صحيفة المثقف

من فضلك لاتكن حجرا غشيما..!

يسري عبد الغنيالأمر الذي نحاول أن ننبه إليه هو أن مجال القراءة مثل مجال السياحة، كلاهما يحتاج إلى دليل. ليس لأن القارئ قد يتوه في أدغالها - فالتيه في القراءة مفيد - وإنما لأن الدليل قد يوفر عليك الوقت، فتحصل على أكبر فائدة في أقل وقت ممكن. والدليل الجيد هو الذي يضع بين يديك خارطة طريق واضحة تستغني بها عنه أحياناً. ولأن كاتب هذه السطور محسوب على القراء وله تجربة في القراءة يحسبها ممتازة، فقد سولت له نفسه طوال سنوات أن يقدم النصح في هذا الباب لكل من استنصحه. وكانت أبرز نصائحه التي لا يمل من تكرارها هي: عليكم بالأدب، ثم الأدب، ثم الأدب.

لا يكاد المرء يتصور مجالاً آخر يستحق القراءة غير الأدب، وإذا اضطر القارئ للذهاب إلى مجالات أخرى فمن باب النافلة لا الفريضة، باستثناء أصحاب الاختصاص المعين خارج دائرة الأدب. وكلمة الأدب تتسع دلالتها عند الكاتب لتشمل النصوص الدينية وبعض نصوص التاريخ أيضاً. فالقرآن المجيد والعهدين القديم والجديد، وموسوعة قصة الحضارة لوول ديورانت، مثلاً. هي مدونات أدبية أيضاً. بل إن كتاباً كالقرآن الكريم يعد كتاباً جامعاً لظواهر أدبية وجمالية مختلفة. فهو في معظمه كتاب قصص كما هو ظاهر، ولغته تعتمد على التصوير الفني كما قال سيد قطب، وجرسه الموسيقي يوظف الإيحاء بصورة مؤثرة كما قال د. شكري عياد.

إن أهمية القراءة في مجال الأدب دون غيره من المجالات تكمن فيما يستطيع أن يقدمه للشخصية الإنسانية من خدمات لا يقدر عليها غيره. فالأدب - ومعه الفن - هو مصدر نمو الشخصية، تماما مثلما أن الماء هو مصدر نمو الشجرة. والشخصية التي لا تعرف الأدب - والفن - هي بالضرورة شخصية مسطحة، أفقيه، كالحلزونة لا تستطيع أن ترى في الحياة إلا بعدها الأفقي المسطح. وهذا النموذج من الشخصية هو أحد عوائق النهوض الاجتماعي -في المجتمعات العربية خصوصاً- لأنه لا يستطيع أن يتفهم المشاريع النظرية للنهضة، التي عادة ما تتصف بالعمق والتركيب، ومن ثم يتحول إلى حجر غشيم في يد خصوم النهضة والتحول، من المستبدين والمشعوذين تجار الخرافة.

إن القراءة في مجال الأدب تضرب أكثر من عصفور بحجر واحد: فهي أولاً تضيف إلى تجربة القارئ في الحياة تجارب أخرى، تجعله أكثر خبرة بها وبأسرارها، وأعرف بنماذجها الإنسانية، ومن ثم أقدر على العيش فيها. وهي ثانياً توسع من مخيلته بما يجعله أقدر على تصور الأبعاد الحقيقية والخفية للوجود الذي يسبح فيه. وهي ثالثاً تثري قاموسه اللغوي بما يعنيه ذلك من تطوير لملكاته العقلية، إذا ما عرفنا أن اللغة تعد شرطاً في التفكير النوعي (الفلسفي)، وأنه كلما زاد رصيدك من اللغة زادت قدرتك على إجراء العمليات الفكرية الدقيقة. وهي رابعاً تمنحك من المتعة في مرافقة الأخرين - كتاباً وابطالاً - ما لا يمنحه لك أي مجال آخر من مجالات المعرفة. باختصار القراءة في الأدب تصنع شخصية أكثر ثراءً وعمقاً وحكمة وتأثيراً، وهذا ما ينبغي أن يسعى إليه المرء قبل البحث عن المعلومة الباردة التي قد يحتاجها في جدله مع الحياة.

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم