صحيفة المثقف

مهدي الصافي: المظاهر والدوافع والنوايا في السياسة والدين

مهدي الصافيالعراق وايران

عالم المتناقضات في البلاد العربية او الاسلامية يفتح للناس متاهات شعبية متعددة، تأخذه فيها واليها وهج مظاهر الصور والشعارات الحقيقية او المصطنعة، فتغيب عنهم ماهية الدوافع والنوايا المنتظرة من هذا السحر المركب، الذي قد يجر مشاعر وعقول البسطاء احيانا الى التهلكة او التيه، وهي من اكثر الاشياء او القضايا او المعتقدات او الافكار غموضا على وجه الارض (السياسة والدين)، مناطق معتمة وفي الافرع البعيدة انوار الهية او طبيعية ناصعة، خلق الانسان والحياة بين هذه العوالم، وترك يصارع الطوفان بعقله وعلمه، هناك حقائق نسبية، واكاذيب مطلقة...

السياسة، والدين، والمذاهب، والاثنيات، والايديولوجيات المستوردة، ونظريات الحكم والتراث، دخلت في طاحونة التجارب، فلم تنتج غير المعاناة والتخلف والتوقف عن اللحاق بالركب الحضاري العالمي، فمع شغف العيش، وصعوبات الحياة، وعدم وجود استقرار او ازدهار اقتصادي ملموس، هبط المستوى التربوي او التعليمي في معظم البلدان العربية، وازداد الفقر، وتكدست البطالة فوق ارصفة الاسواق الشعبية، وانتشرت العشوائيات مع تزايد نسبة السكان، لاوجود للبرامج والخطط التنموية، انما زيادة في الفشل والفساد المالي والاداري ونهب للمال العام وعمليات غسيل الاموال، وهجرة العقول والكفاءات، الخ.

اختيار النموذج العراقي الايراني لشرح او توضيح ظاهرة المثلث المقدس، ليس لان بقية النماذج في المنطقة هي مثالية او تمتلك شيء من المقبولية، على العكس تماما هي تجارب سياسية فاشلة لاتستحق الوقوف عندها (الخليج العربي-دول شمال افريقيا العربي)، ولكن في هاتين الدولتين امتزجت بشكل وثيق وكبير العلاقية بين السياسة والدين، بتجربة ديمقراطية بدائية مشوهة، ولهذا هي تجربة جديرة بالتحليل والمناقشة والاستنتاج..

ان تجربة الثورة الاسلامية في ايران عام 1979، وتجربة حزب البعث عام1968-1979، كانت فيها لعبة المظاهر والدوافع والنوايا (المثلث المقدس للدين والوطن) في قمة اداءها وعطاءها الفني

 (الخدعة الكبرى، نقصد بالفني هو ان الانسان عندما يطرح نظرية او فكر او مفهوم معين يتفنن في صناعة رؤية مثالية ظاهرية احيانا وليست واقعية، توحي للجمهور انها ذات مصداقية وشفافية عالية، حيث يمكن استنتاج الدوافع والنوايا من العنونان الادعاء الاولي لها).....

ايران عمدت الى ضخ ثقافة المدينة الفاضلة، ومقدمات نظرية دولة العدل الالهي (عودة او ظهور الامام المهدي)،

والبعث العراقي ينشر ثقافة القومية الوطنية (القطرية)غير المؤمنة فعليا بشعارات الوحدة الاندماجية، على غرارماحصل في التجربة المصرية السورية الفاشلة، وهو من اكثر الانظمة الذي استعمل عبارة الخونة والعملاء المتأمرين او اعداء الوطن (الطابور الخامس)، بينما في الحقيقة كانوا يبحثون عن سبل السيطرة الحديدية على الدولة والشعب، والامساك بالسلطة بأية وسيلة ممكنة،

دماء في الشوارع والسجون (وتصفيات للمعارضين او من يشك بأنهم قد يشكلون تهديدا لبداية العهد الصدامي الجديد)، وتقديم انفسهم على انهم ضد مايسمى بالرجعية والتخلف، وبداية انطلاق عهد الحرية والازدهار والتنمية العامة في البلاد (بعد اعلان تأميم النفط عام 1972)، الخ.

بعد انتصار الثورة في ايران سرعان ما اكتشفت شريحة واسعة من الشعب ان ولاية الفقيه كارثة (تحديدا مع بداية الحرب 1980)، وبدأت تتصاعد اصوات المعارضة (حتى بين اوساط الحوزة والمراجع الايرانية الدينية)،

فهو نظام استبدادي لكنه ديني (نظام سلطة الفرد الواحد)، ولكن السؤال يطرح هنا عن هذا الاكتشاف المتأخر لهذه الورطة، هو هل ان الشعب او النخب كانت تعي خطورة المعايير التي تضبط اضلاع المثلث المقدس (ولاية الفقيه، السياسة، الدين)، وهل كانت اضلاع المثلث العقلي العلمي المنطقي (المظاهر الدوافع النوايا، المظاهر: اي الشكل او النموذج العام للنظام السياسي في الدولة كتطبيق الديمقراطية، الدوافع: سلطة الفرد او ولاية الفقيه وحدودها او الشورى ، النوايا: اقصاء وتهميش الاخرين او الانفتاح والتواصل والعمل معهم) غائبة او مفقودة من قبلها، مما دفع الناس الى السير خلف التصويت الشعبي على اختيار هذا الشكل او النموذج من نظام الحكم،

ليس لانه نظام الحكم المطلق لولي الفقيه، بل لان المظاهر والامنيات والدوافع المعلنة قد لاتتطابق مع الحقائق والنوايا على ارض الواقع...

هذا الامر تماما حصل مع صعود صدام الى السلطة عبرالرئيس البكر، حيث تغاضى قيادات واعضاء الحزب عن تلك الظاهرة القروية العشائرية الجديدة، اذ كان اغلب هؤلاء غارقين في النرجسية الوطنية الفارغة، حتى ظهرت لهم مجزرة قاعة الخلد

 (اغلبهم يذكر انه استدعي للمؤتمر دون ان يعرف عنه شيئا)،

ثم توالت المجازر والحروب والمغامرات الحمقاء والكوارث، بينما كان الشعب (وحتى الشعوب العربية) مبهورة بصورة قائد الضرورة صاحب مسرحية حمل منجل الحصاد ومسحاة الزراعة والبناء، الذي يدخل بيوت الفقراء والاحياء الشعبية، ويقوم بتوزيع الالعاب والهدايا والاجهزة الكهربائية

 (كان جهاز التلفاز بالاسود والابيض عند غالبية ابناء المدن، بينما ظهرصدام عبر الاعلام وهو يوزع اجهزة التلفاز الملونة في القرى)، وبعض المواد الغذائية، وفتح الوكالات العامة والجمعيات في جميع المحافظات (وكانت بالفعل المواد والاجهزة المستوردة على درجة عالية من الجودة)،

في المقابل كانت ماكنة الموت تطحن السياسيين والمفكرين والمثقفين والمبدعين، المعارضين لهذا الاسلوب الهمجي في ادارة الدولة، ولكن شتان بين الصور المصطنعة المضخمة في الشارع عن اهداف هذا العهد الجديد، والمعارضة التي لاتملك غير المفاهيم والكلمات والتحليلات والامنيات المستحيلة، حتى اصبح من الصعب جدا ان تنتقد ذلك النظام او ان تقنع الناس بوحشيته وفساده، فالنوايا الصادقة (لماذا نسبيا :لان الاطراف الاخرى ايضا لديها مظاهر ودوافع ونوايا خاصة، قد تصطدم بطبقات سياسية واجتماعية معينة لو كتب لها ان تحكم البلاد، والبعض يقال ان تجربة الحكم في العراق بعد 2003 نموذج لايختلف عن النماذج الفاشلة السابقة) والادوات العلمية او الاخلاقية لايمكنها ان تسعف مجتمعات القطيع لانتشالهم من اوحال الدكتاتورية...

الشعب الايراني الذي اخذته الحرب مع العراق (وشعارات تصدير الثورة، والعزلة الدولية) بعيدا عن ماكان يرغب ويطمح اليه، بدأت تتزعزع ثقته بجدوى بقاء هكذا نظام سياسي ديني جامد، يحاسب الرجل على نصف كم قميصه، والمرأة على خصلات الشعر القليلة الخارجة من مقدمة حجابها، وهو الشعب الهادئ المحب للتجارة والمال والاعمال والفن والابداع،

فظهرت المعارضة من قمة هرم السلطة، ولكنها جوبهت اما بالاعدام او العزل والابعاد والاقامة الجبرية كما في حالة الشيخ المنتظري (او في قضية بني صدر او مهدي الهاشمي)...

هذا الموضوع المطروح للبحث لايراد منه تشخيص الاخفاقات او النجاحات النسبية في كلتا التجربتين، او يذهب لشرح علاقة الدين بالسياسة او الدولة، وان تظهر في طياته بعض الاشارات، وهي اراء ووجهات نظر شخصية، الا ان الاساس فيه هو التذكير بأن المظاهر العامة او الخاصة لاي حدث او فكر او نهج او تجربة سياسية مطروحة لابد ان ينظر للدوافع والنوايا التي تقف خلفها، بشكل واسلوب وعقلية مجردة منفصلة عنها، حتى يتم التوصل او الاقتراب من القناعة التامة الصحيحة المبنية على اسس وقواعد علمية وعقلية سليمة، حتى يتسنى للناس اتخاذ القرار والخيار او الاتجاه الصائب..

لقد كانت تجربة الحشد الشعبي في العراق بعد فتوى الجهاد الكفائي ناجحة بكل المقاييس والاعتبارات الدينية والوطنية، وادت دورها وواجباتها على اكمل وجه، بعد ان سحق داعش وانهى دولة الخلافة في الموصل، بمساعدة الجيش والقوات الامنية والشعبية الاخرى، وتمنى الكثيرين من الشيعة تحديدا ان يصبح نواة لبناء مؤسسة عسكرية دستورية وطنية رصينة،

قريبة من فكرة الحرس الثوري الايراني الذي كان في مقدمة القوات المقاتلة في الحرب العراقية الايرانية، لكن الطامة والكارثة الكبرى ان هذه التشكيلات الجهادية تصعد فيها اثناء الانشغال بصورة ومظاهر الحرب قيادات انتهازية نفعية (بعضهم يستثمر راية النصر لصناعة صورة اسطورية عن دوره في تلك المعارك)، ترى نفسها بعد استتباب الامن، والاحتفال بالنصر، انها فوق الدولة والشعب والدستور،

ولكن مجرد بقاء هذا التشكيل يحمل اسم الحشد الشعبي يعني انه خارج اطار المؤسسة العسكرية والامنية الدستورية (الاسم وصفته ليس له مادة دستورية، بل يبقى تشكيل شعبي طارئ)، وهذا الامر ينطبق على الحرس الثوري الايراني وقياداته (او مايسمى بالحرس القديم)، الذي لم تعد هناك حاجة لوجوده بعد انتهاء الحرب (1980-1988)، وبالاخص مع الادعاء بأن نظام الدولة ديمقراطي دستوري، خاضع لارادة الشعب واصوات الناخبين، اذا مالحاجة او الضرورة من وجود حرس للثورة ؟

مما تقدم يمكننا تحديد مايمكن ان تفعله المظاهر (الشكل والاطار العام الظاهري للمفاهيم او الافكار او الشعارات او الاعتبارات المصطنعة) الخارجية، فالعمامة واللحية او الزي الديني (والوجه النوراني كما يطلق عليه) لايمكنها ان تكون تعطي صكا للايمان او الثقة المطلقة لصاحبها، او التوسع في الاعتقاد بمفهوم عصمة الاءئمة عند الشيعة (او الصحابة العدول عند السلفية الوهابية فيكون امير الجماعة الارهابية اقرب لهم او ممثل شرعي عنهم)، فينتج البناء الثقافي الفوقي للقناعة الشعبية، عبر استحضار الصور النمطية الشائعة عن العصمة والقداسة واضفاءها او منحها لمن ينطق او يتكلم بأسمهم من المراجع ورجال الدين، وما اكثر الذين يرددون عبارة المقدس والتقديس هذه الايام!

ان علم تحليل الدوافع والنيات لابد ان يتم بناءه بطريقة حساسة ودقيقة وفق الاليات والاسس العلمية والعقلية كما ذكرنا، ولهذا يمكننا ايجاز ذلك في عدة نقاط وفق الامثلة التي تم تناولها اعلاه بشكل مختصر جدا، منها مايلي:

اولا: لا يجوز بناء قناعة تامة وفق الرؤيا الانية للحدث، او اعطاء وابداء الرأي الاخير في القضايا والامور السياسية - الدينية الحساسة دون التثبت والتحقق من النتائج المرجوة منها (تشريع قانون في البرلمان للحشد خطأ كارثي تعاني منه الدولة الان بعد طرد داعش، كان الاولى ان يتم دمجه بالجيش والقوات الامنية بعد انتهاء الحرب، وهكذا ينطبق الامر على الحرس الثوري الايراني)

ثانيا: المثاليات الفكرية والايديولوجيات والنظريات السياسية لاتمتلك قداسة مطلقة امام النقد او الاعتراض (بعد اكثر من اربعة عشر قرن يصر المسلمون على ان الخلافة الراشدة بعد وفاة النبي محمد ص، والدولة الاموية والعباسية والفتوحات الاسلامية حتى العثمانية

هي امثلة ونماذج مثالية صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، بينما هي سبب كوارث العرب والمسلمين، واحد اهم عقابات اللحاق بالركب الحضاري الانساني العالمي)

ثالثا: مسألة تحليل واكتشاف الدوافع والنوايا الصادقة او الكاذبة ليست عملية هينة يمكن لاي شخص ان يبدي رأيه فيها، هي كما قلنا من اختصاص اهل الفكر والثقافة وبناة الوعي، اصحاب التحليل

 والاستنتاج العلمي المبني على معطيات ومقدمات واضحة لايمكن للمظاهر او اية اساليب تضليلية صارخة ان تحجبها عنهم، تختلف عن مايسمى الظاهر والباطن في التحليلات الدينية للمؤمن، انما هي استنتاجات علمية عقلية مسبقة يراد منها الحد من المخاطر والاخطاء والكوارث المحتملة، وفق حسابات رياضية علمية تكون نسبة الخطأ فيها قليلة وغير مؤثرة...

رابعا: السياسة والدين هي من العوامل الرئيسية لنهضة الامم وتطورها، سواء كانت عبر نظرية الفصل او الدمج بينهما، ابعاد القداسة عنها يفتح العقول والاذهان لرؤية الدوافع والنوايا الشخصية للانظمة والحكام والقادة السياسيين او رجال الدين، وبأن يبتعد الناس عن الطرق الفجة والعقيمة في بناء القناعات المنحرفة عن جادة الصواب..

الاندفاع وعفوية او سطحية التفكير والادراك قد لاتكشف لك الدوافع والنوايا الخبيثة المستترة خلف المظاهر الخداعة، التي يمكن ان تجر اقدامك او رقبتك ومن وراءك ابناءك واهلك وشعبك الى التهلكة او مقاصل التصفيات الجسدية....

فالعالم لايمكن ان يدار بالفطرة والنوايا السليمة، انما بما يراه الانسان علميا وعقليا ويحذر منه او يتقي شره، وبمايصلح ان يكون طريقا سليما للنجاة والحياة الامنة المزدهرة المستقرة،

لا ان تقاد الشعوب والامم كالقطيع خلف الصور والخطابات الاعلامية الجوفاء، كما سار او حشر لا اراديا في زاوية جائحة كورونا ولواحقها وتوابعها....

 

مهدي الصافي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم