صحيفة المثقف

سامي عبد العال: عن الاختلاف الديني

سامي عبد العاليفترض (احتمال) الاختلاف الديني جوانبَ إنسانيةً ليست بالقليلة، لأنك ستعيش مع مَنْ ليس أنتَ بملء الاعتقاد. ستراه كياناً حُرَّاً متجسداً من لحم ودمٍ، ولا ينبغي في المقابل الالتفات إلى ماذا يعتقد. ولو حدثَ غير ذلك، ولم ترَ فيه إلاَّ اعتقاداً قيد الاستفهام، فلم تستطّع الاحتمال بعد. أنت ستحتاج إلى مراجعة إنسانيتك الحُرّة (لا المقموعة ولا المشوّهة)، وبخاصة أنَّ احتمالاً كهذا هو طاقة الإنسان على أنْ يكون إنساناً لا غير. حينئذ لن يكون الاختلاف من الناحية الدينية ممكناً فقط، بل حقاً وجودياً لجميع أصحاب الأديان والمذاهب، حيث نلتقي مع الآخر في ماهية الإنسان مهما اختلفت العقائد.

حجب الاختلاف الديني هو حجب الإنسان فينا قبل أنْ يكون في الآخر، إنه أحد درجات الإرهاب. ففي مجتمعاتٍ تفتقر للآفاق الإنسانية الرحبة لن تنقطع (حواضن الإرهاب) عن الانتاج، إذ يجد الأخيرُ فيها مرتّعاً لبث أفكاره وفيروساته الدقيقة. ومع كشف ظواهر العنف وتعريتها أمام النظر يبدأ بالتخفي عند الدرجة التي لا يُرى فيها. وإذا كانت التنظيمات الدينية قد أنتجت بعضاً من تلك الظواهر الصارخة، فالإرهاب يتلون بين الأفراد أيضاً ضمن مستويات اجتماعية وسياسية ولو باسم المجتمع والدولة. حيث يكون آلية ثقافية ليس أكثرها بين أصحاب الأديان وحسب وإنْ كان يعد في إطار الدين أوضح نشاطاً وتأثيراً.

لأنَّ بعض المجتمعات (هكذا بصيغة الجمع تبعاً لنمط الحياة) تختار الانتماء غير المقنَّن إلى الماضي (العادات والتقاليد والموروثات) فيما تفعل، لدرجة إغفال المستقبل. وقد يشكل ذلك الوضع صوراً راسخة تجاه المختلفين دينياً، لكن تكرار العملية يجعلها نمطاً عاماً يصعب نقده من الجذور. عندئذ يختلط (الارهاب والمجتمع) ليتشكل "غطاء ثقافي" يُمرّر أيَّة أعمال عنف. وكان ذلك هو السر وراء انتشار آراء مشايخ التطرف ودعاته بكافة المجالات من الأسرة إلى المجتمع حتى الدولة ومؤسساتها.

وللأسف ما زالت هذه الآليات والجذور واحدة، فقط تتغير الأشكال وتتفكك الجماعات والتنظيمات بطريقة مأساويةٍ بعد مراحل الصراع المادي، غير أنَّ النمط الفكري مازال جارياً ولديه القدرة على انتاج فصائل جديدة كلما تهيأت الظروف. إذ غدت الحالة الثقافية في وضعها العام بديلاً للمعرفة والفكر المفتوح. وإذا دققنا الأمر، فليست الآراء هنا أو هناك بمعطى التنوع ووجهات النظر على ما يشير المعنى، إنَّما هي بدائل أكثر عنفاً لهيمنة الشروح الدينية (التفسيرات والمذاهب والايديولوجيات والفتاوى والنصوص) على حياة الإنسان حتى (بالنسبة إلى مختلفي الديانة).

كونّت الشروح طبقة عازلة من "التحريمات" أمام أي تغير جديدٍ. ولم يكن وجود نمط المشايخ على هامش الواقع، بل اعتبروا أنفسهم مركزاً لكل حياة سواها. مما كرَّس بالاحتذاء والتماثل توجُهاً سياسياً ودينياً (واحداً) داخل المجتمعات العربية بوضوح. تكمن في جوفه دجما صارمة حول علاقات الأفراد وتصوراتهم والمواقف من الحياة والعالم. لقد أمسى الاختلافُ الديني والتنوع الثقافي أمراً عسيراً مثل الجحيم. التنوع الديني لا مكان له... كنباتٍ انبثق فجأةً في صحراء قاحلة. فعلى أصحابهما أنْ يتلقيا الضربات القاتلة والتمثيل بهما وفوق ذلك ضياع المسؤولية عن الفعل.

مع أنَّ الاختلاف الديني أمر تلقائي ولا يثير أية غرابة من الأساس (هذا مسلم وذاك مسيحي وبخلافهما هناك اليهودي والبوذي والهندوسي... وهكذا). ليس رجوعاً إلى أصل قابل للتقديس، إنما بحكم ثراء التعبير البشري عن الوجود. وثمة فارق بين التناقض والاختلاف من هذا القبيل. فمعنى الاختلاف أنه لا يحدد غطاءً جامعاً للمختلفين في الاعتقاد كما أُشير إليه. لأنه أمر قائم بحد ذاته اعترافاً بحق الإنسان في الايمان بما يشاء وقتما يشاء إلى غاية ما يشاء!! خارج الأُطر الحاكمة التي تحدد: من يعتقد، وماذا يعتقد، وكيف يعتقد؟

وحتى فعل التحديد من حق الإنسان ألاَّ يتجاوزه أحدٌ أو يتطفل عليه أو يتنطع به. فالاختلاف الديني يصون حدوده بحكم التعريق والمعنى. عندما يعرف انسان (مهما تكن معتقداته) أن الآخر مختلف دينياً، فعليه ألاَّ تكون المعرفة وفقاً لما يتوهمه. إنما بحسب ما يكون (الآخر بألف ولام التعريف) كما هو كذلك، فلا يكتسب الآخر ماهيته من الخارج. ولهذا سيعتبر المختلف دينياً كائناً مستقلاً تمام الاستقلال بخلاف أي تنميط. لأنَّ التنميط يفترض سلطة الاقصاء والعسف بوجوده كأنه لون من ألوان التنكيل وتحجيم حريته. وتبدو حتى الاشارة إليه لون من التصنيف القائم على (استدراجه ضمنياً) لتصورات لا تعترف به.

من جهة أخرى يُخطئ من يبرر الاختلاف الديني بأية مرجعيات أيديولوجية، لأنه بطبيعته لا يخضع للتبرير. وليس مطلوباً من أصحابه القيام بالتبرير إلى سواهم كما لو أنهم يقدمون جرداً اعتقادياً للعقل وإيمانياً للقلب والعاطفة. لو بُرّرَ الاختلاف الديني لكان قمينا بالفشل من أول وهلةٍ، ذلك بتوجيه التشوه إلى نفسه. إن وجود الاختلاف الديني بمثابة السبب الكافي لتبريره على وجه الأصالة. وأكثر من هذا، إذ ليس من شأن أي سلطة التحرش به أيا كانت. فلو استند أي تبرير إليها سيكون مجالاً للعنف، وإذا خضع لها، لن يصبح اختلافاً، لكنه سيكون وصاية. وما لم يُفهم أي اختلاف في المجتمعات على هذا النحو، فسيكون الاجتماع مشروعاً فاشلاً على وجه الإجمال.

هنا يصبح السؤال (لماذا يستهدف الارهاب المسيحيين؟!) كاشفاً، إن لم يكن استفهاماً فضائحياً إلى درجة العار. فالمساس بالمجتمع كمن يمس جسداً أنثوياً محرماً تحيطه اللعنات من كل جانب. حدث ذلك الصراع تجاه المسيحيين في العراق وسوريا ومصر وليبيا بشكل هوسي مسعور. كأنَّه لا يوجد سوى المسيحيين في المجتمعات المذكورة للتنكيل بهم. ولا يعني ذلك تحريضاً مقبولاً من أي نوع على سواهم. لكن بسبب أن المسيحيين ضحايا دائمين تحت أي انفجار سياسي أو عقائدي أو اجتماعي حتى بين العائلات والطوائف. طبعاً كلُ حالة عنف تختلف عن الأخرى، وفي الوقت نفسه تشارك عوامل سياسية في إثارة الصراع واستعماله لمصالح خاصة.

إضافة إلى أنَّ ذلك الأمر أمرٌ بارز، لكون المسيحيين أكبر الكتل الاعتقادية بعد المسلمين في المجتمعات العربية الاسلامية. وإزاءهم يحاول الاسلاميون المؤدلجون التميُز بخلافهم خوفاً من مخالطتهم. وفي هذا أوصى بعض الشيوخ بحتمية تلك المخالفة في الأعياد والأزياء والسلام وإلقاء التحايا وأساليب الكلام. حتى يبز المسلم غيره من أصحاب الديانة المسيحية في كافة التفاصيل. ومن ثم كان المسيحيون أهدافاً قريبة لتفريغ شحنات العنف في اجسادهم ومؤسساتهم ودور عبادتهم العارية من الحماية. وقد أتاحوا كمنتمين إلى المسيحية فرصاً للإسلاميين لأجل إعادة تشغيل نصوص القتل والجهاد وقهر الكفار ومجانبة الضالين والمشركين. كيف ستعمل نصوص دينية لم تظهر مبررات سياقها وتطبيقها الآن؟!

أما بصدد اليهود واليهودية، فقد استطاعت اسرائيل- كمركز لليهود المعاصرين- أن تمتص نحوها كراهية العرب والمسلمين. فهي دولة قد شجعت هجرتهم إليها حيث غطاءها العسكري والسياسي. وبذلك احالت دون بقاء اليهود في مناطق الفرز الديني عربياً. ومنعت هؤلاء اليهود من العيش وجهاً لوجه أمام الاسلاميين المؤدلجين، ودشنت جداراً عازلاً من الحماية الغربية لكيانها المتصهين. وبالتالي كان على الاسلاميين لينالوا من اليهود المرور بمصفاة القوى الدولية. وهذا ما لم يحدث تاريخياً حتى الأمس القريب . فخطاب الاسلاميين الدموي ظل ينال من الأفراد. بيد أنه إزاء الدول يستعمل عبارات الكراهية والعداء المطاطة. الغرب الكافر، أمريكا الكافرة، أوروبا الماجنة ليس أكثر. ويعتبرها أوصافاً كفيلة باصطياد أحد رعاياها فوق اقليمها. وحتى هذا لم يتم بخصوص اسرائيل... لا بالداخل ولا بالخارج.

فنحن نعرف أنه مع احداث الربيع العربي الدامية لم يطلق الاسلاميون رصاصةً واحدة على اسرائيل ولا بعد كل الاعتداءات الإسرائيلية على فلسطين من حين لآخر. وأية اعتداءات هذه التي ننتظر وقوعها في حق الفلسطينيين بينما تغتصب اسرائيل الأرض والسماء ولكل ما ينتمي لفلسطين؟! بل صرح بعض قادة اسرائيل أن تنظيمي الدواعش والقاعدة يقدمان خدمات جليلة للدولة اليهودية أكثر مما يقدم سواهم!! وأخذوا يتباهون بكون دولتهم تعيش نموذجاً في التسامح يفوق برك الدماء حولها سواء بسوريا أو العراق أو ليبيا. واعتبر قادة اسرائيل أنهم مجتمع مضطهد وسط الركام البشري العربي المتناثر على الحدود. وظلوا يتصايحون (مع زيارات رؤساء العرب إلى قبلتهم الأمريكية) بضرورة الالتفات نحو حالتهم الساكنة والوديعة. ومن قبل كانوا أيضاً يعتبرون أنفسهم مثالاً نموذجياً في الديمقراطية بخلاف جميع العرب. وكلما صوبت إليهم رصاصات أو قنابل يدوية لو فارغة كانوا يسوقوّنها كإبادة جماعية للدولة العبرية. وأنَّ الأخطار تحيق بكل يهود العالم من كل جانب.

وللدقة ظلت تلك الاستراتيجية السياسية ناجعة تماماً في تحويل الأنظار عن الاحتلال والقتل اليومي للفلسطينيين وزحف الاستيطان وابتلاع القرى والأحياء. وبهذا بدا التخلص من فائض الدماء المجاور لدى الفلسطينيين شيئاً مقصوداً في حالة اسرائيل. فمن حين لآخر تلجأ دولة الاحتلال إلى الاغتيالات وتصفية عناصر المقاومة في أي مكان، وأخذت تضع الفلسطينيين تحت المراقبة الدقيقة طوال الوقت. وفي هذا، كانت تختلق اسرائيل (أحداث عنف) لجس نبض المقاومة الفلسطينية ومعرفة إلى أية درجة وصلوا في تصنيع الأسلحة والصواريخ وتطوراتها.

وأكثر من هذا بصدد الإرهاب، فلربما استطاعت اسرائيل اختراق التنظيمات الإرهابية لتعيد استعمالهم من الداخل. كما أن الارهابيين مصابون بـ"عمى جهادي" واضح (معلنين أن المرتدين الأقربين أولى بالتفجير). لذلك رفعت التنظيمات أن التخلص من العدو القريب أولى من العدو البعيد، معتبرين أن العدو القريب هو العائق أمام تحرير المسلمين. وقد كرست الولايات المتحدة مفاهيم الجهاد وغذتها بالأسلحة والخطط على أساس أن النفايات البشرية والأيديولوجية القذرة من تلك التنظيمات يجب أن يتم حرقها في مواقعها. فلتكن مناطق الجهاد هي البيئات المحلية للإسلاميين. من خلالها تصح أن تتسع ساحات المعارك كمقابر ومحارق كبرى للتخلص من الجهاديين. ومنها تأمين الدولة الصهيونية على الحدود من خطوط التماس. وكذلك استثمار جغرافي لاستعمال الجهاديين في خلخلة البلاد العربية واشغالها بمشاكلها المحلية.

لكن بالعودة إلى مسألة التمييز الديني سنجد أن قتل المسيحيين العرب يرجع في الأغلب إلى موروثات دينية سلفية تضرب أي اختلاف عقائدي في الصميم، وتحجب الواقع بفتاوى التكفير التي أضحت جزءاً من المسلمات الشائعة كما أشرنا. ونحن ندرك أن بعض النصوص والأحاديث الفقهية لدى المسلمين المتسلِّفين ليست مجرد لغة. فهي كائنات من لحم وشحم تتحرك بين الناس إلحاحاً عليها في الخطابة الدينية والعلاقات الاجتماعية والتعليم والكتابات الدينية العامة. إنَّها لدى المؤدلجين ترصِّع المباني والصحائف وتهيمن على تداول الخطابات في المناسبات والأعياد. وهي بحكم توجهها المنحاز إلى هيكل عقيدي اسلامي مؤدلّج تفرز الناس في التعاملات اليومية من جهة الانتماء الديني. لدرجة أنَّ الآثار التي يتركها سماع بعض النصوص المقدسة كفيل بمعرفة أية ديانة يعتنق المستمع.

فكلما رأى هذا الإرهابي أو ذاك مسيحياً سرعان ما يرفع عواءه، كأنَّه رأى شيطاناً مارقاً متمتماً بجميع كلمات الإستعاذة من الشيطان الرجيم. وفي أحسن الأحوال النادرة جداً، يأخذ بحك (هرش) جلده أينما تقع أنامله خلال هذه المواقف الفارزة للأديان. وإذا صافحه مسيحيٌّ اعتباطاً في أي مكان عام، ظلت آثار السلام تأكل كف راحته إلى أن يغسلها مسرعا بإزالة الأذى. ولئن أفلت المسيحي من هذه الاجراءات الاحترازية، كانت حياة الأخير وحركاته وسكناته وهمساته ومساراته علكّة في أفواه متابعيه. يبقى دوماً تحت المراقبة على مدار الساعة: كيف يتصرف هذا الكائن الغريب؟ لماذا يبتسم بهذا الشكل أو ذاك؟ هل يذهب إلى الكنيسة أم لا، وماذا يتعلم فيها ؟ ألاَ يكون منافقاً في كلامه إذا بادر بالسلام على المسلمين؟

إزاء هذا نحن نحتاج نقداً عقلانياً يومياً واسع التأثير لممارسات المجتمعات العربية تجاه المختلفين في الدين. لحظةٌ بلحظةٍ... وسلوكٌ بسلوكٍ... وإشارةٌ بإشارة... وإيماءة بإيماءة، فكل ذلك يخفي تجاه قضايا الاختلاف الديني والمذهبي أبعاداً غائية تحتاج تطهير ونشر قيم التنوع والتعددية فيها. لعلنا نفهم حركة الناس وخشونة تصوراتهم عبر الأديان. ومع ينطلق على المسلمين ينطبق بالمثل على المسيحيين واليهود إزاء المسلمين.

صحيح أن الناس العاديين غارقون في تغليب الاقصاء وتأجيج الكراهية. لكن التربة (الأرضية) مشبعة بالاثنين لدرجة الاحتقان والتشفي في قتل المخالفين دينياً. كانت وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي تتقاذف مشاهد الدماء في الكنائس المصرية كأنها آتية من كوكب القرود، بينما تبدو الحياة تلقائية في الشوارع الجانبية لمواقع التفجير كأن شيئاً لم يكن.

وتباعاً في هكذا أحداث كانت برامج التلفاز تغص بمظاهر الرقص والتسلية والغناء. ثم سرعان ما ينكفئ الناس على همومهم اليومية خارج سياق التغيير. لعلَّ أكبر الكوارث في حياة العرب المعاصرين هو تنازلهم عن تغيير الأوضاع القائمة، هو الرضا الأبله لدرجة السذاجة حول ممارسات القوى الغالبة في المجال العام. ماذا سأفعل؟ .. هذا هو السؤال الذي كان يردده كلُّ راءٍ للصور لا عقاً الحسرات!!

لا مبرر للصمت الثقافي تجاه جرائم الارهابيين. حتى وإن سمعنا اعتراضاً طائشاً من هنا أو تنديداً مقصوداً من هناك. كلام السياسيين ممل لدرجة اللعنة. والمثقفون يعوزهم نظرة أرحب للمجتمعات ومعرفة آليات التاريخ في تشكيل الوعي. كما أنهم مازالوا يتسلقون الأسوار ليلاً، أسوار الدين، اسوار السياسة، أسوار المجتمع لقنص المكاسب والأرباح المؤقتة، ثم المرور كالجعارين ثقيلة الحركة بجوار الجدران (المشي بجوار الحيط). فلم تُطّعم ثقافتنا إلى الآن بمفردات جديدة ولا بأفكار مختلفة لاستزراع التسامح والتعايش.

أولاً: كراهية الأديان

مرت إشارة إلي فراغ جراب الاسلاميين من الجانب الدنيوي. وبهذا تعتبر تلك المساحة الفارغة من الوعي لصيقة بالأيديولوجيا حين تخلي الرؤى إلاَّ من سواها. فليس أكثر من الالتصاق العضوي والفكري للعقول والأجساد داخل الجماعات الاسلامية. حيث يتصورون أنهم يستعيدون تجربة السلف الصالح، هذا الجيل الأول الأكثر صفاء بحسب اعتقادهم الخارج لتوه من صراع الواقع. كثيراً ما راقبنا تلك الحشود تحت رايات الجهاد طوال التظاهرات الدينية الربيعية. لا فوارق بينهم في الشكل والتكوين والفعل.. فقط هناك القرين بجوار القرين!!

هذا الالتحام تتم تقويته دائما بالكراهية تجاه الأغيار. ودائرة الأغيار تبدأ بالمختلف فكراً ثم المختلف تنظيما ثم المختلف ايديولوجياً وصولاً إلى المختلف دينياً. وطالما هم على دائرة الأغيار فالأمر بحسب الموقف يمكن أن ينطلق العداء من أية نقطة وصولاً لنقطة قريبة أو بعيدة كما أن الدائرة توفر مسافة واحدة من هؤلاء المختلفين. لقد شاع بين المؤدلجين القول الشهير: ليس منا (نحن المسلمين) منْ لم يحب في الله ويكره في الله.

والقطبان (الحب × الكراهية) يحكمان طرائق التفكير وأساليب الحياة. فهما علاقة عمودية وليست أفقية فحسب. قيل إن أعلى درجات الإيمان الحب في الله والبغض في الله، وإنَّ المسلم يؤجر في الحالين مع أن الحب والبغض قد يتحولان إلى مسارب أخرى تخص التغيير وتجويد الحياة والتطور. لأنَّه يحب ما يرضي ربه ويكره ما يكره ربه بحسب غايات واخلاقيات سامية. لكن يبقى السؤال الوثني هناك: ما هو المحبوب وما هو المكروه عينياً؟ هنا تتدخل الأيديولوجيا الدينية لتحديد المختلف. ويجري هذا بالإجابة التي يفترض أنْ تتجسد في كيانات محبوبةٍ أو مكروهةٍ.

ثانياً: التنوع

في جو مشبع بالكراهية على أسس دينية لامجال للتنوع. وبخاصة أنَّ تاريخ الاسلام السياسي لم يكن تاريخاً فردياً بما يشي بالحرية والمسؤولية، بل يحتوى على جماعات وتنظيمات أشبه ما تكون بأحجار الدمينو. هذا التاريخ لم يعترف بالتنوع إلاَّ ضمن خانات أخرى من التصنيف الاجتماعي أو الديني. ولذلك لا يقوم شخص متمتعاً بكامل المسؤولية الفردية بأي عنف ديني. لأنَّه يستطيع الشعور بفردية الآخرين في المقابل. دوماً كان الانخراط في جماعات يؤجج غرائز القطيع ويثير النعرات المذهبية ليجر وراءه نبذ الأديان المخالفة. وهذا ينهض على نفي أي تنوع، لأنَّه يؤدي إلى تشويه الآخرين. فإذا كانت الجماعة متكتلة عضوياً ملتحفة بالطقوس والشعارات، فلا ترى سواها إلاَّ في إطار كتلة بالمثل.

والأيديولوجيا الدينية تعمل على استبعاد التنوع ولو كان هامشياً وإلاَّ لما انتجت أحادية الرؤية والفعل ولما رأينا هؤلاء الانتحاريين (كأنَّهم حمر مستنفرة فرّت من قسورة). بل حتى الاسلاميين ذاتهم يعتبرون التنوع النفسي نوعاً من وسوسة الشيطان. والدعاء ليس بعيداً: "اللهم يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على إيمانك" مع كل خاطرة غريبة ولو كانت حسنة. والقصد هنا ليس ايماناً خالصاً، لأنه لا يوجد هذا الإيمان الخالص طالما كان في جوف الإنسان. إنما المقصود هو طريق الخير الذي عرفوه خلال التنظيم الجماعي الذي ينخرطون فيه.

إن التنوع بالنسبة للدين ليس ترفاً يمكن الاستغناء عنه في أية مرحلة من المراحل، لكنه أساس التدين. المشكلة أن المعتقد الخاص بصاحبه غير قابل للمناقشة عادة ولاسيما في الثقافات الشرقية. لأن المعتنق له يعتبره مغلقاً على ذاته ولا يطل خارجه إلاَّ للعنف عادة. معنى كلمة الشرق غدت عنواناً على سيادة الرأي الواحد والسلطة الواحدة والحقيقة الواحدة رغم أن الواقع عكس ذلك تماماً. فيأتي الدين بمثابة الغلاف الكلي الذي يضم هذه الأغلفة السابقة. إنه يعلن عن نفسه عبر نواة تخرج عن التاريخ. وأكاد أجزم أنَّ الاسلاميين المؤدلجين لا يتصورون (مجرد التصور) أنَّ هناك أناساً سواهم لهم مواقف ومعتقدات مختلفة.

التنوع الانساني شأن ثانٍ هو الآخر في تلك الخريطة. كيف لمن لا يرى سواه ولو قابله يومياً أن يعتبره تنوعاً؟ إنَّ قضية التنوع (إلى حد التناقض) بمثابة الثراء الإنساني نفسه. لأنَّ انساناً دون تنوع (المغاير) ليس إلاَّ صورة للموت، وهذا أحد أسباب خطوة التفجير نتيجة حزام ناسف أو قنبلة. لأنَّ التخلص من المتنوع المغاير لا يتم إلاّ بالأنا المماثل إلى درجة الجنون. وطالما يختفي التواصل الحر فلا بديل سوى القتل.

ثالثاً: الحقيقة

ينعدم الاختلاف الديني حيث تكون الحقيقة محتكرة سلفاً. وطبعاً توحد الأيديولوجيا الدينية بين الحقيقة والأشخاص كأنهما شيء واحد. فالآراء المتغيرة لا مجال لها وغير مطروحة. إن أخطر ما يرسخه الاسلاميون هو أن الحقيقة تمثل جسداً حياً، تنطق بنطق صاحبها وتأفل كلما أفل. ولهذا كان أبرز ما يميز الجماعات الاسلامية هو التقديس الروحي والعضوي للمشايخ. المظاهر والرسوم الشكلية مثل (اللحى وعلامة الصلاة) في هذا الإطار جزء من العملية. ناهيك عن الفتاوى والترميز إلى أهمية المشايخ لسريان تعاليم الدين وصحتها.

لا حقيقة كما قد يتصور البعض لدى الأيديولوجيات الدينية. فالحقائق مطلقة بقد ما تصوغها العاطفة ولم يعد ممكنا إدراكها كموضوع انساني. وهي كم من الاسقاطات المجازية والاستعارية التي تجر بعضها البعض كأنها عربات قطار سائر قديماً بطريق الحرير الشهير. كما أن المؤدلجين يدفعون الحقيقة للعودة إلى ذات الأيديولوجيا، لأن اليقين مرشوق فيها سلفاً. والحقيقة نفسها ليس مختلفة في تلك الذهنية، بل هي ماثلة في دماغ مطلق يتحرك به المجموع (التنظيم). وبذلك فإنها توجد على مستوى أسطوري غير قابل للنقد. إنما يكون التصديق نتيجة عوامل أخري. يشترك فيه الواقع والخيال، الوهم والفعل، الغائب والحاضر، المقدس والميتافيزيقي والمدنس والدنيوي.

رابعاً: السياسة

يحتاج الاختلاف الديني حياة مفتوحة بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، لأنَّ التسييس أمر يجر ويلات التحارب الأيديولوجي. وتلك الحياة يجب أن تكون كذلك شريطة أن يصبح سياق الاختلاف غير ديني. أي أنه سيفقد المرجعية الواحدة ثقافياً (لا دينياً) التي يستند إليها في خصوصيه. فلا يصح التعامل مع الآخر بناء على مرجعية هو ينتمي إليها من قبل. وكذلك لا يجب التعامل معه على أساس الاعتقاد الديني، مثل الاسلام السياسي الذي لا يري غير عقيدة المسلمين هي الأصح بينما ما سواها يذهب إلى الجحيم. والمسألة أن تغليب المرجعية عقائدياً لا يزاحم المعتقدات الأخرى بل يهدم المجتمعات من حيث المبدأ.

الأهم هو: كيف يكون ثمة مجالٌ عام يقبل هذا التنوع بشكل ثري وحر؟ للأسف كان مفهوم الدولة في المجتمعات العربية جهازاً مشوهاً. لأنها تهادن التيارات المتشددة الغالبة في مواقع التدين والمنافحة عن الوجود الاجتماعي. ولأن تلك التيارات تتداخل مع معتقدات اجتماعية أتاحت لها حركة أوسع في باطن المؤسسات والمرافق الحيوية. فالسلفية المتشددة – مثلاً- ليست جماعة، إنما تقاليد دينية تحرِّض على استئصال المختلفين عقائدياً. ومن حين لأخر تطلق فتاوى "التكفير الناعم" في صور مختلفة، فيأتي القتل ترجمة دموية لا تُخطئ الهدف.

 

سامي عبد العال

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم