صحيفة المثقف

مجدي إبراهيم: وَادي الحُمَقاء (4)

مجدي ابراهيمنزعة الزهادة أصيلة في التفكير الفلسفي على التعميم، قديمة قدم هذا التفكير نفسه، فلا يخلو عصر ولا ثقافة من وجود جماعة يحلو لهم التشبث بامتلاك هذا النزوع الغريب، والتمسك بالعيش على أطلاله ومحاولة اعتباره حقيقة من الحقائق الباقية، فلا يسلم من تقرير هذا الاتجاه والدفاع عنه أناس لهم قيمتهم الفكرية وقاماتهم الفلسفية. منذ أفلوطين بل قبل أفلوطين، وهذا المنحى له ظلاله الفلسفية وملامحه العقليّة، فلا الفكر الشرقي القديم يخلو منه، ولا فلاسفة اليونان وبخاصة الرواقية، نزعت بعيداً عنه، ولا فلسفة فلاسفة العصور الوسطى إسلامية ومسيحية، تخطت هذا الاتجاه بوجه من الوجوه، ولم تكن بيئة عقلية قط من البيئات التي نمى فيها التفكير الفلسفي بحاجة إلى أن يكون فيها هذا المنحى خارجاً عن دائرة اهتمام الحركة الفلسفية فيه؛ حتى إذا ما انتقلنا إلى الفترة الفلسفية التي سبقت ظهور الفيلسوف الألماني (كانط) (1724-1804) وجدنا هنالك جماعة "الخاشعين" أو "القانتين"، في القرن الثامن عشر - كما يذكر عثمان أمين في نقد العقل الخالص لكانط - وهم شيعة بروتستانتية متعبدة متطهرة، كانت سائدة في البيئة التي عاش فيها كانط، وكانت جماعة تعلى من شأن القلب والحياة الباطنة، وتعارض اللاهوت المسيحي العقلي المجرد، وتضع الأعمال فوق الاعتقادات، وتشيد بأفعال البر والتقوى والإحسان.

كان عصر كانط عصراً مجيداً، ازدهرت فيه الآداب والمعارف الفلسفية العليا، وعاش فيه رجال مرموقون نابهون أمثال "هردر"، " وجاكوبي"، "وجوته"، "وشيلر"، وقد ألم كانط بمجمل أفكار عصره في ألمانيا، وواصل تأملاته إذ ذاك بصحبة ثلاثة من المفكرين من غير الألمان، وكان "نيوتن" و"هيوم" و"ورسو" جميعهم أثروا فيه أبلغ التأثير.

برزت نزعة "القانتين" أو "الخاشعين" تلك في البيئة العقلية التي عاش فيها كانط، وكان الفيلسوف علامة بارزة على عصره، عصر التنوير أو فلسفة التنوير كما كانوا يسمونها في ألمانيا، في القرن الثامن عشر. وفكرتها المجملة تذهب إلى أن جميع الشرور التي ابتليت بها الإنسانية منشؤها الجهل ثم المذلة التي تنتج عن هذا الجهل، وأن تقدم المعارف والتنوير خليق أن يكسب الناس السعادة والتحرر.

ويمكن الشك في الأقوال التي تبعد فلسفة كانط عن التأثر بهذه النزعة، وبخاصة في القانون الأخلاقي، مقدار تأثره جنباً إلى جنب بالفلاسفة الذين سبقوه أو عاشوا في عصره من غير الألمان. ولم يكن نقد العقل العملي في جملته؛ أي نقد مبادئ الأخلاق، إلا أثراً مباشراً لتأثر كانط بهذا النزوع بالإضافة طبعاً إلى خلفيات فلسفية كثيرة جعلت فلسفته النقدية فتحاً جديداً في عالم المعرفة وفي الفلسفة الغربية عموماً حتى أن "شوبنهور" لم يتردد في التصريح بأن أكبر فضل لكانط على الفلسفة هو تمييزه بين "الظاهرة" وبين "الشيء في ذاته". ذلك جوهر ما كان كانط بسطه في نقد العقل الخالص؛ إذ الوقوف على حقائق الأشياء ليس في قدرة العقول البشرية الإحاطة به أو سبر غوره، ونحن لا نعرف من الأشياء إلا الخواص واللوازم والأعراض، ولكننا نجهل حقائقها.

ويعد نقد العقل العملي، أي القانون الأخلاقي منصبّاً على فحوى الإرادة الخيرة؛ محور الحرية والواجب، إذ العلم والمعرفة النظرية لا يكفيان؛ فهنالك الحياة العملية والأخلاق والسلوك الفعلي التطبيقي. ولم يرد الفيلسوف أن يستخلص مذهبه الأخلاقي من الميتافيزيقا التقليدية، ولم يرد أيضاً أن يقيمه على التجربة؛ لأن التجربة تسجل ما هو كائن، ولا تبحث فيما ينبغي أن يكون. والمبدأ الأول في الأخلاق يراه كانط شيئاً واحداً كوحدة العقل الإنساني يعده الناس خيراً في ذاته، مطلقاً بلا قيد ولا شرط، قبلياً، وهو "الإرادة الخيرة".

والإرادة الخيرة هي إرادة العمل بمقتضى الواجب، دون اعتبار آخر، ومعنى هذا أن الواجب يأمرنا أمراً قاطعاً بأن نعمل دون اعتبار لمصالحنا أو أن نقدّم أنانيتنا على العمل بالواجب، إنما الواجب تكليف باطني بالفعل وإجبار بالرضى عليه. فهو أمر جازم، مطلق، حاسم. غير أن العقل الذي هو واحد في كل إنسان، هو الذي يصدر إلينا أمراً كهذا، يصدر إلينا الأمر بالواجب، إنه العقل منصرفاً إلى الفعل، هو "العقل العملي" بتعبير "كانط".

وإذا عملت الإرادة على وجه أخلاقي بمقتضى القانون الذي يكمن فينا؛ تحررت. ومعنى تحررها ارتفاعها عن الخضوع إلى اللذة أو المصلحة، ودنوها من الشعور بالتبعة التي هى القانون مصدر الأخلاقية. والفعل لا يكون أخلاقياً في نظر العقل العملي ما لم يكن حراً غير مقيد بالدونية أو بالأنانية. ولن يصبح الفعل حراً إلا في الوقت الذي يكون صادراً عن إرادتنا المستقلة غير خاضع لإرادة خارجية. ومتى صدر "الفعل الحر" عن الإرادة المستقلة أصبح له قانونه الذاتي أي أصبح له "ناموسه الذاتي"، على معنى أن يكون الأمر فيه من إملاء الكيان الباطن الداخلي، وهو بالطبع كيان عقلي. وهذا ما عبرت عنه فلسفة الأخلاق عند كانط حين صرحت بأن بعض أفعالنا ينبغي أن تعد أوامر إلهية، لأنها ملزمة لنا "إلزاماً داخلياً"، يتمشى مع الفطرة التي فطر الناس عليها، ويجب أن ينظر إليها على أنها ملزمة لنا لأنها تعتبر إلهية؛ لكأنما كان طاعة القانون الأخلاقي طاعة للأمر الإلهي فينا. والتحرر من الواغش مرهون بتلك الطاعة. وليست البصيرة التي تدرك هذا وتوفيه حقه بالتي تنعزل عن العقل ولا عن الواجب ولا عن الحرية ولا عن الإرادة الإنسانية النبيلة في فعل يمارس، ولا في ميدان يجرى فيه الفعل وفق هذا القانون.       

إنما الحرية تحتاج لفعل الأمانة لتنزيلها من أعلى إلى أسفل، أعني من التجريد النظري وعالم المفاهيم إلى دنيا الواقع الممارس بالتجربة التي تشكله، ناهيك عن تنظيرها وتقديرها في مجال الفكر أولاً ثم مجال العمل الواسع والحياة المعاشة؛ فهلا كانت هذه الأمانة، وأين هى تبعاتها ومهامها؟

تكمن الأمانة في الإرادة وتتمثل في الأخلاق، وتنشط بالتربية على "الفعل" وبالتدريب والتقويم، باحتمال المكروه ومقاومة المرغوب، وبامتلاك عادات الإرادة (التعوِّد، والمران، والدرْبة، والتكرار). من الممكن لا من المستحيل أن تجيء الأخلاق مشروطة بالحياة؛ فنحن نقول على الدوام الحياة الأخلاقية ولا نعني بها إلا أن تكون الأخلاق لب لباب الحياة عندنا. أما وقد فارقت حياتنا في أخص خواص الإدراك فيها مثل هذه الصفة الأخلاقية، فارقت القانون؛ فقد نقع عند ذلك في محظور الوعي ومحظور الفكر والعمل؛ إذْ تسقط كل القيم والدلالات المؤكدة للفعل الحيوي؛ لتصبح الحياة غير جديرة بمعناها؛ فيما لو حذفنا منها الجانب الأخلاقي الكامن في جوهرها : جوهر الأحياء.

ولولا وجود هذا الجانب في جوهر الأحياء من الآدميين، ولولا الطرق الدائم على فعاليته التهذيبية في العمل والسلوك، وفي أنماط الإدراك الإنساني على وجه العموم لسقطت منا قيم الحياة مجتمعة؛ إذْ ما قيمة الحياة إذا هى خلت في الجوهر من الفعل الأخلاقي؟ ما قيمتها إذا انفعلت فينا جوانبها جميعاً غير جانب واحد منها هو الجانب الأخلاقي؟ ما قيمة الحياة إذا فرضنا أن القوانين التي تحكمها ليست تخضع في الجملة فضلاً عن التفصيل لروابط خُلقية؟ الحياة بغير أخلاق لا قيمة لها؛ لأن الأخلاق في أبسط معانيها قرابة إلى سلوك الأحياء هى أنها لابد أن تمارس في بطن الحياة واقعاً معاشاً وفعلاً يقبل الممارسة والتسليك، وليست هى بالفكرة النظرية يفارقها السلوك ويغادرها العمل. وما كان الطابع التنظيري أبداً إلا بمثابة الإطار الخارجي للفكرة الخلقية : الغطاء البَرَّانيِّ والشكل الظاهري الذي يحمله التصور الإنساني المحيط بالأفكار والأقوال حول ما ظهر من العمل فكان مدعاة للتنظير أو ما نقص منه فكان مدعاة للتقويم في التنظير؛ لكأنما التنظير أطار خارجي لنواقص العمل ولتوافر العملية النقدية في الناحية النظرية إذا هى لم تسدد في الناحية التطبيقية؛ إذْ التطبيق أحياناً لا يدع الفرصة سانحة دوماً إلى علاج القصور الناشئ في الحركة التهذيبية؛ فينتقل قصور العمل إلى تفكير النظر ليحيطه بالسداد والاكتمال بعد أن كان أصل الحركة التهذيبية فكراً خالصاً وعلماً دائماً، لكن هذا الفكر النظري الخالص أو هذا العلم السطحي الدائم لا وجود له حقيقة في الواقع الفعلي ما لم يخضع لاستمرارية التهذيب والتطبيق، حينذاك يكشف عن وجوه القوة فيه ووجوه النقص الذي يعتريه؛ فشأن الأخلاق كشأن التجربة الصوفية : أولها فكرة نظرية. وثانيها : تطبيق وممارسة. وثالثها : حركة فكرية لما كان طبق بالفعل. فالتطبيق الذي هو بالاصطلاح الفني للقوم يُدعي "التسليك" وسط بين محورين؛ أولهما : الفكر الداعي للحركة الفعلية، وهذا محور النظر قبل العمل. وثانيهما : الفكر التنظيري (الشارح) الذي يتمخض عن التجربة العملية، وهذا محور النظر بعد العمل، وهو يختلف عن المحور الأول؛ لأنه يشرح التجربة ويكادُ يكون مقطوع العلاقة بمحور التنظير الذي يأتي قبل العمل، وعنه يفيض العلم الذي يأتي بعد التجربة.

فإذا عدنا إلى مقالة شيخنا الجيلاني فيما ذكره عن إذهاب غمِّ القلب، نجده مقولاته صادرة عن تجربة صافية، الكلام فيها يصدر عن ما عساه يأتي عن المحور الثاني، أعني الفكرة الناشئة عن التجربة العملية الشارحة لحالات الصفاء التي عاشها. ولو شئنا أن نعطي مثالاً على هذا الجهاد الموصول فيما هو مقصود بفعل التنقية والتصفية ترقيقاً للقلوب، نختم به هذه الدراسة لم نجد إلا السُّنة التي أستنها أصحاب التوكل والرياضات إذهاباً لغمِّ القلب وعلاجاً لدائه؛ فقد كان إبراهيم الخواص (ت 291هـ) فيما روى عنه القشيري (الرسالة القشيرية : ص 104؛ من طبعة دار المعارف) يقول دواء القلب خمسة أشياء : (1) قراءة القرآن بالتدبر. (2) خلاء البطن, بمعنى كثرة الصوم. (3) قيام الليل. (4) التضرُّع عند السَّحر. (5) مجالسة الصالحين؛ وهى من دواعي المحبة؛ فمثل هذا الجهاد ما من شأنه أن يذهب غم القلب ويداوي دائه ويفتحه على الجهة الملكوتية.  

وجميع الأفكار التي قالها شيخنا في مقاله هذا، ليست عن نظر فكري مجرَّد نتيجة قراءة وتأمل وكفى، ولكنها بارزة من "فتوح الغيب"؛ بفعل التنقية والتصفية؛ بل بفعل التوفيق والاصطفاء، أي بفعل الاختصاص الإلهي؛ بفعل الحياة والممارسة، بذوق البصيرة، والجهاد الدائم والإرادة المقصورة على المجاهدة، ثم بالعلم والمعرفة وتحرير الإرادة الدينية عن غواشي الانحراف في المقاصد المطلوبة، أعني تحريرها فيما لو انحرفت هذه الإرادة بوجهتها في وادي الحمقاء.

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم