صحيفة المثقف

الزخرفة إرث وأسلوب

علي حيدر الحساني لمناسبة صدور كتاب الناقد التشكيلي الفنان الأستاذ محمد لقمان الخواجه .

يجد المتتبع والدّارس لتاريخ الزخرفة انّها تعود للإنسان القديم الذي رسم على جدران الكهوف و صوّر أشكال الطيور والحيوانات التي تعيش في محيطه والتي كان يصطادها ورسم الأشكال وزيّن بها الجدران والأواني والأدوات والآلات الحربية و وشم جسمه كل ذلك عبر خطوط بسيطة تتناسب ومستوى ادراكه في حينها، ان اندفاع الانسان الى التأمل في محيطه و ما حوله من عناصر الطبيعة تدعوه أن يترجم ذلك الشغف ويصوّره ويحاكيه ويدرك الجماليات من حوله، فكانت الزخرفة لغته التي يعبر بها، واستمرت رحلة البحث والتطور ففي كل عصر كان للزخرفة ميّزات ذلك العصر كما هو الحال في المجالات الحياتية المختلفة فهي تكشف لنا حصيلة التطور الفكري والمادي والازدهار الاقتصادي والتطور العمراني لكل حقبة زمنية وشاهد عصر لذلك .

لقد عدّت الزخرفة أحد الفنون التي تهدف إلى البحث في فلسفة النسبة والتناسب والتجريد والكتلة والفراغ والتكوين والخط واللون، وهي إما أن تكون وحدات طبيعيّة آدميّة، أو نباتيّة، أو حيوانيّة أو وحداتٍ هندسيّة تحوّلت إلى أشكالٍ تجريديّة، وتركت فيها المجال لخيال الفنان وإبداعه وقد تمّ وضع الأصول والقواعد لها، فعني الفنان بالزخرفة عناية تتجلى في آثاره وما تركه من أعمال حتى عدّت من الفنون التشكيلية الرائعة، فشكّلت جزء مهم من فن العمارة فنجدها تحوّل الكتل البنائية المعمارية من الرتابة والجمود الى متعة بصرية تجذب المتلقي لما فيها من السحر والجمال الأخآذ، فاستخدمت لتزيين الكنائس والجوامع والمباني وكان للزخرفة في الريازة الإسلامية الدور البارز لما تتمع فيه من سمات جمالية وإبداعية غاية في الروعة والإتقان تتجلى عبر القباب والمآذن والأواوين والمحاريب تظهر عبر العمليات الفنية التي منها الترصيع، التكفيت، التلبيس، التعشيق، التطعيم، التجصيص، القرنصة، التزويق، التصفيح، التوشيع، وقد أستخدمت فيها أبرز المواد كالرخام، الجصُّ، الخشب، المعادن، الآجُرّ، الفسيفساء، القاشاني، الخزف.

2242 الزخرفة

لقد كان لفنّ الزخرفة تلازماً واضحاً مع فنّ الخطّ العربي فنرى ذلك جلياً في تزيين وتزويق المخطوطات والمصاحف وإظهارها بأبهى حللها وأرقى صورها وأستخدم فيها الذهب والفضة والألوان التي استخلصت من الأحجار الكريمة .

وعن فنِّ الزخرفة وبيان غايته وخصائصه يقول روجيه جارودي: "إنَّ فنَّ الزخرفة العربي يتطلَّع إلى أن يكون إعرابًا نمطيًّا عن مفهوم زخرفي، يَجْمَعُ بآنٍ واحد بين التجريد والوزن، وإن معنى الطبيعة الموسيقي، ومعنى الهندسة العقلي، يُؤَلِّفَان دومًا العناصر المقوّمَة في هذا الفنِّ".

ولقد كان الناقد الفرنسي هنري فوسيون دقيق التعبير وعميق الملاحظة حينما قال: "ما أخال شيئًا يمكنه أن يجرِّد الحياة من ثوبها الظاهر، وينقلنا إلى مضمونها الدفين مثل التشكيلات الهندسية للزخارف الإسلامية؛ فليست هذه التشكيلات سوى ثمرة لتفكير قائم على الحساب الدقيق، قد يتحول إلى نوع من الرسوم البيانية لأفكار فلسفية ومعانٍ رُوحية ؛ غير أنه ينبغي ألاَّ يفوتنا أنه خلال هذا الإطار التجريدي تنطلق حياةٌ متدفِّقة عَبْرَ الخطوط، فتؤلّف بينها تكوينات تتكاثر وتتزايد، متفرِّقة مَرَّة ومجتمعة مَرَّات، وكأن هناك رُوحًا هائمة هي التي تمزج تلك التكوينات وتُبَاعِدُ بينها، ثم تُجَمِّعُهَا من جديد، فكلُّ تكوين منها يَصْلُح لأكثرَ من تأويل، يتوقَّفُ على ما يُصَوِّبُ عليه المَرْءُ نظرَه ويتأَمَّلُه منها، وجميعها تُخْفِي وتكشف في آنٍ واحد عن سِرِّ ما تَتَضَمَّنُه من إمكانات وطاقات بلا حدود".

لقد عرفت مؤلف الكتاب الماثل أمامنا: (الزخرفة إرث وأسلوب) أعني به الفنّان التشكيلي الأستاذ محمد لقمان الخواجه باحثاً في أغلب ميادين الفنون والأدب وقارئاً نهماً وفناناً مبدعاً لا يهنأ له بال حينما يلج فرعاً من الفنون فيخرج لنا بحصيلة وجهد طيب سواء أكان على المستوى البحث أو التجريب، فكان لفنّ الزخرفة حصة الأسد فقد قضى من عمره شطراً غير يسير في البحث والتجريب فعرف الزخرفة كإرث ضخم تحفل فيه ميادين المعرفة وعرفها كأسلوب فالنماذج المشفوعة في هذا الكتاب القيّم خير شاهد على جهده الطيب وتعمقه في نشأة وتطور هذا الفن الجميل، فالفنّ الزخرفي يخضع لمبادئ يمكن تعلمها والاستناد إليها في عملية التأليف الزخرفي، فمن الخطوط غير المنتظمة تولد خطوط منتظمة بمعنى إذا كانت تحت وصاية التماثل والتناظر والتكرار فمن هذا الحوار ينطلق الباحث مجرباً ليكشف لنا ما في الزخرفة من انفتاح و تأمل وهو باب من اجمل اشتغالاته في المستوى الشخصي وشغفه بها فقد وفّق لإيجاد طريقة غير التي عهدناها من الدراسة وهي رسم أساس للزخرفة ثم البناء الزخرفي ليشكّل الأساس الهيكل العظمي لها فتدرّج من البسيط الى الصعب نباتية وهندسية وحيوانية، ثمّ خصص زخارف لأشكال غير منتظمة بمثل ما فعل للزخارف النباتية والحيوانية والهندسية .

نأمل أن يسهم هذا الكتاب في تعزيز الإرث الحضاري الزخرفي وتوثيقه، ويرسخ في تنمية الوعي الفني لدى المزخرفين المحترفين والهواة، ويفتح الآفاق المعرفية للدّارسين في هذا الحقل والمؤسسات ذات العلاقة، ليستمر هذا الفنّ المدهش في إرتقاء الذوق وإرهاف الحس ويذكّي في النفس حب الجمال .

 

علي حيدر الحسّاني

النّجف الأشرف

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم