صحيفة المثقف

عبد الحسين الطائي: "الخاتون" أسهمت بتأسيس الدولة العراقية

عبد الحسين صالح الطائيقرن على تأسيس الدولة العراقية (6)

أطلق العراقيون على المستشارة البريطانية في الإدارة المدنية وعالمة الآثار "غيرترود بيل" (Gertrude Bell)، لقب "الخاتون"، بمعنى السيدة عالية المقام. تخرجت من اوكسفورد، كانت معربة اللسان، لها معرفة وإطلاع بالواقع العراقي. عملت مع المندوب السامي البريطاني "بيرسي كوكس" في عشرينيات القرن الماضي. امرأة استثنائية بنفوذها وتأثيرها وبما تميزت به من عقلية متفتحة مقرونة بمواهب ومهارات متعددة. يكمن سر نجاحها في قدرتها على تحمل المشاق ومواجهة الصعاب وتفهمها لظروف الناس.

تجلى نشاطها في العراق منذُ 1909، حينما باشرت بعملية مسح وتنقيب للآثار في مناطق العراق الشمالية والجنوبية. اطلعت على الأماكن الأثرية في كل المناطق التي جالت بها. جالست الأهالي ودونت المعلومات. تجولت ببعض دول الشرق الأوسط، وعادت إلى العراق في 1914. عُينت في إدارة المخابرات السرية في القاهرة خريف 1915، بصفة مترجمة وخبيرة. أرسلها المكتب العربي في القاهرة إلى العراق في سنة 1916. بعد إحتلال بغداد عام 1917، اشتهرت بلقب الخاتون.

عندما قررت بريطانيا، بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، تغيير سياستها في العراق، وتأسيس حكومة ذات واجهة عربية، تدار حسب قول المس بيل، بأيادي عراقية وأدمغة بريطانية. إعتمدت عليها المخابرات البريطانية، فأجادت مهمتها السياسية بإمتياز في هندسة خارطة العراق الحديث الذي تأسس من "ثلاث ولايات بغداد البصرة الموصل". صاغت مستقبله السياسي في إطار الخارطة الكبرى للشرق الأوسط. رسمت خريطته على الورق في ربيع 1918، لكنها لم تستقر في الواقع إلا عقب نجاحها في تنصيب فيصل ملكاً على العراق عام 1921، حسب ما جاء في مذكراتها بتاريخ 4/12/1921.

لجأ البريطانيون إلى سياسة إرضاء الثوار من خلال التشاور معهم وتنفيذ بعض مطاليبهم بعد أحداث ثورة العشرين، منها إلغاء الإدارة المدنية وإنشاء وزارة مؤقتة تشرف على إنشاء مجلس تاسيسي مهمته انتخاب ملك للعراق وصياغة الدستور والشروع بإنشاء بعض المؤسسات الهامة. أعدت الخاتون تقريرها "استعراض الإدارة الملكية في ما بين النهرين"، الذي اقرته الإدارة البريطانية وطبعته في كانون الاول 1920، عُرف حسب مذكراتها، بـالكتاب الأبيض. 

الخاتون من الشخصيات المهمة التي  حضرت مؤتمر القاهرة عام 1921، بحضور وزير المستعمرات البريطاني "وينستون تشرتشل" للتشاور حول مخطط تقسيم الشرق الأوسط ورسم حدود الدول القومية في المنطقة بعد إنهيار الإمبراطورية العثمانية.  كانت الخاتون من المندفعين بقوة بتأييد فكرة إعطاء الاستقلال للعراق، بعدما تداولت مع زميلها "لورنس العرب"، وتوصلت إلى قناعة بضرورة قيام مجلس تأسيسي للدولة العراقية، بعدما كانت تؤيد الإنتداب البريطاني، ولا تقيم أي حساب لأي كيان وطني يصبوا إليه العراق. 

مارست نفوذاً واسعاً في تأسيس الإدارة الجديدة، شاركت في نشاطات الحياة السياسية، دخلت رحاب المجتمع الرجالي وخالطت الشخصيات السياسية البارزة من العراقيين والبريطانيين. إهتمت بسلالات القبائل وزعاماتها، زارت بعض شيوخ العشائر من العرب والأكراد، وتعرفت على رجال الدين السنة والشيعة، والوجوه البارزة في المجتمع من الموالين والمعارضين لسلطة الإحتلال. فتمكنت من تجاوز الكثير من التحديات التي وقفت بالضد من تنصيب الملك فيصل ملكاً على عرش العراق.

ظهرت قوتها وبرزت شخصيتها وتمكنت من إسقاط المرشحين المنافسين للملك فيصل. لجأت إلى شيوخ العشائر، ورجال الدين، واستعانت بزعماء المدن والأحياء من أجل توسيع حملتها الداعية لتنصيب فيصل ملكاً. لجأت إلى أساليب متعددة في إقناع الخصوم بالإنسحاب، أمثال: عبد الرحمن النقيب نقيب أشراف بغداد الذي كان له نصيباً وافراً لإعتلاء العرش. ولجأت إلى اسلوب القوة والمراوغة في إبعاد طالب النقيب، أبرز زعماء البصرة، لأنه شكل خطورة كبيرة على ترشيح فيصل. وبعد تجاوزها للإشكاليات المتعلقة بعدم  إمتلاك فيصل الأول جذور قبلية تعطيه بعضاً من الشرعية، قالت كلمتها: "لقد قمنا بتنصيب ملكنا". ورتبت إجراءات حفل التتويج في 23/08/1921.

درست الواقع الإجتماعي وتعرفت على طباع الناس، تجولت في أسواق بغداد وشوارعها وأزقتها، فحظيت باهتمامهم وإعجابهم. كان لها حضوراً متميزاً بمناسبات الأفراح والأحزان. أقامت الولائم وحفلات الشاي، فتعرفت على الكثير من الشخصيات العراقية، تبادلت معهم الزيارات. كانت تتباهى بعلاقاتها الإجتماعية مع أفراد العشائر والبيوتات البغدادية، وتعتبر تلك العلاقات دليلاً على حصولها لقب "خاتون".

اعتقدت بأنها على صواب فيما تكتب وترسم وتخطط، وهي في ذروة تألقها السياسي، مارست عملها المهني الأكاديمي الآثاري وأبدعت فيه. تتوج عملها بإنشاء نواة لمتحف عراقي ظل حافظاً لأهم الآثار التي وجدتها والآثار العراقية البابلية القديمة والمخطوطات والتحف التي حفظت الذاكرة العراقية المتخمة برموز الحضارات القديمة. سمي المتحف لاحقاً بالمتحف الوطني العراقي بعدما كان يعرف بــمتحف بغداد للآثار، تولت الرئاسة الفخرية لدائرة الآثار. وكانت على رأس لجنة مكتبة السلام التي تحولت فيما بعد إلى المكتبة الوطنية.  

حياتها مليئة بالأحداث المثيرة على الصعيدين السياسي والإجتماعي، شاءت أن تسجلها على شكل مذكرات للفترة 1917-1926، إلى أبيها السير "هيو بيل"، وزوجة أبيها "فلونس". ورغم إحتواء بعض رسائلها على آراء ونظرات غير سديدة، إلا أن الدكتورعلى الوردي اعتمدها وفضلها على الوثائق البريطانية، لأنها نادرة ومليئة بالحيوية عكست الصورة النفسية والإجتماعية بمصداقية عالية. تعتبر في مضامينها أحد المصادر الأساسية لتاريخ العراق السياسي الحديث، لتفردها بتسجيل ما لم يسجله مصدر آخر، كانت شاهد عيان في مواجهة الواقع السياسي الذي ساد العراق قبل ثورة العشرين وخلالها وبعدها.

الملاحظ في رسائلها إنها لم تستقر على رأي، فهي تمدح في وقت معين، وتشتم في وقت آخر. لم يسلم من شتمها الكثير من السياسين وشيوخ العشائر الموالين وغير الموالين لسلطة الإحتلال، ورؤساء تحرير الصحف الوطنية. فمن المثالب الواضحة في رسائلها التشكيك بقدرة العراقيين على حكم أنفسهم تبريراً للوجود البريطاني. أكدت في موضع آخر بانه "لابد من اسكات القوى الوطنية من قوى سياسية وعسكرية وعشائرية التي تقود الرأي العام العراقي التواق للتحرر والمناهض للهيمنة البريطانية". اتبعت أساليب عديدة في زرع الخلافات الطائفية بين السنة والشيعة ضماناً للمصالح البريطانية. ولكنها في 1920، نقضت رأيها بالقول: ليست لنا مصلحة في أن نحول دون رغبة العراقيين في إختيار أميرهم.

مجمل ما كتبته "الخاتون" عن العراق، يُعد من المرتكزات الأساسية للسياسة البريطانية، فهي كانت تشير في جميع ممارساتها ووثائقها على وجود إختلاف بارز بين السنة والشيعة في العراق. وظل هذا الخطاب قيد الاهتمام لدى السلطات البريطانية حتى بعد إحتلال العراق 2003.

المهتمون بشأنها قسموا مراحل حياتها في العراق إلى ثلاث مراحل، الأولى 1917-1918، مرحلة جمع المعلومات التي اعتمدت عليها سلطة الإحتلال. والفترة الثانية 1918-1923، إمتازت بفعالياتها السياسية وتأسيس الحكم الوطني. والفترة الثالثة 1924-1926، حالة التدهور الصحي وإنعزالها عن الناس.

شخصية الخاتون ومآثرها الكثيرة، مثيرة للجدل، أثارت الروائي عبد الرحمن منيف، فاستلهمها في صورة بطلة من أبطال ثلاثيته "أرض السواد".

أحبت "الخاتون" بغداد وأهلها وأعلنت في مذكراتها بأن جذورها تأصلت في بغداد وأصبح العراق موطنها الثاني. امتدت حياتها في العراق حتى يوم وفاتها بتاريخ 12/7/1926، في بيتها البغدادي عن (58) سنة، ودفنت في المقبرة القريبة من ساحة الطيران ببغداد بناء على وصيتها.

 

د. عبدالحسين الطائي

أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا

..................

المراجع:

- العراق في رسائل المس بيل 1917-1926، ترجمة جعفر الخياط، تقديم المؤرخ عبدالحميد العلوجي، الدار العربية للموسوعات، ط1، بيروت 2003.

- د. علي الوردي: لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ج5، دار كوفان للنشر، لندن 1992.

- سيف صلاح الهيتي، مس بيل صانعة الملوك ومهندسة خارطة العراق الحديث، موقع الجزيرة.

- صحيفة القدس العربي، الخاتون: مس بيل في العراق، بتاريخ 19/01/2006.

- د. نعيم جاسم محمد: الاحتلال البريطاني للعراق وطبيعة الادارة البريطانية 1914-1920.

رابط المقالة الأولى:

- https://www.almothaqaf.com/a/opinions/953410

رابط المقالة الثانية:

- https://www.almothaqaf.com/a/opinions/953571

 رابط المقالة الثالثة:

- https://www.almothaqaf.com/a/opinions/953761

- رابط المقالة الرابعة:

https://www.almothaqaf.com/a/opinions/953922

- المقالة الخامسة:

- https://www.almothaqaf.com/a/opinions/954251

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم