صحيفة المثقف

محمود محمد علي: الأستاذ محمود محمد طه .. شهيد العشق التنويري (2)

محمود محمد عليتحتل أعمال المفكر السوداني "محمود محمد طه" مكانة متميزة من حيث طرافة منهجها، وتعدد مناحيها وشموليتها، كما يتميز "محمود محمد طه" بحرصه علي بعث المشروع الإصلاحي من كبوته، معتبراً نفسه امتداداً طبيعيا لرواد النهضة، مستعيداَ بصفة بارزة وحادة الهم التنويري، متجاوزاً رواسب التمزق والاختلاف التي عصفت به، ولأجل ذلك يدش "محمود محمد طه" حركية النهضة العربية منذ انطلاقتها إلي كبوتها، وتوزعها إلي مواقف متباينة المنحي، داعياَ إلى تقليد النبي محمد صلى الله عليه وسلم كمنهاج للسلوك الديني بهدف توحيد القوى المودعة في الإنسان، من قلب وعقل وجسد، والتى وزعها الخوف الموروث والمكتسب، ثم إلى تطوير التشريع الاسلامي بالانتقال من الآيات المدنية التي قامت عليها بعض صور الشريعة، إلى الآيات المكية التى نسخت فى ذلك الوقت لعدم تهيؤ المجتمع لها، حيث الدعوة إلى الديمقراطية والاشتراكية والمساواة الاجتماعية، المدخرة فى أصول الدين، وقد بسط "محمود طه" فكرته فى آفاقها الدينية والسياسية والمعرفية بعلمٍ واسع، وحجةٍ ناصعة، وصبرٍ على سوء الفهم وسوء التخريج وسوء القصد الذى قوبلت به فكرته من معارضيها، حتى ذهب يقينه بفكرته وإخلاصه لها، والتزامه إيّاها فى إجمال حياته وتفصيلها، مثلا فريداً فى الدعاة والدعوات (18).

وفي ديسمبر 1955م أصدر "محمود محمد طه"  مشروعه لتجديد الفكر الإسلامي نحو مشروع مستقبلى للإسلام، وقد تمثل ذلك فى ثلاثة أعمال أساسية هى: الرسالة الثانية من الإسلام، ورسالة الصلاة، وتطوير شريعة الأحوال الشخصية، وفيها قدم "محمود محمد طه" الإسلام كدين عالمي لا تنفصل فيه الدولة عن الدين، لكن من غير تغول على حقوق الأفراد، مسلمين كانوا أم غير مسلمين، رجالا كانوا أم نساء، ولم يقدم الإسلام بوصفه طريقة للسلوك أو منهاج للخلاص الفردي، غير مرتبط بقضايا التحولات الاجتماعية (كما هى الحال فى التصوف) (19).

قدم "محمود محمد طه"  ذلك كله من خلال منهج متماسك لتأويل النص القرآنى، من خلال تصور جدلى عميق لمواد النص مع حركة التطور بمعنى أن النص لا يكشف عن طبقاته بغير النظر الفاحص لحركة التطور، الزمن وحركة الحياة فى كل صورها، فحركة التطور لا تخضع لفهم ثابت جامد للنص وإنما تجليات الحياة هى التي توسع من فضاء النص، وهو يتمدد عبر علاقته الجدلية بالواقع، وبتمدد آفاق الوعى الإنساني (20).

كان "محمود محمد طه"  مؤيداً قوياً للحرية الفردية والضمير الإنساني. وكان مؤمناً بأن للبشر أن ينتموا لتقاليدهم الدينية، أو ينأوا بأنفسهم عن ذلك وفق ما تمليه عليهم ضمائرهم. وكان ضد التحرك صوب الطائفية الدينية، الذي كان يحصل في بلاده، ويؤمن بأن لأتباع كل الأديان الحق في ممارسة شعائرهم بحريّة، كما أن لهم حريّة تغيير معتقداتهم. واقتصادياً اعتنق "محمود طه"  شكلاً من الاشتراكية القائمة على المشاركة في المشاريع التعاونية بدلاً من سيطرة الحكومة المركزيّة (21).

بيد أن "محمود محمد طه"  لم يكن طيلة نشاطه الفكري، والسياسي، منذ منتصف الأربعينات، يطلب سلطةً، أو جاهاً، كان زاهداً في السلطة الفوقية، زهداً مطلقاً، فقد كان يريد تغييراً جذرياً، ينطلق من حيث يقف عامة الناس، لا من حيث تقف الصفوة! وكان يعرف أن ذلك يقتضي زمناً، ولذلك، فقد كان يسابق الزمن ليضع البذرة في الحقل البور، تلك البذرة التي كان ينتظر لها أن تثمر التغيير الجذري، في نهاية المطاف. فهو قد ألقى البذرة، وكان فقط، يود أن يتأكد أن جذوراً من تلك البذرة قد بدأت تمتد إلى داخل الأرض. لم يكن مشغولا متى ستشق تلك البذرة التربة، وتظهر على سطح الأرض، لتنتج الثمر، كان "محمود محمد طه" حامل مشعلاً، ولم يكن طالب سلطة، وشتان بين الإثنين (22).

ولذلك رأينا الكاتب "أحمد زكى عثمان" يوضح لنا مشروع "محمود طه" فى الرسالة الثانية من الإسلام، بأنه يمثل لحظة مهمة على الصعيد الفكري فى العالم العربي، حيث يمكن قراءة هذا الكتاب فى سياق جملة الكتب التي أرخت لدور الفكر فى التمهيد الهزيمة السياسية والعسكرية ومن ثم الفكرية التى أفضت إلى نكسة حزيران -1967 ؛ مثل كتابي نقد الفكر الديني لصادق جلال العظيم، والأيديولوجية العربية المعاصرة لعبد الله العروى، كما يمكن قراءته على أنه بحث فى أصول الفقه ومحاولة بناء منظور حضارى جديد ورؤية فلسفية مختلفة عن التقاليد الفكرية المسيطرة فى العالم العربي (23).

تبنى "محمود محمد طه" طريقاً وسطيا، مقترحاً أن بإمكان الإسلام استيعاب الأفكار القومية العلمانية. ولكن من أجل الوصول إلى تلك المرحلة، لابد من أن تكون الشريعة مرنة بما يكفي لممارسة الاجتهاد، وأن تتفاعل مع التغيير والعالم الحديث، ولتحقيق ذلك؛ على المسلمين المثقفين العودة إلى المصادر الأصلية، القرآن والحديث، ويقول إن الآيات المدنية أكثر تحديداً على عكس الآيات المكية التي هي بمثابة دعوة عامة للبشرية لدخول الإسلام، المتمثل بـ (الرسالة الثانية للإسلام)، ولذا فإن الآيات المدنية يجب أن تخضع للآيات المكية، وبهذه الطريقة يمكن إعادة تأليف القانون الإسلامي من البداية بدلاً من إثقاله بأحكام العصور الوسطى (24).

لقد قدم هذا الكتاب طرحاً لم يألفه الفكر العربي كثيرا، وهذا الطرح يتعلق بتقديم تصور مختلف لموقع الفرد فى منظومة العلاقات الاجتماعية عند "محمود محمد طه"   الفرد فى الإسلام هو الغاية وكل ما عداه وسيلة إليه، وهذه الفردية هى مدار التكليف والتشريف وبالطبع ستحيل هذه الرؤية إلى محاولة فك التناقض ما بين الفرد والجماعة والتى يقدمها "محمود محمد طه"   كالتالى، حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة امتداد لحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة، ومن الناحية الفقهية فالفرد هو العبادات، والجماعة هى المعاملات وينتهى "محمود محمد طه"  إلى تقديم محتوى أخلاقى لهذا المنظور الفلسفى، وهو أنه ليست للعبادة قيمة إن لم تنعكس فى معاملتك الجماعة معاملة، تعد هي في حد ذاتها عبادة، يمضى الكتاب فى مناقشة القضايا المتعلقة بعلاقة الفرد والجماعة وحدود إرادة الفرد، حتى يصل إلى فصله الخامس والذى يعرض فيه للرسالة الأولى والتي هي رسالة المؤمنين، حيث أورد "محمود محمد طه"  مجموعة من النتائج الفقهية الخطيرة، وقدم حصرا لثمانية قضايا رأى أنها ليست أصولا فى الإسلام، هذه القضايا هى الجهاد، الرق، الرأسمالية، عدم المساواة بين الرجال والنساء، تعدد الزوجات، الطلاق، الحجاب، المجتمع المنعزل رجاله عن نسائه (25).

كما دعا "محمود محمد طه" إلى الإسلام كمذهبية تبشر بتحقيق إنسانية الإنسان، عن طريق تقديم المنهاج الذى يحقق السلام فى كل نفس بشرية، وعلى مستوى الكوكب، حيث يقدم الإسلام فى مستواه العلمي كدعوة عالمية للسلام، وقد ظلت قضايا الفكر (26).

استمر "محمود محمد طه"  فى تطوير أفكاره حتى وصل إلى أنّ نسخ أصول القرآن بفروعه فى القرن السابع الميلادي لم يكن إلغاءً نهائيّا لأحكامه، وإنّما كان مجرد إرجاءٍ لتلك الأحكام لادّخارها للمستقبل، والسبب الذى يراه فى ذلك هو النزول عند حاجة ذلك المجتمع وطاقته، مشيرًا إلى أنّه لو كان النسخ نهائيّا لأصبح أحسن ما فى ديننا منسوخًا بما هو أقلّ منه، أى أنّ السماح وهو خير من الإكراه، يكون قد نُسخ إلى الأبد بحكم أقلّ منه، منبّها إلى نقطة مهمّة تفضى إلى أنّ الأحسن فى الشرائع ليس أحسنَ في ذاته، وإنّما يُقاس بملاءمته لحاجة المجتمع وظرفه التاريخي، وهذا ما حدث بالنسبة إلى آيات الفروع التي نزلت فى المدينة، ونسخت آيات الأصول التي نزلت فى مكة نسخًا مؤقّتًا فرضه السياق التاريخي للقرن السابع الميلادي، بما لا يعنى تعميمه إلى الأبد خارج ذاك السياق، ولذلك فإنّ زماننا هو زمان بعث آيات الأصول، أى الآيات المكية حيث "لا إكراه فى الدين" (27).

سمّى "محمود محمد طه" هذا التصور المفضي إلى استعادة روح الآيات المكّيّة بـ "الرسالة الثانية من الإسلام"، وهى عنده الرسالة الأصل، وقد كتب طه مؤلّفًا حمل الاسم نفسه ضمّنه بضعة عناوين جاء من بينها "الجهاد ليس أصلا فى الإسلام"، و"عدم المساواة بين الرجال والنساء ليس أصلًا فى الإسلام"، و"الحجاب ليس أصلًا فى الإسلام"، و"تعدد الزوجات ليس أصلا فى الإسلام"، وبذلك ألقى الضوء على كثير من آيات الأحكام التي لم تعد مناسبة لمتطلبات العصر الحديث وتطوّر قيمه الروحية والجماليّة، قاصدًا من ذلك أن ينوّه بالطاقة الكامنة فى التشريع الإسلامي، والتى تستطيع أن تستوعب المتغيّرات الجديدة إذا تمّ بعث "الأصول" دون "الفروع" التى شكّلت شريعة القرن السابع الميلادي (28).

كان "محمود محمد طه" يرى أنّ المخرج للأمة الإسلامية كامن فى الانتقال من نص فرعى فى القرآن خدم غرضه حتى استنفده، إلى نصّ أصلى ظل مرجأً ومدخرًا إلى حين وقت تطبيقه، وها هو قد حان وقته اليوم، بشرط أن نتحرّك من شريعة الفروع وفقهها نحو أحكام آيات الأصول المنسوخة (29)؛    يقول "محمود محمد طه": "إنّ الخلل ليس فى الدين، وإنما هو فى العقول التى لا يحرّكها مثل هذا التناقض لتدرك أنّ فى الأمر سرًّا، هذا السرّ هو ببساطة شديدة أنّ شريعتنا السلفية مرحلية، وأنها لا تستقيم مع قامة الحياة المعاصرة، وأنها حتى تستطيع استيعاب هذه الحياة وتوجيه طاقتها الكبيرة، لا بد لها من أن تتفق وتتطوّر وترتفع من فروع القرآن إلى أصوله" (30) ؛ كما قال "محمود محمد طه" فى كتابه "أدب السالك" :" فالله تعالى إنما يعرف بخلقه، وخلقه ليسوا غيره وإنما هم هو فى تنزل. هم فعله ليس غيره وقمة الخلق وأكملهم فى الولاية هو الله وهو الإنسان الكامل، وهو صاحب مقام الاسم الأعظم (الله)، فالله اسم علم على الإنسان الكامل"(31).

وكان موضوع المرأة من أهم المواضيع التى عالجها "محمود محمد طه"  فى فكره، حيث دعا إلى تطوير التشريع فيما يختص بشريعة الأحوال الشخصية، وإلى وضع المرأة من حيث التشريع فى موضعها الصحيح، بعد أن تعلمت وشغلت الوظائف الرفيعة، متجاوزا بتلك القصور الفكرى الذى ظل ملازما للفكر الإسلامي السلفى تجاه وضع المرأة فى التشريع الدينى، ومتجاوزا دعوات تحرير المرأة التى هدفت لمحاكاة الغرب، ومقدما فهما جديدا مستمدا من أصول الدين، يقوم على مساواة الرجال والنساء أمام القانون وفى النظام الاجتماعي، انطلاقا من فكرة تطوير التشريع الإسلامي، واستلهاما أكبر لغرض الدين فى الحياة الحرة الكريمة للنساء والرجال على قدم المساواة، وقد كان أكبر تجسيد لدعوة الأستاذ محمود إلى تطوير وضع المرأة الدينى هو المرأة الجمهورية نفسها، فقد دخلت تلميذات "محمود محمد طه" من الجمهوريات التاريخ كأول طليعة من النساء تخرج للدعوة إلى الدين بصورة جماعية ومنظمة، فى ظاهرة فريدة ظللتها قوة الفكر وسداد السيرة وسمو الخلق (32).

وهكذا نخلص في هذا المقال الثاني بأن مشروع "محمود محمد طه" التنويري، إذن ينطبع بالبحث عن أسس جديدة لإرساء منهج الحوار والتواصل بين الحركات الايديولوجية والسياسية الموجودة في الساحة السودانية، فهو خطاب يجمع بين الإخوة في الوطن (الماركسيون)، والإخوة في الثورة ( القوميون)، والإخوة في الحرية (الليبراليون)، ومن هنا يرسم "محمود محمد طه" برنامجا دينيا- سياسيا- ايديولوجيا محدد المعالم يجعله رسالة ثانية تقوم علي تحقيق مجتمع لا طبقي تسوده العدالة الاجتماعية، والحريات الديمقراطية، وضمان التعبير الحر، والمشاركة السياسية لكل المواطنين، كما يقوم علي تحرير البلدان الإسلامية المستعمرة ومجابهة الاستغلال الاستعماري، واعتماد سياسة وطنية غير منحازة ومستقلة عن مناطق النفوذ وسيطرة القوي الكبرى، وتدعيم ثورة المستضعفين والمضطهدين في كل مكان.... وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

...........

18- أسماء محمود محمد طه: مقدمة كتاب نحو مشروع مستقبلي للإسلام، ط رؤية، مصر،2012،  ص13-14.

19- د. "إسماعيل صديق عثمان" دراسة نقدية لأفكار "محمود محمد طه" صاحب ومؤسس الفكر الجمهوري، 2013، ص 16.

20- نفس المرجع، ص 14.

21- إيمان عادل: محمود محمد طه.. مفكر أهدر دمه المتأسلمون وأعدمه النظام السودانى.. الإثنين، 20 يناير 2014 08:05 ص

22- أحمد الجدي: محمود محمد طه... المفكر الإسلامي الذي قتلته رؤيته المختلفة للدين، نشر في 20 ديسمبر، 2018.

23-أحمد زكي عثمان: فى ذكرى إعدام محمود محمد طه: البحث عن بديل للتصفية الجسدية للمختلف، الحوار المتمدن-العدد: 1836 - 2007 / 2 / 24 - 12:25,

24- محمود مراد محمد: محمود محمّد طه و"الرسالة الثانية من الإسلام"، مارس 2021، ص 23-25.

25- مصطفي عبادة: تجديد الخطاب الديني السودان.. محمود محمد طه: الإسلام المستقبلى خارج الجماعات، نشر في الأهرام العربي.، يونيو 10, 2016.

26- د. "إسماعيل صديق عثمان" دراسة نقدية لأفكار "محمود محمد طه" صاحب ومؤسس الفكر الجمهوري، ص 17 ؛ وأنظر أيضا باسم المكي: قراءة في المشروع الفكري لمحمود محمّد طه (1909 ـ 1985)، مارس 2015

27- ماهر فرغلى: محمود محمد طه.. الرجل الذى كشف عملية تزوير الإسلام، تشر بالبوابة نبوز المصرية، الخميس 21/يوليه/2016 - 03:20 ص.

28- محمود محمّد طه : "الرسالة الثانية من الإسلام"، أم درمان: الحزب الجمهوري، 1969، ص 10-11.

29- نفس المصدر،  ص 11-12.

30- نفس المصدر، ص ص15-16.

31- محمود محمّد طه : أدب السالك، أم درمان: الحزب الجمهوري، 1969، ص8-9.

32- سامي الذيب: محمود محمد طه: ما للرجل وما عليه، الحوار المتمدن-العدد: 6635 - 2020 / 8 / 3 - 13:47.

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم