صحيفة المثقف

سامي عبد العال: الثالوث المُحرّم.. ربيع الأفكار

سامي عبد العالإزاء تغيرات الأنظمة السياسية عقب الربيع العربي كان يجب التساؤل: هل طَالَ الربيعُ آفاق تفكيرنا في مسائل (السياسة والدين والمجتمع)؟! وهو الثالوث المُحرّم الذي تزداد علاقاته تصلُباً بقدر ما يدعونا حُراسُه للتزلج فوق أسطحه البراقة فقط دون نقد حقيقيٍّ. هل أصاب تأثير الثورات جذور الأفكار لدينا بشكل عميقٍ أو هكذا ينبغي أنْ يكون؟! فالثالوث السابق  يعدُّ محرّماً، لأنَّه لا أحدَ مَعْنيٌّ بمسؤوليات التفكير في تاريخه وأحداثه وخفاياه واحتمالاته، لدرجة كونّه قد بات ثالوثاً محجوزاً سلفاً للنخب الغالبة دون السماح لأحد بالاقتراب منه!! وأحيانا يتم مُصادرة الآراء والعقول التي تحاول فهم ما يحدث بداخل دهاليزه ليس إلاَّ. كما أنَّ هناك أكثر من (سلطة خفية جماهيرياً ونخبوياً) تُلاحق من ينتقد أو يقيم أيَّا من أضلاعه، وهي ملاحقة مجانية وأشبه بطواحين الهواء الدافعةِ لنوع من التآكل الذاتي لجهود الفكر والممارسة.

الحقيقة أنَّ أخطر (وأتفه بالوقت نفسه) ما حدث في ربيع الثورات كان هو السيناريو الأسوأ؛ أي بقي العقل العربي (طرائق تفكيره وخطاباته ورؤيته للعالم والحياة والتاريخ) داخل "صدفة لامعة" تسُر الناظرين. صدَّفةٌ هي غالباً سرديات ثقافة قديمة ما فتئت تنتج رؤيتنا للأزمة بمنطق الأزمة نفسها. أي ألحقنا كل ما جرى بمنطق المؤامرات (خارجياً وداخلياً) وهو المنطق الذي يقودنا لفهم الواقع ومعالجة مشكلاته على نحو خاطئ. وفي هذا قد تشبّع به الثالوث بناء على علاقاته الوظيفية، من النُخب إلى القاعدة الجماهيرية التي تحمله فوق أكتافها دون وعي. فالجماهير هم وقود الثورات وهم بالمثل حطب احتراق الآمال التي أخفقت فيها.

لقد امست سرديات الثقافة الرائجة نوعاً من الهدهدة الخلفية لكل هواجسنا تجاه المستقبل، لأنَّ التفكير بالمؤامرة يقول: الواقع رائع كما هو ولا يحتاج أدنى تغيير، وأنَّ أشرار السياسة فقط يحاولون تغيير الأوضاع طالما لا يبلغونها خلال الظروف العادية. وأنَّ كل ما جرى في الثورات مجرد "هسهسة شياطين غربيَّة" قام بها (شباب غِرير) لم يزيدنا إلاَّ صلابة!! وأننا كنا كشعوب نرفُل في رغد الحياة وطيب العيش لولا منغصات الشباب والمتآمرين الثوار. هكذا تحول العقل السياسي إلى فاعلية مبررات أمام ذاته وبالتأكيد تسهمُ فيها قناعاته، لا بالمواجهة الحقيقية لمشكلات السياسة، إنما بتكريس التواطؤ مع حجبها والتغني بالأمجاد الغابرة.

كلُّ ثورة حقيقية ما لم تدمر هذه (الصدفات المصطنعة بكامل عتادها الثقافي) لن تصل إلى أي هدف سوى ضروب من الالتفاف المخادع حول الواقع. فلن يدرك العقل آفاق ما سيحدث ولن ينظر إلى تاريخه القريب والبعيد إلاَّ باطمئنان بهيج دون إدراك نفسه متورطاً في انتاج الأزمات.  (الفكر العربي) وصل إلى منعطف خطير من تكرار معالجاته وطروحاته واجترار آلياته الشعبوية – في كافة المجالات- إلى أنْ بات عبداً ذليلاً لهويات اسلامية وقومية وجهوية ووطنية مريضة. هويات أخذت بأساليب  (الغزو والغنيمة) في البحث عن ذاتها وسط ركام الثورات الأخيرة، ومع ذلك لم تجد شيئاً إلاَّ الوعود المؤجلة تجاه أحلام البسطاء. وفوق ذلك أخذت في طرح مستقبلها المنتظر كأنها وليدة اليوم. وليست جماعات الاسلاميين وجماعات القوميين وجماعات أدعياء الوطنية في أقطار العرب بأيديولوجيات راكدة أو عبر أحزاب سياسية بالية سوى ألعاب متنكرة في أزياء معاصرة. تختلف في كل قطر عربي بأسماء لافتة، لكن جوهرها المتخلف والرجعي واحد.

إنه مخزون من التشوهات والشواش الفكري والممارسات الفوضوية تغطي العقل العربي مما جعله قميناً بالدوران حول ماضيه. فإذا كانت بعض المجتمعات العربية قد انخلعت من أنظمتها السياسية في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا والعراق بدرجات متفاوتة، فلا عجبَ أن تأتي (الشعوبُ نفسها!!) بنُسخٍ من تلك الأنظمة مرةً ثانية وتساعدها على الاستبداد والقمع. وهو الأمر الذي يشبه ما فعله جُحا عندما ذهب إلى السوق بائعاً لإحدى نعاجه المريضة خوفاً من أنْ تنتقل العدوى إلى رفقائها من النعاج والخراف أو أن تموت وتحمل خسارته الفادحة. ولذلك أخذ بحيلة تجميلها وتهذيب صوفها وتسويقها على أنّها نعجة ولود ومكتنزة باللحم والشحم.. وأخيراً ابتاعها جحا لرجل لا يدرك ما بها من أمراضٍ وقد اطمئن البائع أنه قد تخلص منها إلى الأبد ولا يوجد احتمال لأنْ يخسر بعض ثمنها. ولكن هذا الرجل الذي اشتراها أدرك ذلك فيما بعد ولم يحاول إعادتها إلى جحا على أمل اعادة بيعها مرة ثانيةً لجني بعض الأرباح. وعندما ذهب الرجل إلى السوق لهذا الغرض بعد عامين تقريباً قابله جحا فأعجب بالنعجة المعروضة للبيع ولم يعرف الأخير أنه هو صاحب النعجة الأصلي ولم يقل له البائع ذلك... وظل جحا يراوغ ويزايد على شرائها أمام الزبائن والتجار.. وبالفعل اشتراها فرِّحاً من الرجل ثانيةً كأنه اشترى نعجة فريدة دون أنْ يدرك غير ذلك... وعندما ذهب إلى بيته بالغنيمة النادرة، سرعان ما عرفت زوجته أنها النعجة القديمة من إحدى الحوافر البارزة التي كانت تشق التراب وتثير الغبار أثناء السير... فوقع جحا فيما فعل سابقاً!!

ذلك بالضبط ما حدث بعد ثورات الربيع العربي... ما هذا المضغ والتقيؤ السياسيين لإرادة شعبية عاجزة حتى عن الخروج من شرنقة الأوضاع المزرية؟ وما هذا الاحياء لنعرات شوفونية غابرةٍ لن تزيد الأوضاع السياسية في بعض بلاد العرب إلاّ اشتعالاً؟.. وكأن الدول القوية تبنى بالكلام والشعارات (رجعت ريمة إلى عادتها القديمة)!!

ونحن العرب مبدعون حقاً في تجاهل الواقع، وأكثر ابداعاً في انفاق كل ما لدينا من ذكاء مجاناً دون استثماره في تجاوز الأزمات. هل يصح لفهم السياسة الزّج بمقولات شكلية إزاء الواقع المُعقد مثل شعارات الثورة والأحزاب الجديدة وعناوين المراحل الراهنة ووعود المستقبل؟! أقول إنه في هذا لا يُحبّذ اسقاط صفات الحرية والعدالة أو الطغيان والاستبداد على أية مرحلةٍ لم نعْرف طبيعتها ولا جذورها إلى الآن. وذلك لمجرد تأييد حكم عام سيعود بالقطع فارغاً من أي محتوى. على الأقل لو صح في جانبه الظاهري كالشعارات، فإنه سيترك حجاباً على الجوانب الأخرى من المجتمع بعد ثورات الربيع العربي.

لأنَّ هذا الشعار أو ذاك نوع من الوقوع في أدلجة الأشياء، وأيُّ حكم أيديولوجي عام إذا كان سلباً، فإنه سيرجح على نحو ضمني ايجاباً ما. فلو قلنا مثلاً أن نظام هذا الحاكم العربي أو غيره كان استبدادياً، فهذا يعني أن ما سبقه كان حُراً وذلك بطبيعة الحال ليس أمراً محسوماً لدرجة الصحة ولن يكون. وحتى الرجوع في هذا الحال إلى "أفكار السياسة الاغريقية" وإلى معنى" العبودية المختارة" لدى إتين لابوسيّه أو غير ذلك هو تغليظ للحكم بصورة غير عقلانية طالما لم يستند إلى الطرف الثالث دائماً (تاريخ المجتمعات العربية)؛ أي سيغرق في تهويم أيديولوجي ما لم يحلل الأبنية الموضوعية وعلاقتها بالأنظمة السياسية وكيف تمّ التعامل معها؟!

وحين عُرِّفت السياسة تاريخياً بكونها "فن الممكن" لم يأت هذا التعريف بالقُبح ولا بالنُبل كشاطئين لخيال حول أيِّ نظام حاكم سواء أكان سابقاً أم حالياً، وكأنَّ هناك جنة موعودة سيصبح فيها النبيل هو الحيوان السياسي المطلق للبشرية على طريقة فرانسيس فوكوياما مع الأمريكان (في كتابه نهاية التاريخ وخاتم البشر). إن أكثر ما يوقعنا في أخطاء التقييم كون أحكام السياسة تسقط في القول بقطعية التصورات التي تنتقل بين مرحلة وأخرى، نحن نفعل ذلك دون رؤية ثقافية ولا تاريخية لطبيعة الأحداث الثورية وتحولاته. كأنْ نقول وصفاً لحالة هذه عدالة بإطلاق أو هذه مساواة بإطلاق أو تلك حرية بإطلاق.

إجمالاً، لم تكن التجارب العربية مع ربيع الثورات كاملة التحول حتى تستحق ألفاظ العدالة والديمقراطية والحياة الكريمة. كانت تجارب الثورات كما رأينا مشوَّهة على أدنى تقدير وكانت جذور الانظمة السياسية المتوالية عليها أنظمة ناقصة وتحتاج أزمنة لتقييم تأثيرها. لا لأنَّ إحداها قد أنهى الآخر بينما كان الأول منفتحاً وليبرالياً ويأتي بالنجوم من السماء لمواطنيه، بل لأن التجارب مازالت غارقة في تاريخٍ ينتج تصوراتهما عن قضايا السياسة والحقيقة والمجتمع. وبالتالي مجرد وصف هذه التجربة أو تلك بالديمقراطية والانفتاح في نسختها الأخيرة هو نفسه الوصف الناقص لها بالديكتاتورية الذي نستنكر عودتها ثانية. الوصفان غير دقيقين إلاَّ بمعرفة المحددات الاجتماعية والثقافية التي كانت أساساً للأنظمة السياسية العربية في الواقع. وحتى لو تمَّ اعتبار النظام الأخير في بلدين مثل تونس ومصر نظاماً مقبولاً وسائراً في طريقه الصحيح، فلا يستقيم الأمر دون تحليل تجربة النظام السابق في البلدين حين زاد الطين بلة وترك لدى الجماهير العريضة مبررات الثورة عليه.

دوما ليست المسألة الحيوية: منْ أجهزَ على بعض الأنظمة العربية السابقة  (بمنطق المؤامرات) ولا ما إذا كان الحكم ديكتاتورياً أم غير ذلك؟، بل السؤال المُلِّح كالتالي: لماذا تتُشوِّه التجارب السياسية العربية على نحو موضوعي وتاريخي، حتى وإن حكمت بمنطق الديمقراطية؟!.. هذا سؤال يُولد عشرات الأسئلة التي تحتاج إلى قراءة مجهرية لممارسات السياسة لا أحكاماً. ويجب أنْ ينشب سؤالٌّ كهذا في لحم الأحداث بحريةٍ وشفافية ونفاذ بصيرةٍ حتى يكشف ما حدث تاريخياً في كل حالة ثورية على حدةٍ. وأنْ يتلقى إجاباته كلٌّ الناس باعتبارهم معنيين بها ويجب توفير كافة الأدوات الثقافية والمعرفية لإفهامهم قوانين الواقع وتطوراته وأي تراث يحكم المسألة.

 

سامي عبد العال

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم