صحيفة المثقف

جرجي زيدان ولغة التاريخ والوجدان (1)

ميثم الجنابي

العقلانية واللاعقلانية في الفكر العربي الحديث (12)

للحياة مفارقاتها في المصير الشخصي. فقد بدأ جرجي زيدان (1861-1914) حياته الفكرية الحرة بامتحان أخلاقي سياسي، واستمرت لاحقا في اختبار علمي دائم، وانتهت بتحقيق معرفي تجاه التاريخ العربي وثقافته القومية. ومن الممكن العثور على صدى هذه الدراما الحياتية المفعمة في عباراته الوجيزة التي عمم فيها مهمة ووظيفة وغاية البحث العلمي في تقديمه لكتاب (تاريخ آداب اللغة العربية). ففيه يكتب قائلا، بأن "من يتصدى للكتاب يجعل نفسه خادما للمصلحة العامة"1 . ولم يكن ذلك في عرف التجربة الشخصية والتاريخية لجرجي زيدان سوى الوجه المعرفي لمسار التجربة الفردية التي أرتقت من حيث مضمونها الفعلي إلى مصاف الاستظهار الجديد للفكرة العربية القديمة القائلة، بأن سيد القوم خادمهم. لكنه رفع هذه الفكرة الحكيمة إلى مصاف الحرية الفعلية من خلال ربطها بفكرة المصلحة العامة للأمة والذائبة في أساس إرشادها العلمي. من هنا قوله، بأن "الكاتب العام خادم الأمة وولي إرشادها. وعليه أن يبذل الجهد في سبيل مصلحتها"2 . ووجد هذا السبيل في ما اسماه بجمع الحقائق والمحافظة على سلامة المعنى. وانطلق في موقفه هذا من توحيد خفي لفكرة الالتزام الكامنة في صلب المؤرخ ورجل العمل وجوهرية الحقيقة كما هي. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن "الأمة في حاجة إلى الحقائق أكثر من حاجتها إلى الألفاظ"3 .

ولم تكن هذه الفكرة المنهجية والعملية العميقة معزولة عن تجربته في ميدان التاريخ واللغة. بل يمكننا القول، بأن مسار التجربة الشخصية والمعرفية لجرجي زيدان هما وجهان للتاريخ واللغة. وكلاهما يشكلان الروافد التي بلورت شخصيته وأثرها أيضا في إرساء أسس الحصانة الثقافية لوعي الذات العربي الحديث. إذ لا يعني احتياج الأمة إلى الحقيقة أكثر من الألفاظ سوى الإدراك الجديد لأوليات الرؤية المنهجية التي استحكمت في إنتاجه العلمي ومواقفه النظرية والعملية. بمعنى إدراك أولوية الحقيقة والباطن والمعنى بوصفها أرصدة المستقبل. لاسيما وأن جرجي زيدان كان يشدد وبالأخص في أواخر أعماله الناضجة على أن ما يكتبه موجها بالأساس للناشئة، أي لأجيال المستقبل4 . ليس ذلك فحسب، بل وأن ما كان يخطط له وينفذه من كتابات بهذا الصدد أقرب ما يكون إلى موسوعة وعي الذات الثقافي القومي. وهذا بدوره ليس إلا الصيغة الجديدة والتوليف الواعي لما في التيارات الفكرية السابقة له والتي اطلقت عليها عناوين "طلاقة اللسان" و"تحصين الأركان" من تراكم قومي وثقافي.

فقد أدى تعمق وعي الذات العربي الذي جرى بأثر توازى المسار الذي قطعه كل من تيار "طلاقة اللسان" وتيار "تحصين الأركان" إلى تفعيل هواجس الضمير الملتهب وإدراك قيمة الهموم الكبرى والصغرى بالنسبة للتعامل مع كل ما له علاقة بالحاضر والمستقبل. فقد شارك كلاهما بالغوص في بحار اللغة والتاريخ، بمعنى ولعمهما بقضايا المجرد والملموس في التاريخ القومي والثقافي. وإذا كان لهذا الاختلاف فضيلة نظرية كبرى ورذيلة عملية بمستواها في حالة عدم تداخلهما في تأمل الحاضر واستشراف المستقبل، فانه شأن كل تواز في الحياة لابد له من أن يتقاطع في محطات العبور أو الوصول. مما يولد بالضرورة شرارة الهياج العارم حينا، وطغيان الفرح والابتهاج حينا آخر. وليس مصادفة أن يتسلل هذا التقاطع بأشكال ومستويات مختلفة ومتباينة إلى أذهان وأعيان النخبة الفكرية الجديدة الناشئة آنذاك. إذ يمكننا العثور على صدى هذه الحالة في إبداع مختلف شخصيات المرحلة، لكن ذروتها الأولية تجسدت في شخصية وإبداع جرجي زيدان.

 حقق جرجي زيدان في حياته وفكره ومصيره تذبذب الحالة الحرجة لتوليف اللغة والتاريخ المتراكم في وعي النهضة العلمية والأدبية العربية الحديثة، بوصفها وحدة ضرورية لوعي الذات القومي والثقافي. وفي هذا تكمن مأثرته الكبرى بالنسبة للعقل والضمير العربي الجديدين. وذلك لأنه استطاع بقدر واحد السير إلى الأمام خطوات كبرى بتقاليد الرؤية الجديدة عن قيمة التاريخ واللغة، وتوحيدهما بمعايير الرؤية النقدية ووعي الذات التاريخي.

كانت بدايته في مجال البحث التاريخي بحد ذاتها مؤشرا خفيا يحتوي على كمون الرؤية القومية والثقافية. وذلك لأن البحث التاريخي الكبير وهمومه الوجدانية والواقعية المتنوعة عادة ما يضع الباحث أمام إشكاليات المعاصرة ومقارنات المنهج العقلي. مع ما يترتب عليه من تراكم علني ومستتر لعناصر العقل الثقافي النقدي، أي ذاك الذي يخرج على حدوده المرحلية ولكن من خلال الرجوع إلى مرجعياته الذاتية الكبرى. ومن الممكن رؤية كل هذا التراكم العقلي النقدي الثقافي الكبير في شخصية وإبداع جرجي زيدان من خلال النظر إلى تطور اهتمامه وأفكاره بمختلف قضايا التاريخ. إذ نقف أمام حلقات متراكمة في سلسلة وعيه التاريخي، بدأت بدراسة تاريخ العرب ما قبل الإسلام، ثم تاريخ الإسلام، ثم تاريخ التمدن الإسلامي، ثم تاريخ اللغة (العربية) وتاريخ آدابها. لكنها حلقات لم تكن منذ البدء محكومة بوعي مستقبلي واضح أو بفلسفة لها مبادئها وقواعدها وقيمها، بقدر ما أنها ترابطت في مجرى التجريب العقلي النقدي الباحث عن مبررات وأهمية النهضة الحديثة.

فقد كان هاجس النهضة القوة الكبرى في تراكم الرؤية النقدية التاريخية لجرجي زيدان. الأمر الذي جعل من طابعها المجزئ في بدايته، والتجريبي لاحقا، يتسم بقدر من العقلانية النقدية. وذلك لخلو هذه الرؤية من أثر التقاليد اللاهوتية وأثقالها الجاثمة على العقل والضمير. كما أن ضعف التأهيل الفلسفي الأول لجرجي زيدان قد أبقى على اهتمامه محصورا بالتاريخ كما هو. إضافة إلى التأثير الكبير للفكر الأوربي الاستشراقي بهذا الصدد. ومن هذه الحصيلة التي يمكن رؤيتها في كتبه التاريخية الأولية تبلورت النزعة التجريبية بوصفها تجربة نقدية عقلانية. إذ نراه يشير، على سبيل المثال، إلى أن ما يكتبه في ميدان البحوث التاريخية، بما في ذلك في (تاريخ التمدن الإسلامي) لا يخلو من مقارنة بالتاريخ الإفرنجي (الأوربي)، لكن المقصود الفعلي منه كان يقوم في إبراز هوية التمدن العربي الإسلامي. غير أن الجوهري في كل هذه العملية الطبيعة آنذاك هو الانتقال المتراكم في رؤيته التاريخية وتوسع وتعمق محتواها القومي والثقافي. أما البداية الكبرى لها أو أساسها المنهجي والنظري فيقوم في تبلور فكرة جوهرية التاريخ وأهميتها بالنسبة للنهضة الحديثة.

كان الاهتمام الأولي بالتاريخ العربي الوجه الآخر للاهتمام بفكرة التاريخ كما هي. لكن تلازمها الطبيعي عند زيدان يقوم في فكرة النهضة التي كانت تتحكم في عقول وأفئدة النخبة المثقفة آنذاك ونزوعها صوب التحرر. مما أعطى للاهتمام بالتاريخ بشكل عام والتاريخ العربي بشكل خاص بعدا منهجيا بحد ذاته جعل من فكرة التاريخ مرجعية عقلية، تماما بالقدر الذي جعل من التاريخ القومي مرجعية وجودية. ومن الممكن العثور على هذا الترابط الخفي في كمية ونوعي الاهتمام الذي بذله جرجي زيدان تجاه الاهتمام بالفكرة من جهة، وبالتاريخ من جهة أخرى. من هنا كلامه عن أن اغلب ما كتب عن تاريخ العرب قبل الإسلام عادة ما يخالف المنقول والمعقول5 . إذ لم يجر إفراد كتاب خاص بتاريخ العرب قبل الإسلام ممن اهتموا بتاريخ التمدن6 .

إننا نعثر هنا على ربط أولي بين التاريخ والتمدن، أي بين الفكرة وتاريخها الفعلي الشامل. لهذا نراه يؤكد على أن معرفة تاريخ العرب قبل الإسلام له أهمية من اجل معرفة سرّ الصعود الإسلامي والحضارة التي جرى صنعها بهذه السرعة. ومن ثم تبديد الأوهام والتصورات المسطحة والزائفة عما يسمى بعصر البداوة العربية وما شابه ذلك. انه أراد القول، بأن الصعود الحضاري الإسلامي الهائل له مقوماته المادية والروحية في التاريخ العربي ما قبل الإسلام. وهو تاريخ شامل له جذوره وامتداده في الجزيرة ووادي الرافدين. من هنا رؤيته المنهجية عن التاريخ العربي الموحد للمنطقة. فهو من بين الأوائل الذين تكلموا عن تاريخ عربي موحد قديم له جذوره العريقة. وما يسمى العرب البائدة هي مجرد صيغة أدبية لتاريخ عريق منحل وساري فيما يليه. فالعرب البائدة هم عرب العمالقة، ومنهم عمالقة العراق وهي دولة حمورابي (القرن 25 قبل الميلاد) وعمالقة مصر (الهكسوس) (الشاسو) وبقايا العمالقة (عاد وثمود وطسم وجديس وغيرهم) ثم دولة الأنباط وتدمر، ثم عرب الجنوب: حمير والتبابعة. ولم يكن الهدف من هذه الرؤية صنع عقيدة سياسية قادرة على استقطاب كل ما ترميه بقايا الذاكرة العتيقة على ساحة الوجود المعاصر للعرب، بقدر ما كان يهدف إلى تأسيس الرؤية المنطقية عن الوحدة الفعلية للتراث الثقافي للمنطقة بوصفه تاريخا موحدا ارتقى إلى مصاف التاريخ الكلي والعام بفضل العرب.

لقد كانت مهمة جرجي زيدان هنا تقوم في تصوير التاريخ كما هو من اجل صنع مرآة صافية لرؤية النفس وتعميق فكرة الانتماء الذاتي، بعد تخليها من الأساطير والرؤية المفرطة في نفيها لتاريخ الجاهلية أو المنمقة بغبار مرحلة الانحطاط التي تعرض لها العرب بعد زوال دولتهم7 . لهذا كانت منهجيته هنا تتسق مع فكرته العامة عن "نشر التاريخ وفلسفته وآدابه ودرس تاريخ الشرق وبالأخص تاريخ العرب والإسلام وآداب اللغة العربية"8 . انه أراد أن يجعل من التاريخ الواقعي تاريخا فعليا من خلال تمرير أحداثه وشخصياته ومكوناته وعناصره وكل ما جرى فيه عبر موشور الرؤية العقلية الناقدة والفاحصة. من هنا توكيده على أهمية الخروج من تقاليد سرد الأحداث دون تفسيرها العقلي. ووجد في هذا التفسير أحد الأسباب الضرورية لترسيخ حقيقة هذا التاريخ في عقل الأمة وذاكرتها، أي كل ما سيحصل لاحقا على تدقيق في العبارة والفكرة عندما اعتبر هذا الأسلوب ضرورة من اجل "أن ترسخ في الذهن حقيقة تلك الأمة"9 . وليست حقيقة الأمة سوى تاريخها بشكل عام وتاريخ تمدنها بشكل خاص. (يتبع....).

 

ا. د. ميثم الجنابي

.....................

1-  جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية، مصر، دار الهلال، (ب.ت)، ج2، ص5.

2-  جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية، ج2، ص5.

3-  جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية، ج2، ص6.

4-  جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية، ج2، ص7.

5-  جرجي زيدان: تاريخ العرب قبل الإسلام، مطبعة الهلال، 1922، مصر، ج1، ص3.

6-  جرجي زيدان: تاريخ العرب قبل الإسلام، ج1، ص3.

7-  جرجي زيدان: تاريخ العرب قبل الإسلام، ج1، ص 4.

8-  جرجي زيدان: تاريخ العرب قبل الإسلام، ج1، ص 4.

9-  جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي، دار مكتبة الحياة، بيروت، (ب.ت) ج1، ص8.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم