صحيفة المثقف

عبد الحسين الطائي: الجمعيات السرية مهدت لنيل الإستقلال

عبد الحسين صالح الطائيقرن على تأسيس الدولة العراقية (5).

إكتشاف البترول وإستخدامه الصناعي من أهم أحداث تلك الفترة، فبعد ظهوره في إيران شعرت بريطانيا بأهمية المنطقة، فوضعت الخطط للإستثمار بالثروة النفطية. فرضت سيطرتها على الخليج، وأخذت تنظر إلى العراق كمنطقة إستثمار لأهميته الإستراتيجية ولخيراته الوفيرة، أطلق عليه الأوائل أرض السواد لكثرة نخيله وكثافة أشجاره المثمرة وعذوبة مياه. فكان ضمن المخطط أن يكون العراق الواحة المنتجة للكثير من المنتجات الزراعية، أي الحديقة الخلفية لبريطانيا في الشرق الأوسط، لتغطية الكثير من إحتياجاته. وكانت الفكرة بأن تكون الفائدة للطرفين. الإحتلال البريطاني للعراق أحدث متغيرات سياسية وإجتماعية متعددة، لامست حياة العراقيين في بعض مناحي الحياة المعيشية، الفكرية، والثقافية، إلا أن الشعب العراقي لم يتمكن من الإندماج والتأقلم وإحتواء الإحتلال إيجابياً لتحديث المجتمع في المجالات كافة.

أول  جمعية سرية "القحطانية"، تشكلت في إطار الإنقلاب العربي على الإمبراطورية العثمانية، بتشجيع من بريطانيا، بعد الإطاحة بالسلطان عبد الحميد عام 1908، وبهدف معلن هو تفكيك الإمبراطورية العثمانية. والعمل على إقامة كيان تركي وآخر عربي. كان رئيس الجمعية "عزيز علي المصري" العربي الوحيد العضو في حزب الإتحاد والترقي. ضم تنظيم الجمعية عدداً من كبار الضباط في الجيش التركي، وبحلول 1914 تمكن "عزيز المصري" من تحويل القحطانية إلى منظمة سرية جميع أعضائها من العسكريين، وتألق نشاطها تحت اسم جديد هو: "العهد".

جمعية "الفتاة"، أسسها سبعة من الطلبة العرب الدارسين في باريس، بقيت تعمل من مقرها في باريس حتى عام 1913، إنتقل عملها إلى بيروت ومنها إلى دمشق، في تزامن مع تأسيس جمعية العهد. وقتها لم يكن من السهل الوصول لقادة الجمعيات السرية، لأن طابع عملها سري، يغلب عليه التكتم والحذر حتى نهاية الحرب العالمية الأولى.

البعض من الضباط العراقيين الذين عملوا في الجيش العثماني كان لهم الدورالمميز في نشاط الجمعيات السرية ومواكبة المسيرة النضالية الهادفة إلى التحرير ونيل الإستقلال. إتبعت الجمعيات كل الأساليب العنفية واللاعنفية من أجل الوصول إلى الغاية السامية بإنقاذ العراق من المظالم العثمانية، وحماية الحقوق الطبيعية للشعب العراقي وتحقيق السيادة الوطنية. عانى العراق من سوء إدارة وظلم الدولة العثمانية، فكان تشكيل أول جمعية سرية في الإستانة (جمعية العهد)، كرد فعل لتراكم المعاناة غايتها السعي وراء الإستقلال الداخلي للبلاد العربية. كانت الجمعية تتحين الفرص للشروع في تحقيق أهدافها، ولكن إندلاع الحرب العالمية الأولى، أدى إلى تفرق رجالها في جبهات القتال. إنشطرت الجمعية إلى قسمين: حزب العهد السوري، وحزب العهد العراقي. كانت غاية حزب العهد العراقي كما جاء في منهاجه السياسي المطالبة بإستقلال العراق استقلالاً تاماً ضمن الوحدة العربية وداخل حدوده الطبيعية.

نجح البريطانيون في إشعال الثورة العربية ضد الدولة العثمانية، بالتنسيق مع  الحسين بن علي شريف مكة، بعدما إقتنع بفكرة إحياء الخلافة الإسلامية العربية المستقلة عن الأتراك، ولا سيما بعد إدراكه صعوبة توحيد العرب تحت راية عرقية أو ثقافية. فلما أعلن الحسين بن علي الثورة على العثمانيين في 10 حزيران 1916، نشط فرع جمعية العهد في بغداد والبصرة. وإلتحق بالثورة عدد كبير من الضباط العراقيين، الذين تولوا المناصب العالية في العراق بعد الحرب عندما تأسست الحكومة العراقية.

مارست الجمعيات السرية دور جماعة الضغط في مجال التثقيف والتوعية والضغط على سلطة الإحتلال، باستخدام كل الأساليب المتاحة من خلال وسائل الإعلام كالصحافة، وتوزيع  المنشورات المناهضة للإحتلال وتعليق اللافتات التحريضية في الشوارع، والقيام بمظاهرات الإحتجاج للتأثير على الرأي العام. والإستفادة من تراكم خبرة العمل في الدولة العثمانية، وتسخيرها للمصلحة المشتركة والمطالبة بالتحرر والإستقلال. ورغم الإمكانيات الضعيفة، وتباين التوجهات الأيديولوجية القومية والمذهبية، تمكنت الجمعيات من تشكيل حركة ضغط شعبي على سلطة الإحتلال هدفها نيل الإستقلال.

لم يكن العراقيون شعباً موحداً، تحت خيمة الدولة العثمانية ولا في ظل سلطة الإحتلال البريطاني، للوجود الفسيفسائي المتنوع من الأعراق والأديان، ولم تتسم البنية الطبقية بالإستقرار نتيجة المتغيرات الكبيرة بكل المراحل التاريخية. شكل العرب مجتمعات متمايزة بعضها منغلقة على ذاتها، بسبب الهوة الواسعة التي تفصل بين سكان المدن والعشائر. هناك تباعد إجتماعي ونفسي بينهما بسبب الفوارق الكبيرة وضعف المشتركات التي تجمعهم، عدا بعض الروابط الإقتصادية الضيقة.

تأثر سكان المدن بالتعاليم الإسلامية وبالقوانين العثمانية، خضعت شريحة المتعلمين لتأثير الثقافة التركية والفارسية. أما حياة العشائر في الريف بعيدة عن هذا الأثر، خضعت للعادات والتقاليد العشائرية القديمة المصبوغة بصبغة دينية. كان تأثير الدين الإسلامي قوياً وفاعلاً على عرب المدن والعشائر للتداخل الحاصل بينهما في الكثير من المناطق، ولم يكن الشعور القومي قائماً أومماثلاً لوعي القوميين اللاحقيين.

بدأعمل الجمعيات الثوري بالسر، ثم تطور فكانت إنتفاضة النجف عام 1918، التي سقط خلالها الكثير من الضحايا، كانت بقيادة دينية وعشائرية في النجف وقيادة فكرية في بغداد. كانت الإنتفاضة مقدمة لثورة عام 1920، رغم عدم إستمرار ثورة العشرين لأكثر من ستة شهور إلا إنها حققت أهدافها، تراجعت سلطة الإحتلال عن خططها، بعدما أدركت بأنه ليس من السهل السيطرة على أوضاع العراق. استجابت لمطالب العراقيين بتحقيق الإستقلال، وبدؤوا بالإنسحاب التدريجي بعد تشكيل الحكومة المؤقتة من وجهاء العراقيين.

الحركة التي تبناها المعارضون لسلطة الإحتلال إتخذت فكرة الإستقلال شعاراً لها. بوادر الحركة الوطنية ظهرت في بداية الأمر في بغداد وكربلاء بتأثير الأفندية، وفتاوى المراجع الدينية، ثم سرت عدوى الحركة إلى المدن الأخرى. شعر الوطنيون بضرورة تنظيم أنفسهم تنظيماً سرياً، بعد إلقاء القبض على ثلاثة من الأفندية ونفيهم إلى الهند. ففي أواخر شباط 1919، تم تنظيم حزب سري بإسم "حرس الإستقلال"، ضم نخبة وطنية من الأفندية. وبالوقت نفسه تأسس حزب سري آخر فرع من حزب العهد. لم تمر على تأسيس هذين الحزبين سوى فترة وجيزة حتى بدأ الخلاف والتنازع يظهر بينهما، كحال الحركة الوطنية العراقية الحالية، في تبادل الإتهامات والطعن بالأخلاق والمبادىء وتغليب المصالح الشخصية على المصلحة العامة.

أُعيد تأسيس حزب "حرس الإستقلال" من جديد أواخر 1919، كان الحزب في مرحلة تأسيسه الأولى مؤلفاً من الأفندية، ولكنه عند إعادة تأسيسه، فتح باب العضوية لمن يريد من التجار ورجال الدين والكسبة. كان من بين الأعضاء السيد محمد الصدر، الشيخ باقر الشبيبي. وفي أوائل 1920 عاد جعفر أبو التمن من إيران وإنتمى إلى الحزب. كان إنتماء أبو التمن له أهمية في توثيق علاقة وعمل الحزب بين الجماهير لما له من نفوذ.

شكلت مقررات سان ريمو في 25 نيسان 1920، بأن يكون العراق تحت الإنتداب البريطاني، صدمة لكثير من العراقيين، فأعلنوا تذمرهم ورفضهم لكل التبريرات. إزداد السخط الشعبي، وأصبحت عقولهم مشحونة بالعداء للوجود البريطاني، الذي خالف وعوده وسياسته المعلنة بـ "إننا جئناكم محررين لا فاتحين"، وتأسيس حكومة وطنية تستمد سلطتها من رغبة العراقيين.  في الحقيقة إن عقدة الكثير من العراقيين هي الرفض لأي شكل من أشكال الهيمنة، ومن سوء حظ العراق أن تقع القيادة البريطانية في أخطاء لا تقل عن أخطاء الأتراك، مما أدى إلى تصاعد نبرة المقاومة، ولهذا اصيبت سلطة الإحتلال بخيبة أمل كبيرة،  بإتساع مظاهر المقاومة.

 

د. عبد الحسين الطائي

....................

المراجع:

- د. علي الوردي: لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ج4 ج5 ج6، دار كوفان للنشر، لندن 1992.

- عبدالرزاق الحسني: الثورة العراقية الكبرى 1920، مكتبة نرجس، ط3، لندن 1971.

- حنا بطاطو: العراق، الطبقات الإجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية، الكتاب الأول، ترجمة عفيف الرزاز، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت 1995.

رابط المقالة الأولى:

https://www.almothaqaf.com/a/opinions/953410

رابط المقالة الثانية:

https://www.almothaqaf.com/a/opinions/953571

رابط المقالة الثالثة:

https://www.almothaqaf.com/a/opinions/953761

رابط المقالة الرابعة:

https://www.almothaqaf.com/a/opinions/953922

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم