وقالت هامسة بأذنه:”أريد أن أخبرك بشيء”.

توقف شخيره. وأبعد وجهه عنها وقال:”ماذا؟”.

ردت:“كنت أتخيل رجالا من نمط آخر كلما مارست العادة السرية. ولا أشعر بالذروة إلا حينما أتخيل رجلا لا يشبهك”.

سألها:”لماذا تخبرينني بذلك؟”.

قالت:“أنا قلقة من معنى ذلك على حياتنا”.

استدار بكامل جسمه بعيدا عنها وعاد للشخير فورا بصوت أعلى فغطت رأسها بالوسادة لتمنع هذا الصوت من أن يملأ الفضاء. وتساءلت هل يتصنع ذلك. وهل يمكن لأي رجل أن يكون فظا وهمجيا لهذه الدرجة؟.

IV.

استيقظا في صباح اليوم التالي دون فكرة مؤكدة كيف سيمضيان يومهما معاً. كانت مسارح لندن مغلقة يوم الأحد. بعد أن تجادلا لعدة ساعات في السرير حول أين يذهبان، اتفقا أخيرا على مجرد استكشاف المدينة. سارا في هامبستيد ومرا بغابة سانت جون نحو حدائق ماريسفيلد. بشكل غير متوقع، انتهى بهما المطاف أمام المنزل الذي أمض فيه سيغموند فرويد سنواته الأخيرة بعد مغادرته فيينا، وهنا أمضت ابنته آنا العقود المتبقية من حياتها. كان للمنزل لوحة تعلن أنه متحف فرويد، ويفتح سبعة أيام في الأسبوع. كان المتحف  سيثير اهتمامها في أي مناسبة أخرى، لكنها كانت مكتئبة من رفيقها. وكل لحظة لهما معاً تبدو وكأنها تشحن سموما جديدة في الجو. وهكذا عادا بصمت لقطار الأنفاق. ثم دبت مشاحنة حول مكان تناول العشاء. وأخيرا انفجر ينتقدها بصوت مرتفع قائلا: "كل ما يهمك هو حياتك المهنية والمال!. هذا يكفي!. لقد انتهيت”.

ابتعد وهو يدق الأرض بقدميه، وترك تيريزا تراقبه، وسترتها ملفوفة حول جسدها الذي مات وتلاشى فجأة.  شعرت أنها صغيرة ومكشوفة، وخشيت من العودة إلى الفندق في الليل وحدها. ومع كل خطوة إلى الأمام في هذا الليل، حاولت إقناع نفسها بأن جدلهما مجرد نعمة مقنعة. وأن تقول إن الواحد منهما يثير أعصاب الآخر قول لا يدل على كل الحقيقة المؤلمة.  كانت الكراهية تتفاعل.  كل منهما يجر الآخر للجنون. وكانا أشد بؤسا باجتماعهما والأفضل لهما أن يفترقا. قرارات بسيطة، مثل مكان تناول العشاء، وضعهما على الحافة. وكل مناقشة ولدت المزيد من البغضاء، ويبدو على نحو متزايد أنه ليتفاهما لا بد من الامتناع عن تبادل الكلام والنقاش.

عندما دخل غرفتهما في الفندق حوالي الساعة الحادية عشرة ليلاً، أدارت وجهها نحو النافذة وفتحت حاسوبها المحمول. جلس على زاوية  السرير وبدأ يبحث في البريد الإلكتروني بينما هي تطبع بسرعة محمومة.  ومرت ثلاثون دقيقة وكل منهما مشغول بجهازه الخاص به. وأخيراً قال:"هل يمكنك أن تتوقفي عن الكتابة؟ أحتاج للحصول على بعض النوم". لكنها تابعت ضرب لوحة المفاتيح بأطراف أصابعها. نظر إليها وكرر كلماته. وواصلت الكتابة بعناد. حدق في وجهها لمدة ثلاثين ثانية، كما لو كان ينتظر أن تتوقف، ثم اندفع نحوها، مهدداً بتخريب حاسوبها والاتصال بالشرطة. وقال بإلحاح:”هذه غرفتي. لقد دفعت لقاء ذلك ببطاقة الإئتمان! وأفكر أن أطردك إلى الشارع!”. لم تحرك عينيها عن شاشة الكمبيوتر المحمول فتابع الصراخ قائلا:"أنت أشبه بحصان بهذين العينين الجاحظتين الخامدتين دون أن تلاحظي أبدا ما يجري حولك. استيقظي، أيتها العاهرة الأنانية!". واختتم التهكم بقوله:"لقد انتهى الأمر. لقاؤنا أكبر خطأ في حياتي. سأحجز غرفة وأترككِ وحدكِ الليلة. وداعا. انعمي بحياة أفضل”. شعرت بالصدمة. لم تتوقع المشاعر التي تفجرت في داخلها عند انفصالهما. ولم تستطع تذكر شعورها لدى مقابلته للمرة الأولى. ولم تستطع أن تفكر بالخوف الناجم عن انسحابه من حياتها.  بدلا من ذلك شغلت نفسها بما سيحصل لاحقا، وتساءلت: كيف سأشرح نهاية هذه العلاقة لصديقاتي؟. وفكرت بكتبها.  كيف سأعيدها إلى إكستر؟. وهل يجب أن أستأجر شركة نقل؟. هل سيتم شحنها؟. وأخيرا توقف تدفق الأسئلة البسيطة أمام أسئلة أهم، وسألت نفسها: هل أنا أحبه؟. وكيف لي أن أعرف؟. ما هو الحب؟. عموما هو هو من بادربالانفصال عني.

وواصل ديمتريوس الصراخ. كانت قد توقفت منذ فترة طويلة عن محاولة فهمه. وتظاهرت بالصمم، حتى قاطعت أخيرا ثورته بقولها: "هل اكتفيت من توجيه الإهانات لي".

بدت الكلمات بمجرد أن خرجت من فمها ضعيفة بشكل يدعو لليأس. ولم يكن خجلها يبلغ درجة عدوانيته. ثم أدركت أن المهم في الجدال ليس ما يقوله الإنسان، ولكن ارتفاع نبرته. وهكذا تراجعت إلى قوقعتها وابتعدت عنه. ثم لفه الصمت، فاقتربت منه وهو في السرير، وغابا معا بنعاس يقود للنوم. حاولت لمس مؤخرة ركبتيه، لجس نبضه، ولتتأكد ما إذا كان يعني حقا ما قاله، وما إذا كان جادا في الانفصال. فبقي ساكناً. ولم يكن بمقدورها أن تعلم هل هذا لأنه نائم أو لأنه ينوي إنهاء علاقتهما. وكانت ترغب بالتكهن بالجواب. وفكرت: إذا لم يقرر الانفصال، إن البقاء معه يعني قبول هذا السلوك المريب. والاستمرار بحبه يعني إذلال ذاتها.  وأنا لست مازوشية. ويجب أن أرفض.

عندما استيقظا في صباح اليوم التالي بدأت في حزم أمتعتها. وانتقلت إلى الفندق الآخر الذي حجزته لها مؤسستها. وافترضت أنه سيحجز ليلة أخرى في الفندق الذي كانا فيه. وافترضت أنهما على وشك الإنفصال. وانشغلت بحزم أمتعتها لمدة خمس عشرة دقيقة، وتابع هو اللهو بجهاز الكمبيوتر المحمول، متظاهرا أنه يحجز لنفسه ليلة إضافية في الفندق. وكان من شأن هذا الحجز أن يدل على نهاية علاقتهما. ومع ذلك عندما انتهت من تجهيز حقيبتها وجلست بجانبه، بدا أنه لم يحرز أي تقدم في حجزه. ما الذي يمنعه؟. هل لا يزال مصرا على الكلمات التي ألقاها على مسامعها في الليلة السابقة؟. لم تستطع أن تقرر. وعندما جلست بجانبه، نظر إليها بهدوء، عيناه البنيتان بلون عيون الغزال مفتوحتان وبريئتان. كان من المستحيل ربط عنف الليلة الماضية بهاتين العينين. هاتان هما العينان اللتان وقعت بحبهما: لطيفتان كالغزال، هادئتان ومفتوحتان على كل شيء وللجميع. كانتا فارغتين من المشاحنة.  وتمنت لو أنه لا يتعين عليها رؤية عينيه إلا هكذا. واستلقيا جنبا إلى جنب واخترعا كلاما مبهما وبعيدا حول الأخبار والأحداث - الانتخابات الإيرانية، خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الرئاسة الأمريكية - وتجنبا الإشارة عما جرى بينهما في الليلة السابقة. ثم تلامسا. وتخلص من ملابسه. ومارسا الحب كما فعلا في باريس وبروكسل، وهكذا غاب كل شيء وكل الموجودات التي هي خارج نطاق جسديهما عنهما في تلك اللحظة. همس في أذنها يقول:"أريد أن تصلي للذروة. أن تصلي وأنا معك في داخلك . هذا واجبك. ولن أقذف حتى تعطيني الإشارة”.

عندما انتهيا لف ذراعيه حول كتفيها وقال: "هيا لنذهب إلى فندقك". وانتهى جدال الليل السابق، واختفى  كما لو أنهما في حلم.

في تلك الليلة، وللمرة الأولى بعد الوصول إلى لندن، لم يتشاحنا حول المكان الذي سيأكلان فيه. تناولا الغداء في مطعم سوشي قريب، قبالة ساحة راسل، ثم توجها إلى سكوبس، أكبر مكتبة للكتب المستعملة في لندن. هنا فعلا بالضبط ما فعلاه في باريس، مدينة حبهما. مرا برفوف الكتب، وتكلما في طريق العودة عن أفضل كتاب يستحق الاقتناء، وصنعا قائمة بمئات الكتب التي يريدان قراءتها. وخلال هذا الوقت كان من الواضح أن الواحد منهما يستكمل الآخر: كانا أكبر متحمسين لاقتناء الكتب في العالم. مثل باريس مرة أخرى.

وكانا قد يئسا تقريبا من فكرة العثور على شيء جديد في تلك الأمسية عندما اقترح ديمتريوس أن يتفحصا برنامج ألميدا، وهو مسرح قريب من الويست إيند وفي منتصف منطقة أنجيل. نظر ديمتريوس في موقع المسرح على الإنترنت. كان العرض في تلك الليلة هو “الخال فانيا”. وكان هناك مقعدان متاحين، وكلاهما خلف أعمدة هائلة الحجم.  قال لنفسه: على الأقل سيكونان قادرين على الجلوس معاً. كان تشيخوف قد جمعهما معا في باريس، والآن، كما يأمل، سيجمعهما معاً، مرة أخرى، في لندن. اتصلت بالمسرح وحجزت مقعدين.

وكان العرض قد حصل على مراجعات سلبية في صحيفة “الغارديان” بسبب طوله ، لكنها لم تهتم. لقد عشقت تشيخوف. وقالت لنفسها: العرض الأطول أفضل. قد تكون هذه آخر مرة أراه فيها. هرعا إلى المسرح يداً بيد، وجلسا خلف الأعمدة. همس لها بين المشاهد مشيداً بالتمثيل. وأومأت بالموافقة على كل كلمة قالها. ثم اشترى الآيس كريم لهما، بلفتة كرم معهودة منه، وبمقدار كوبين لكل فصل: وكانا بالكراميل المملح، والتوت، وفانيلا الفول، والبندق.

وأمكنها أن تلاحظ  كيف كان مسرورا من الأداء من الطريقة التي انحنى بها منصوب القامة على كرسيه، وعينا الغزال البنيتان مستغرقتان في المشاهدة بسلام. بعد العرض، كانت هناك جلسة أسئلة وأجوبة مع الممثلين. جلسا خلالها  بهدوء، وأيديهما متماسكة. كانت الرغبة تجتاحهما مرة أخرى، وحولت عنف الليلة السابقة إلى أحلام وردية. وقربتهما من لم الشمل. وتبادل المكان الحقيقي مع الوهمي بفضل تشيخوف.

قال ديمتريوس خلال استراحة قصيرة بشكل سؤال وجواب:” لاحظت شيئا واحدا مستمرا في مسرحيات تشيخوف، وهو أن الشخصيات دائما مغرمة بالإنسان الخطأ. سواء كانت سونيا ومايكل أو فانيا وايلينا، هؤلاء الأشخاص لا يعرفون مصلحتهم، لذلك هم في نهاية المطاف يضرون أنفسهم".

وبعد نهاية جلسة الأسئلة والأجوبة حدق في عينيها ثم قبلها. وكانت هذه هي المرة الأولى منذ أيام باريس  يتبادلان فيها قبلة بهذه الطريقة، وهي المرة الأولى التي نسيا فيها محيطهما. ومع ذلك طوال الوقت كان جزء منها يعرف أن غرامها له سيستمر مدة وجيزة. وما كان بينهما سينتهي قريبا. وقالت إنها لا تستطيع أن تسمح  بالمزيد من الإساءة لنفسها، أو أن تخاطر بالتعرض لمزيد من الضرر. قد يلتقيان مرة أخرى، ولكن في المرة القادمة التي ستقابله بها لن يعني لها ما كان يعنيه من قبل. سيكونان كالأغراب. 

لقد مرا بتجربة ولادة وموت حكاية حبهما. وعودة أي شعورسيوقظ أشباح تلك الليلة التي تخللتها الكراهية والبغضاء. وأصبحت في تلك الليلة إنسانة حقيقية لأول مرة، وغيرت كل شيء إلى الأبد. وأدخل العنف إلى حياتهاواقعا جديدا لا يمكنها تجاهله.

وعادا على الفور إلى الفندق كل منهما متعطش لجسد الآخر. ومرت تلك الليلة وهما معاً عاريين وبحالة حميمية خالية من كل التوترات.  وكما حصل في وقت سابق من ذلك اليوم، أصر على أن تصل إلى النشوة الجنسية أولاً، ورفض أن يقذف حتى تشعر بالذروة. وقال إنه لا يريد الجنس من أجل متعته فقط. وأراد أن يصبح جزءاً من الرغبات التي تنتابها في أحلامها.

عندما كانا ينامان معاً في الماضي، كانت عادة ما ترقد إلى جانبه لمدة ساعة حتى ينام. ثم تذهب إلى دورة المياه أو غرفة مجاورة حيث  تعمل لبضع ساعات على جهاز الكمبيوتر المحمول، وغالبا حتى الفجر. فهي لا يمكن أن تعمل إلا في عزلة، بعيدا عنه، حتى لو كان ذلك يعني مرور الليل جالسة على المرحاض. ثم بمجرد أن تبدأ الشمس بالسطوع، ينطلق المنبه الداخلي، وتعود إلى السرير، وأخيراً تغفو، وظهره لها. هذه الليلة كانت مختلفة فهي آخر ليلة لهما معاً، وأرادت لكل لحظة أن تدوم أطول ما يمكن. ولذلك  لم تذهب إلى دورة المياه، ولم يرن المنبه الداخلي. بدلاً من ذلك نامت بين ذراعيه.

استيقظا متأخرين ساعتين. وكان قد فاته القطار، وكانت هي قد تأخرت عن الحصة الأولى من تدريباتها. وبعد موجة من الذعر، أدركت أنها لن تتمكن من توديعه بالإيماءات الرقيقة التي حلمت بها وهي ممددة بين ذراعيه في الليلة السابقة. في الوقت الذي فتحت به عينيها كان بالفعل يعمل على الكمبيوتر، ويبحث بشكل محموم عن تذكرة جديدة على يوروستار للعودة إلى بروكسل. ومن خبرتها السابقة معه في المواقف العصيبة، كانت تعرف أنه من الأفضل عدم التحدث الآن. التقطت حقيبتها وهمست: "أراك قريباً" وغادرت ببساطة. وهكذا  تجنبت إحراج الفراق الذي يتلازم مع طقوس الوداع. لكن هذه كذبة. فهي تعرف أنها لن تراه مرة أخرى، على الرغم من أنها لم تكن متأكدة أنه يدرك ذلك.

في معظم المسافة إلى محطة يوستون كانت تحدق بالأرض، خائفة مما  سترى إذا رفعت عينيها. كان مشهد العشاق الشباب أمامها مؤلمًا بشكل خاص. قالت بصوت مرتفع:"إنه الحب. يا لها من مزحة". 

كانت مسرحية الليلة السابقة قد أثارت ذكريات كل لقاءاتها الماضية مع تشيخوف. كانت تعرف قصصه أكثر من مسرحياته. وتذكرت قصة واحدة على وجه الخصوص وهي "السيدة صاحبة الكلب"، لقد قرأتها خلال سنتها الأولى في الجامعة. كان للقصة في نفسها صدى على مستويات مختلفة كثيرة، ومع أنها لم تكن في علاقة غرامية من النوع الذي ورد في القصة بين غوروف وآنا سيرجيفنا. أكثر ما أثار قلقها من القصة هو انقسامها بين الحياة الحقيقية، التي تجري تحت غطاء من الليل وفي السر، والحياة المزيفة، التي تتحكم بنهارات عملنا، وعلاقاتنا المهنية، وكل ما نقوم به في ساعات النهار. معظم العالم لا يعرف إلا الشوط الثاني، حتى لو أن عقولنا تسكن في العالم الأول. بالنسبة لغوروف بطل تشيخوف، لم يشعر بحياته الحقيقية إلا عندما كان مع حبيبته آنا. ومع ذلك كان حبهما مثقلاً بالازدواجية: فقد خالف قوانين المجتمع وانتهك الأخلاق التقليدية. لقد خان زوجته. خان زواجه. وعندما وصلت تيريزا إلى محطة يوستون قررت قراءة "السيدة صاحبة الكلب" مرة أخرى. حتى لو لم تتمكن القصة من توجيهها في قابل الأيام، من شأنها أن تساعدها على مواجهة سقوط علاقتها مع ديمتريوس.

V.

بينما كانت تيريزا تنتظر القطار الذي ستستقله إلى الدورة التدريبية، تأملت في العطلة الكارثية التي مرت - أو بالأحرى التي قتلتها - هي وديمتريوس. لماذا نؤذي من نحبهم؟. سألت نفسها، وشعورها مثل شخصيات  مسرحية تشيخوف. لماذا نهينهم بطرق لا نهين بها حتى الغرباءً؟. كيف يمكن للكلمات أن تكون مليئة بالكراهية؟.

صعدت السيارة الأولى، وبحثت عن مقعد شاغر وجلست. بدت لها الحروف المائلة في رأسها وكأنها علامة للاحتفال بولادة قصة تكتبها. حول ماذا بالضبط، لا تعلم، لكنها خمنت أن تشيخوف سوف يتبلور فيها بطريقة ما.  ستكون قصتها عن تشيخوف كما يراه ديمتريوس، تشيخوف بعيون عشيقها السابق. على الرغم من أنه عمي عن العديد من أحاسيس قلبها، فهما يشتركان بعواطف متعددة. كان (تشيخوف) واحداً منها. وأنفقت ما تبقى من الرحلة على خط فيكتوريا وهي تتخيل كيف سيكتب عشيقها نهاية علاقتهما. في إحدى المناسبات تكهن أنها لن تراه مرة أخرى. كيف سيصف قرارها بالتخلي عنه في ذلك الصباح في غرفة الفندق، دون أن تقول وداعاً؟.

وقررت تيريزا: أنه من الآن فصاعدا  سيكون ديمتريوس شخصية وهمية من مسرحية تشيخوف. وستصبح هي سونيا، ابنة أخت الخال فانيا، التي راهنت بكل آمالها على السلام الذي سيتبع وفاتها. كان مقدرا على سونيا أن تصبح العانس، وأن تدير عقارات الأسرة وحدها. وستحرر ديمتريوس، سيكون حرا للعثورعلى نفسه، وحرا أيضا في العثور على حبه. وستسعى لتحقيق هذه الأشياء ذاتها لنفسها، دون أن تتوقع أن تنجح في مسعاها. واقتبست من سونيا كلامها في المسرحية: المسعى هو الذي يهم، وليس ما تجده عندما تصل إلى نهاية الطريق. وإذا بقيت وحدها بعد هذا الكد الذي سيضني كل حياتها،  ستعرف على الأقل، وذات مرة، أنها أحبت حقا. لقد عرفت الحب مع شخص غريب في باريس، قبل أن يتم تدجين علاقتهما على يد الحياة اليومية. فروحاهما اندمجتا بنفس قوة اندماج جسديهما،  وهما يسيران اليد باليد على ضفاف السين.

 لن تنسى أبدا عيني الغزال البنيتين، أو توسله الرقيق، بعد عدة أيام من تعارفهما، كي تخبره إذا شعرت في أي لحظة أنها غير محبوبة. بالطبع، هي لم تخبره بذلك. وكيف يمكنها أن تقول شيئاً كهذا حتى لو شعرت به؟. خلال تلك الأيام الأولى من التعارف.  فوقته كان مخصصا لها ووقتها كان مخصصا له. وقد تقاسما معا لحظات لا يمكن أن تتكرر، على الإطلاق، مع أي شخص. تلك اللحظات تنتمي إلى فصل آخر في حياتها، فصل من كتاب يصل لنهايته. فالحاضر لا يمحو الماضي. همست تقول: وداعاً يا (ديميتريوس). أرسلت له قبلة عبر الأثير. ووقفت لتبديل القطار. 

 

...................

ريبيكا غولد Rebecca Gould شاعرة وقاصة ومترجمة أمريكية. تعمل بتدريس الحضارة الإسلامية والثقافات المقارنة في جامعة برمنغهام. صدر لها كتاب بعنوان “كتاب وثوار: أدب الثورة في القوقاز”. والترجمة بالاتفاق معها.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم