صحيفة المثقف

أشلاء الياسمين

قاسم المحبشيأشلاء الياسمين وبدون مولا من العقل والوجدان، بل من المكان، والزمان من الفضاءات الحميمة التي تحتضن الكائن؛ المنزل، الشارع، الحي، البلدة، المدينة، الأرض، السماء، المواسم الليالي الأيام، النجوم الغيوم، المطر، الشمس، القمر، الشجر، البحر، الموج، النهر، الجداول الرمال، الجبال، الوديان، الحيوان، الأنوار، الظلال، الأشكال والألوان، الغناء، الرقص، النحت، الرسم، الأزياء، الألعاب، العصافير، الأعشاش، الافراح، الاتراح، الألآم والآمال والأحلام. الخ وكل تلك الأشياء الصغيرة الحميمة المؤطرة في السياق الحي الفوري المباشر لكينونة الكائن التي يعيشها متدفقة لحظة بلحظة من حياته. تلك الاشياء الصغيرة بتفاصيلها الحميمة التي تظل عصية عن النسيان هي التي يستلهمها الإنسان، المفكر، الفنان، ويعيد صيغتها إبداعياً ( فكرة، أغنية أو قصيدة أو قصة أو رواية أو لوحة تشكيلة فنية جميلة أو سيرة ذاتية أو رؤية فلسفية.الخ) أنها أغنية الأرض المنتزعة من أرضها رمزياً بما تحمله من رسالة إنسانية جمالية ذات دلالات ومعاني سيكولوجية وميتافيزيقية واجتماعية ثقافية سامية تهذب الأذواق والنفوس، والفنان لا يأتي المعجزات؛ بل هو ابن بيئته وربيب زمانه. وتمنحه موهبته المرهفة القدرة على إعادة صياغة الحياة في قالب فني يسر النظر، ويطرب السمع، ويبعث الشعور بالمتعة والفرح والجمال أو الحزن والشفقة والامتعاض والنفور. والفنون لغة درامية عالميّة للتعبير عن المشاعر الإنسانية النّابعة من أعماق الكينونة التي تتكلم وجودها الحي في هذا العالم. ومن بين الفنون جميعها فالمسرح أهمها ذلك لأنه الفن الوحيد الذي يعيد تمثيل الحياة بكل صخبها ومداراتها التراجيدية والكوميدية (الحزينة والمضحكة) أمام الكائنات العاقلة التي تعيش وتمارس ادوارها المختلفة في واقع الحياة اليومية وبهذه المعنى تعد الحياة كلها مسرحية والإنسان هو الذي يمثلها والتاريخ حبكتها. وكل كائن إنساني هو ممثل لادوار الحياة المختلفة؛ دور الأب ودور الأم ودور الابن ودور البنت ودور التلميذ ودور الطالب ودور العاشق ودور الزوج ودور الأخ دور الصديق ودور القاضي ودور الوفي ودور الخائن ودور الحكيم ودور المحامي ودور المنقذ ودور الحاقد ودور المحب ودور الفقير ودور الغني .. الخ من ادوار الحياة التي لا تعد ولا تحصى. فمن هو ذلك الذي يمتلك الموهبة والقدرة على تمثيلها دراميا؟! أنه الفنان، الفنانة، الكاتب المخرج والممثل الممثلة الرسالة.

كتب الأديب اللاتيني الضرير خورخي لويس بورخيس في وصفة محنك ابن رشد مع كتاب الشعر لارسطو طاليس قائلا " بالأمس وقف عند كلمتين مريبتين في بداية كتاب "الشعر" وهما "تراجيديا وكوميديا". لقد وجدهما سنوات من قبل في الكتاب الثالث من "البلاغة"، لم يسبق لأحد في نطاق الإسلام أن خمن معناهما، وبدون جدوى، أتعب صفحات كتاب الإسكندر الأفروديسي، وبدون جدوى، قارن بين الترجمتين اللتين قام بهما النسطوري حنين بن إسحاق وأبو بشر متى، والكلمتان اللغزان تتررددان في كتاب الشعر يستحيل تلافيهما. ترك ابن رشد القلم، وقال لنفسه (دون ثقة كبيرة) بأن ما نبحث عنه يكون عادة قريبا منا، خبأ مخطوط التهافت، واتجه نحو الخزانة حيث تصطف مجلدات كثيرة من كتاب "المحكم" للأعمى ابن سيدة منسوخة بأقلام خطاطين فرس، سيكون من باب الخداع أن نتخيل بأن ابن رشد لم يراجعها من قبل ولكن استهوته الآن لذة ورجع إلى تصفحها من جديد، وسمع صوتا رخيما نظر من الشرفة، في الفناء الأرضي الضيق فرأى بعض الأطفال يلعبون شبه عراة، كان أحدهم، واقفا على كتفي آخر، يمثل المؤذن بصورة بارزة : عيناه مغمضتان جيدا، وهو يتلو "لا إله إلا الله" أما الصبي الذي كان يحمله ولا يتحرك فكان يمثل الصومعة. وكان الآخر راكعا على ركبتيه في الغبار، يمثل جماعة المؤمنين. استمر اللعب وقتا قليلا، فقد كان كلهم يريد أن يكون المصلين أو الصومعة، سمعهم ابن رشد يتشاجرون ويتعاركون في لهجة بريئة، يمكن القول إنها الإسبانية البدائية التي يتكلم بها عوام المسلمين في إسبانيا. فتح ابن رشد كتاب "العين" للخليل، وفكر بكبرياء أنه لا توجد بقرطبة (وربما الأندلس كله) نسخة أخرى من هذا المؤلف الكامل الذي أرسله إليه من مدينة طنجة الأمير يعقوب المنصور. ذكره اسم هذا الميناء بأن الرحالة أبا القاسم الأشعري، الذي جاء من المغرب سيتناول في حضرته طعام العشاء هذه الليلة في بيت فرج عالم القرآن. يقول أبو القاسم إنه بلغ مهالك امبراطورية الصين، ويقسم المشنعون، استنادا على ذلك المنطق الذي يتولد عنه الحقد أنه لم يصل أرض الصين أبدا. إن الاجتماع سيستغرق ساعات لا محالة ولهذا رجع ابن رشد إلى كتابة "التهافت" معجلا. وظل يعمل إلى حين الغروب" (ينظر، خورخي لويس بورخيس، ابن رشد وقلق العبارة) والمعنى أن فيلسوف قرطبة العربي الذي لا تعرف ثقافته الفن المسرحي المرئي لم تسعفه اللغة وحدها من أكتشاف معنى الكلمتين اليونانيتين (تراجيديا وكوميديا) في كتاب بويطيقا فن الشعر لأرسطو وهكذا دائما تحجب الثقافة المعنى. ولو أن ابن رشد يعرف المسرح لما نظر في كتاب العين للخليل ولكان أكتفى بمشاهدة تمثيلة الصلاة والأذان التي كان يؤديها الأطفال في فناء المنزل.

تلك الخاطرة هي التي تداعت إلى ذهني وأنا اشاهد الجزء الثالث من مسرحية بدون مقابل للفنان الموهوبة الدكتورة رغد الأمير وطاقمها الفني الرائع على خشبة مسرح قصر الجيزة الثقافي في شارع الهرم البارحة. ذهبت بغرض حضور حفل توقيع المجموعة القصصية أشلاء الياسمين  للدكتورة سماح عبدالموجود. وتلك هي المرة الأولى التي ازور فيها قصر ثقافة الجيزة. إدارة الأمسية الأستاذ المستشار صالح شرف الدين وهو شاعر وروائي وناقد مصر كبير.

البارحة شاهدت أم الدنيا في تألقها الإبداعي الذي لم اشاهد مثله في أي مكان من الوطن العربي؛ هناك في قصر ثقافة الجيزة تجلت المواهب الإبداعية في تنويعة مدهشة من القصة القصيرة والشعر والغناء والموسيقى والنقد والاوبريت في فضاء رحيب ومبهج قل نظيره. مر زمن طويل منذ شاهدت مسرحية حية وجه لوجه ولا اتذكر منذ متى كان ذلك. وكم أحسست بالفرق بين مشاهدة الدراما مباشرة أو عبر القنوات الفضائية ووسائط الاتصال الاجتماعي. البارحة فقط سنحت لي الفرصة برؤية الدراما المصرية بالعين المجردة. كنت قريب من خشبة المسرح وشاهدت المخرجة والبطلة الفنانة رغد الأمير وطاقمها الفني من الممثلين والممثلات الشاب وهو يأدون الأدوار الدرامية بكفاءة واقتدار وبساطة وتلقائية كما هي في الحياة العادية. شدتني المسرحية وجعلتني اعيش لحظة خاطفة في عالمها الدرامي؛ انتبهت وتفاعلت وتعاطفت مع البطلة الوفية المغدورة آمال التي خذلتها صديقتها وفاء بخطف خطيبها الذي احببته بكل جوارحها واسمعته تباريح عشقها شعرا ونثرا ولكن الغيرة والحسد في قلب صديقتها وفاء التي منحتها ثقتها المطلقة ولم تشك ابدا في نوايها كانت هي من صرعتها. في لحظة تراجيدية مؤثرة سقطت البطلة مغشية على خشبة المسرح وهي تضع يدها على قلبها. كان ذلك بعد لحظة من كشفها حقيقة خيانة وفاء التي تزوجت خطيبها .في ليلة الزفاف كشفت خيانتها فطلقها العريس وتمسك بحبيبه الأولى ولكنها ماتت بين يديه في مشهد حزين. كان ممثل دور الأخ بارع في التمثيل. تلك المسرحية ذكرتني بالوظيفة التطهيرية للفن المسرحي الذي قرأتها في الأدب اليوناني منذ زمن طويل؛ تطهير الذوات بعد خضها بالعصف الوجداني الفاعل والمنفعل.

أما أنا وصديقي المثقف العميد عبدالله محمد صالح أبو رعد القادمان من الشاطىء الجنوبي للبحر العربي فلم يكن لدينا ما يستحق القول في ذلك المكان والمقام الا قصيدة فيما يشبه السلام والتحية لمصر وأهل الكرام وكان الفنان المبدع مصطفى المغربي بصوته الشجي جوهرة الأمسية وسكرها واليكم الخاطرة :

يا مصرُ يا أمَ الوجود سلامُ

زهت العروبةُ فيكِ والأحلام

 

من أينَ أبدأُ في عُلاكِ وكلما

يخطو اليراعُ، يخونُهُ الإقْدَامُ

 

يامن علوتِ مهابةً وجلالةً

حتى أفاضَ بمدحكِ العلامُ

 

قال ادخلوها فالأمانُ شريعةٌ

والحكمُ عدلٌ والديارُ سلامُ

 

ياخيرَ  جندِ الأرضِ دمتِ عظيمة

يا مصرُ أنتِ لأمتي الصمّامُ

 

قلبي سُيلقي الآن  فيكِ رحاله

فالجودُ نيلٌ والندى أهرامُ

 

فعلى الكنانة تزدهي آمالنا

وعلى الكنانة تشرقُ الأحلامُ

 

لي فيك حلمٌ لا تزولُ نجومُهُ

لي فيكِ مالا تدركُ الأقلامُ

يا مصر يا أم الوجود سلام

***

قاسم المحبشي - الجيزة

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم