صحيفة المثقف

أحداث مهدت لتأسيس الدولة العراقية في 1921

عبد الحسين صالح الطائي"الإحتلال البريطاني 1914"

قرن على تأسيس الدولة العراقية (2)


خططت بريطانيا للسيطرة على العراق، منذ القرن السابع عشر، لما تزخر به أرضه من خيرات، فضلاً عن أن منطقة الخليج كانت تمثل مركزاً إستراتيجياً وإقتصادياً وسياسياً كبيراً. وليس من الصدف أن أسست شركة الهند الشرقية في 1643م أول معمل لها في البصرة، وفي 1763 أصبحت البصرة سوقاً تجارياً نشطاً لبريطانيا. وبعد ذلك خطت بريطانيا خطوة جديدة ضمن مخططها، فعينت مندوباً دائماً لها في البصرة في 1798، الذي ساهم بإعطاء دراسات تفصيلية عن المنطقة. حصلت بريطانيا على تقارير مهمة، من ضابط الإستخبارات الشهير لورنس، الذي أُرسل للعراق قبل 1911، وتقارير غيرترود بيل (Gertrude Bell)، التي لعبت دوراً هاماً في تدعيم الإحتلال البريطاني. كان الدافع الأكبر لإحتلال العراق هو إكتشاف النفط في منطقة عبادان، بالإضافة إلى الموقع الجغرافي والمصالح الإقتصادية، التي تتمثل بوفرة المواد الأولية الرخيصة.

عندما اندلعت الحرب في أوروبا أوائل آب 1914، أعلنت الدولة العثمانية الحياد تجاه الدول المتحاربة، وأعلنت حالة النفير العام بحجة المحافظة على حيادها. حالة النفير ضربت الحياة التجارية في كل أرجاء الدولة العثمانية وتضررت كل فروع الحياة الإقتصادية. كانت الحكومة مترددة في قرار دخول الحرب، إنقسم رجال الدولة إلى فريقين، أحدهما يدعو إلى الحياد، والآخر يدعو إلى دخول الحرب إلى جانب ألمانيا. وكان الحسم لدعاة التحالف مع ألمانيا. وتم إعلان فتوى الجهاد من شيخ الإسلام "خيري أفندي" في 07/11/1914، وأيدها السلطان خليفة المسلمين من أجل الدفاع عن الدولة العثمانية. وبدأت حركة الجهاد في العراق في 09/11/1914.  

هيمنت بريطانيا على منطقة الخليج، وبتاريخ 16/10/1914، تحركت من الهند قافلة من البواخر تقل حملة بريطانية بقيادة الجنرال "ديلامين" متجه نحو الخليج العربي. كانت الأوامر بالذهاب لحماية مصافي النفط وأنابيبه في عبادان، وإستعداداً لإحتلال البصرة. شكل نشوب الحرب العالمية الأولى بداية عهد جديد في تاريخ العالم، لأنها غيرت خارطة أوروبا تغييراً كبيراً. أما أهم حدث في الشرق الأوسط هو قيام الثورة العربية في الحجاز التي تُعد ضربة قوية للدولة العثمانية وحلفائها.

بدأت مرحلة التنفيذ الفعلي للسيطرة على العراق بعد إعلان الحرب بأيام. بدء الهجوم على الفاو بتاريخ 06/11/1914، وتم إحتلالها بدون صعوبة. وفي 14 نوفمبر وصلت سبع عشرة باخرة محملة بالجنود البريطانيين، فتكونت فرقة عسكرية كاملة. حدثت معارك بين القوات البريطانية والعشائر العراقية تساندها القوات التركية، أشهرها معركة "كوت الزين"، على الشاطىء الأيمن من شط العرب مقابل المحمرة تقريباً، أستشهد فيها الكثيرمن أبناء القبائل العراقية. 

كان الهدف التوجه إلى البصرة، ففي 21/11/1914 تم جلاء القوات العثمانية وإخلاء البصرة. وبعد ذلك تغلغلت القوات البريطانية إلى بعض أرجاء الجنوب العراقي. تعرضت قوات الإحتلال لمقاومة شديدة، منيت بخسائر كبيرة على يد القوات العثمانية في معركة الشعيبة في نيسان 1915، بلغت خسائر قوات الإحتلال زهاء (1200)، بين قتيل وجريح. وخسائر الأتراك ضعف هذا العدد، وقدرت خسائر المجاهدين بثلاثة آلاف، وكان عدد الأسرى أكثر من (700) أسير، سيقوا إلى البصرة.

استمر توغل القوات البريطانية شمالاً وإنقسمت الفيالق إلى نصفين عند القرنة. واستمرت القطعات البريطانية بإنتصاراتها، وبالتوغل صعوداً مع مجرى النهرين. ورغم المقاومة الشديدة سقطت بعض المدن المهمة كالناصرية، السماوة، العمارة وغيرها. واجهت القوات البريطانية هجوماً صعباً على تخوم مدينة الكوت بوصفها الخط الدفاعي الأخير لبغداد عسكريا. منيت قوات الاحتلال بخسائر وحوصرت لمدة أربعة أشهر، أنهكها الإعياء وقلة التموين والإمداد وسوء الإدارة والتنظيم، علاوة على قساوة الظروف المناخية. مما أدى إلى استسلام القوات البريطانية بيد القوات العثمانية في نيسان 1916، وإنهيار الحملة.

إلا أن ثقل أعباء الحرب في جبهات القتال، أدى إلى تقهقر القوات العثمانية، مما شجع القوات البريطانية على الدخول بصعوبة لمشارف بغداد في 10/03/1917. شهدت الفترة التي إمتدت بين سقوط بغداد وإعلان الهدنة في 31/10/1918، معارك حربية عديدة بين القوات العثمانية والبريطانية. تطور الأحداث في العراق والهزائم العثمانية في الشام والحجاز واليمن، وجبهات القتال في أوروبا، دفع الحلفاء والدولة العثمانية إلى عقد هدنة "موردوس"، التي تضمنت إنسحاب الجيوش العثمانية من مواقع القتال في العراق، وبذلك لم تعد للدولة العثمانية أي سلطة على العراق.

مارست سلطة الإحتلال كل أساليب الخداع بزرع الفتنة الطائفية، وترسيخ النهج العشائري وإحتواء الموجهين إليهم من "رجال الدين، الوعاظ، الخطباء، الشعراء، الأُدباء". نجحوا في إجتذاب بعضهم بالإغراء وبعضهم بالتهديد. أغدقت سلطة الإحتلال بالوعود الوهمية، آخرها التصريح البريطاني الفرنسي بعد إنتهاء الحرب بتاريخ 07/11/1918. بأن الغاية التي يرمون إليها تحرير الشعوب التي رزحت تحت أعباء إستعباد الدولة العثمانية، وتأسيس حكومات وإدارات وطنية. ولكن عدم الإيفاء بالوعود زاد من حالة التذمر، وأثار الناس عليهم. ولما ثبتت وتوطدت أقدام سلطة الإحتلال أداروا ظهورهم للعراقيين، عاملوا أحرارهم وزعماءهم بكل قسوة وشدة وفظاظة، وأمعنوا بالإستهانة بحقوق المواطنين وفرض الضرائب الثقيلة عليهم.

كانت أخطاء بريطانيا فظيعة في حربها في العراق. أكد د. علي الوردي، حسب رؤية الناقد العسكري البريطاني "باركر": " إن المؤرخين المعاصرين يكادون يجمعون على أن الحرب العالمية الأولى قد اديرت في الغالب بطريقة تخبطية ولكن إدارة حرب العراق كانت أشد تخبطاً، فقد كانت تستفيد من أخطائها في الجبهات الأخرى، أما في جبهة العراق فكانت تتنقل من غلطة إلى أخرى". خسرت بريطانيا في حرب العراق نحو مائة ألف رجل بين قتيل وجريح، وعندما إنتهت الحرب وقف " أندرو بونار لو" (Andrew Bonar Law) في مجلس العموم البريطاني قائلاً: "أتمنى لو أننا لم نكن قد ذهبنا إلى العراق أصلاً".

لم يطق الشعب الإستمرار على تحمل المهانة، أخذ الوعي القومي في تلك الفترة يأخذ طريقه إلى المثقفين والضباط العرب الذين كانوا في الجيش العثماني، فتكونت الجمعيات السرية. كل هذه الأمور أدت إلى إنتفاضة شعبية في العراق بلغت أوجها بثورة العشرين. التي أبدى فيها العراقيون من البسالة ما جعل الإحتلال البريطاني يحسب لهم ألف حساب. وفعلاً غيرت بريطانيا من سياستها الرامية إلى ضم العراق إلى إدارتها في الهند، وتقديم بعض التنازلات، منها إقامة حكومة مؤقتة، غايتها الأساسية العمل على تهيئة الأجواء لتشكيل مجلس نيابي منتخب لسن الدستور.

الأحداث التي وقعت في العراق خلال الحرب العالمية الأولى أعطتنا دروساً قيمة، كشفت عن خفايا مجتمعنا العراقي، التي قد تساعدنا في فهم المراحل اللاحقة. أهم صفة بارزة سيادة القيم البدوية بشقيها الإيجابي والسلبي، هناك إستفحال لقيم العصبية والغزو والنهب والأتاوة  والثأر، ومن الجانب الآخر قيم الضيافة والنخوة.  لقد عاش المجتمع العراقي طيلة العهد العثماني في فترة مظلمة من الناحية الحضارية، لأن ما كان يهم الحكومة المركزية هو جباية الضرائب، وتركت الناس يفعلون بأنفسهم ما يشاؤون، فشاعت بينهم المعارك القبلية والغزو والنهب وقطع الطرق والثأر، فاضطروا إلى التمسك بالعصبية والقيم البدوية لكي يحافظوا على أرواحهم وأموالهم. 

 

د. عبدالحسين صالح الطائي

أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا

..........................

المراجع:

- د. علي الوردي: لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ج4، ج5، ج6، دار كوفان للنشر، لندن 1992.

- د. عبدالوهاب الكيالي: موسوعة السياسة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ج4.

- نجدة فتحي صفوة: الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية، المجلد الثاني، دار الساقي، لندن 1996.

- أحمد عطية الله: القاموس السياسي، دار النهضة العربية، ط4، القاهرة 1980.

- الموسوعة العربية العالمية، العدد 16، ط 2، مؤسسة أعمال الموسوعة، الرياض 1999.

- موسوعة ويكيبيديا.

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم