صحيفة المثقف

مجدي إبراهيم: ميثم الجنابي.. وداعاً رجل الفكر والقلم

مجدي ابراهيمحق على "المثقف" أن تحزن ما بقى حزن الفراق يدمي قلوب المحبين، وحق علينا أن نعبّر عن هذا الحزن بأسفِ شجيِّ في لوعة مخامرة. أنا شخصياً ما يحزنني شئ قدر ما يحزنني أن تسقط فجاءة ثمرة يانعة من شجرة المعرفة الإنسانية، وبخاصّة إذا كانت هذه الثمرة لها شذى ورحيقاً قل أن يجارى؛ إذ تسكب أريجها الفواح عطراً بغذاء العقل على الإنسانيّة، ناهيك عن غذائها الدائم قوتاً للقلوب بألوان المعارف العليا. سقط القلم الذي كان وراءه عقل مفكر وقلب ينبض بالإخلاص، وضمير يقظ يحمل لأمته ما يحمله لها المخلصون من أبنائها العرفاء. إنسان تترقى فيه جوانبه الإنسانية مع المعرفة، وباحث على الأصالة في شتى صنوف الأفكار التي تخدم قضايا الثقافة العربية، وناقد يكشف ميزان النقد لديه عن ثورة باطنة يزكيها العمل الدائم في إطار من القيم المثلى والقناعة العقليّة بوجوب ما يرى تطبيقه في واقع حضاري يعرف ماضيه ويرقب مستقبله.

لم يكن "ميثم الجنابي" فقيد الثقافة العربية مُجرّد كاتب وكفى؛ بل كان مفكراً أصيلاً له رؤيته تجاه القضايا التي يتناولها بالبحث والدراسة، يقف معها وقفات نقدية بُغية إصلاح ما اعوج منها وتطلعاً إلى ترقيه ما ثبتت قيمته منها على مر العصور كيما يلتمس وحدة الروح الحضاري والإنساني داخل هذه الثقافة، وله أن يختلف مع بُعدٍ أو أكثر من الأبعاد التي يرى فيها الاختلاف واجباً من واجبات القلم الناقد والعقل المفكر، ولكن مع كل اختلاف في رأي أو فكرة تبريراً مشفوعاً بالدعائم المؤسسة على القناعة العقليّة يقدّمه وهو يستند على الأسس النقدية معالجة ومثاقفة، غير أن نقده لم يكن بالهادم في غير بناء ولم يكن تقويضاً لفكر مثّل حضارة ولا يزال بل كان تقييماً محيطاً عالماً برزايا السلب ومزايا الإيجاب.

حين طالعتنا "المثقف" بخبر وفاة الأستاذ الدكتور ميثم الجنابي أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة موسكو صباح يوم 18 / 7 / 2021م، صدمنا الخبر صدمة مؤسفة، فللرجل أياد بيضاء على الفكر العربي، وله جهوده المميزة على ثقافتنا العربية، وإن كانت كتاباته قد أثرت المكتبتين العربية والروسية بأعماله الفكرية والفلسفية كما أثرى صفحات المثقف بعدد كبير من الدراسات.

وميثم الجنابي، كما قالت "المثقف"، من مواليد مدينة "النجف" الزاهرة في عام 1955م، وخلال الفترة من عام 1975م إلي 1981م حصل علي البكالوريوس والماجستير من جامعة موسكو الحكومية، كلية الفلسفة، وفي عام 1985م حصل علي دكتوراه الفلسفة من نفس الجامعة، وفي عام 2000م نال رتبة الأستاذية، وهو الآن رئيس مركز الدراسات العربية في الجامعة الروسيّة، ورئيس تحرير مجلة (رمال) والتي تعنى بالشؤون الروسية العربية في مجال التاريخ والأدب والفلسفة والفن والسياسة (بالعربية)، ورئيس تحرير الكتاب السنوي (الدراسات العربية)، موسكو، (بالروسية)، وعضو المجالس العلميّة. أما مؤلفاته فحدث ولا حرج، موسوعات ضخمة من الإنتاج الفكري الغزير في العقائد والأديان والتصوف والحضارة الإسلامية والفكر السياسي فيما لا يقل عن اثنين وأربعين عملاً علمياً.

نعاه الأستاذ "ماجد الغرباوي" بكلمات معبرة جداً عن شخص الفقيد: "فقدنا مفكراً كبيراً وعقلاً نقديّاً ومثقفاً موسوعيّا، صاحب رأي وموقف. رحم الله الدكتور "ميثم الجنابي" برحمته الواسعة. وإنّا لله وإنّا إليه راجعون. باسمي وباسم أسرة التحرير أتقدّم بأحرّ التعازي لأسرته الكريمة وأصدقائه ومحبيه. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم". لو لم أكن أنا أعد نفسي من بين أصدقائه ومحبيه ما كانت صدمة الخبر المفجعة تدفعني إلى استرجاع علاقة طيبة نشأت على صفحات المثقف في تبادل الرأي والرؤية بين اتفاق واختلاف ما أرقاها وما أسماها.

لفت نظري ما يكتبه في التصوف والفكر الإسلامي من مطولات على صفحات المثقف، ودخلت معه في نقاش، يُعلق على ما أكتبه، وأعلق أنا على ما يكتبه، ويجمعنا النزوع إلى التصوف، واختلف معه واتفق، لكن رقيّ فكره يأسرك، فتقرّ للوهلة الأولى أنك أمام مفكر كبير القدر، شديد النزوع إلى الصناعة، مفطور على حب المعرفة والنظرة المحيطة لكل ما من شأنه أن يخوض قلمه فيه.

لم يكن هول الفجيعة بمانع أن أقول تعليقاً عن خبر الوفاة وعيناي تزرفان الدموع إذ ذاك، ضاماً صوتي إلى صوت الصديق الأستاذ ماجد الغرباوي: رحم الله الفقيد رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته. كان طيّب الله ثراه، من الشخصيات الثقافية النادرة: ثقافة موسوعية، ورؤية نقديّة، ومواقف خاصّة بقلم يعي ما يقول. كانت لي معه مساجلات على صفحات "المثقف"، تبيّن منها طرحه الموضوعي ونظراته الثاقبة وتحليله العميق لقضايا الثقافة العربية. اختلافه معك يدل على عقل راجح، وعلى فكر ملآن بعبق القيم العقلية. مقنع لا يتحجّر ولا يتوقف عند محدود. ينقد وهو على قناعة بما يقدّم من مقبول الآراء. رحمك الله رحمة واسعة دكتور ميثم، وجعل أعمالك في ميزان حسناتك، وأنار بجهودك الفكريّة دروب الحياة الثقافيّة وأسبغ عليها القبول والرضى والدراسة والتحقيق. كم أنا حزين على فراقك غير أن أعمالك الباقية فيها السلوى والعزاء. طيّب الله ثراك وجزاك خيراً على صنيع قلمك بين خالدين .. وإنّا لله وإنّا إليه راجعون).

كانت لفتاته حول ما يقرأه لي في التصوف تسعدني، وتغريني بمناقشته والتحاور معه والتماس الأفق العقلي كمشترك نقدي مصدري، ففي دراسة نشرتها حول "فلسفة التخريج عند صوفيّة الإسلام" (المثقف، العدد 4565، بتاريخ 6/3/2019م)

https://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=935107&catid=202&Itemid=164

كتب يقول:

(عزيزي الدكتور مجدي إبراهيم:

بعد التحيّة

الدراسة جديّة وعميقة وأصيلة، مع أن كثيراً ممّا فيها يبقى مغلقاً لكثير من القرّاء.

ملاحظة:

في اعتقادي كان الأولى الرجوع الى "إحياء علوم الدين" للغزالي، وليس إلى "قانون التأويل" في ما يتعلق بآرائه ومواقفه بهذا الصدد. وللقضية إشكالات لا يكفي الوقت للتطرق إليها. إن قضية أو قضايا اللغة والذوق والمعنى والأسرار والتفسير والتأويل وعلاقة كل ذلك بالتجربة الصوفية ومراحلها وتجلياتها الخاصّة والمتهذبة في المقامات والأحوال غاية في التعقيد والجمال. وحبذا لو تتناولها بالدراسة والتحليل؛ فكثير أو أغلب ممّن كتب حول هذه القضايا لا يتعدى كونه معلومات وعبارات ظاهرية وفضفاضة، لأنها بلا ذوق! وطبعاً بلا معرفة ذوقيّة.

شخصياً كنت أخطط لبحث أو كتاب عن هذه القضايا تحت عنوان (اللغة والخيال المُبدع) عند المتصوفة، استكمالا لما وضعته في آخر القسم الثاني من كتابي (حكمة الرَّوح الصوفي) لكن الظروف والوقت لم يسمحا لي لحد الآن التفرغ له.

عشت ودمت

مع خالص الود).

وقد صدر "حكمة الروح الصوفي" في جزئيين، دار المدى، دمشق، 2001م.

وأرد عليه في حينه:

(سعادة الأستاذ الدكتور ميثم الجنابي:

تحية خالصة من القلب

أسعدتني طبعاً ملاحظاتكم السديدة، ولا شك ممّا ورد في هذه الدراسة يظل مغلقاً، كما تفضلت، على كثير من القرّاء إلا أن يكونوا من أرباب الأذواق.

غير أننا بقدر الإمكان نحاول التبسيط، لكن المعاني الذوقيّة كما تعلم سيادتكم عصيّة في الكثير ممّا ترمي إليه، ولكم قرأت لكم على صفحات المثقف الغراء ما توقفتُ عنده كثيراً وبخاصّة إذا مسّ "حكمة الروح الصوفي"؛ ونشط فيه الوعي العالي، فلا أقلّ من أن يقال فيه أنه مغلق على الوعي العادي، وليس في هذا ما يعيب. وقد تابعت دراستكم عن "الغزالي" فيما نشر من قبل، ولك الحق فيما ذهبت إليه بالرجوع إلى الإحياء، ولكن قانون التأويل في هذه الجزئية على وجه الخصوص أعمق من الأحياء، لأنه يعمد إلى مقارنات فارقة بين مفاهيم التأويل والتفسير، وأغليها مقارنات منطقية أصولية. أمّا التخريج؛ فلفتة ذوقية لها دعائمها في لغة الخطاب الصوفي لدى الغزالي ولدى غيره من صوفية الإسلام. ولكم أنا مشوّقٌ لقراءة الجزء الخاص باللغة والخيال المبدع لدى المتصوفة بعد الانتهاء من إتمام العمل وإتاحة الفرصة السانحة لإنجازه على بركة الله.

دمت أخا عزيزاً وصديقاً كريماً

خالص الود والمحبّة).

وهل إذا أنا قرأت اليوم مثل هذه الكلمات النورانية، نقداً وذوقاً، ألم يكن يدعوني للحزن وللأسف على فراق هذا العقل الكبير وهذا القلب الكبير.

لا حظ الصديق العزيز الأستاذ الدكتور "سامي عبد العال" أستاذ الفلسفة بآداب الزقازيق (مصر) في تأبينه ملاحظة منهجية موفقة فقال: كان الأستاذ المفكر "ميثم الجنابي" صاحب آراء ومنهجيّة رائعة وجريئة، وليس هناك من يستطيع أن يلّم بأطراف موضوعاته الدقيقة والمختلفة التي يطرحها مثلما يفعل تحديداً،

أتذكر عندما قرأت له - منذ سنوات - حول قضايا التصوف وعلم الكلام والفكر الإسلامي، كان يركز على تحليل خلفيات الأفكار، ويشرحها في آفاقها التاريخية والاجتماعية والسياسية، مازجاً بين الرؤية القريبة والبعيدة في آن معاً. وكان أحد أعلام العراق المعاصرين).

وهى عندي ملاحظة دقيقة لكل من يتابع كتابات الفقيد الراحل؛ فيرى نزعته النقدية سارية في أعماله الثقافية من قديم وحديث، ففي قضية طرحتها على صفحات المثقف بتاريخ 13/1/2019م، العدد (4513) بعنوان:" فلسفة الثقافة بين التخصص والشمول"،

https://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=933750&catid=323&Itemid=1234

جاء تعليقه البارع يكشف عن تلك المنهجيّة بمقدار ما يكشف عن ثقافته الموسوعية فيقول رحمه الله تعليقاً على المقال:

عزيزي الدكتور مجدي إبراهيم:

بعد التحية

مقال عميق ودقيق من حيث الفكرة وتأسيسها وتحقيقها. إنّ التاريخ الثقافي للأمم يكشف عن أن الثقافة الكبرى من حيث أصولها هي ثقافة موسوعيّة. بعبارة أخرى، إن الثقافة الموسوعية هي الأصل والاحتراف الدقيق هو الفرع، وكلاهما كلُّ واحد. إنها إحدى المرجعيات المتسامية للثقافة التاريخية ومصدر إبداعها المستديم. كما أنها تقدّم نماذج لما ينبغي القيام به. وكلما تتعمق أصول الثقافة بالمعنى المشار إليه كلما يكون الاحتراف تدقيقاً وتوسيعاً وتحقيقاً لأصولها الموسوعيّة. وكلما تفتقد الثقافة لهذه العلاقة وتطويرها؛ فإنها تصاب بالشلل أو الابتذال والابتهاج المثير للغثيان بالتقليد. عموماً إن القضية التي تتناولها هي إشكالية كبرى يقف أمامها العالم العربي في ظروفه الحالية حيث يسود فيه شبه الانعدام للاحتراف. من هنا كانت الصفة شبه السائدة للتطفل والتلزيق والتلفيق للمعلومات. باختصار؛ معلومات بلا معرفة، ومعرفة بلا عقل، وعقل بلا حكمة. من هنا جاءت مُهمة النقد الشامل لهذه الظاهرة وتأسيس البدائل. وقد تناولت هذه القضية قبل عقود بعدد من المقالات والكتب. كما سيصدر لي كتاب بأربعة أجزاء حول تحليل ونقد الفكر العربي الحديث والمعاصر الذي يحتوي على نقد منظومي بما في ذلك لهذه الظاهرة.

مع خالص الود

وكان ردي كالآتي:

سعادة الأستاذ الدكتور ميثم الجنابي:

خالص تقديري لشخصكم النبيل

معذرة لم أتبين هذا التعليق إلا في تلك الساعة التي أكتب فيها الرد عليه، وإذ أشكركم على تعليقكم أوافقكم تماماً على ما جاء فيه، وأتمنى قراءة كتاباتكم حول نقد مرجعيات الفكر العربي الحديث والمعاصر، أكرر أسفي على التأخير في الرد على تعليقكم الكريم مع خالص محبتي وتقديري.

ميثم الجنابي: الروح النقيّة والفكرة الجريئة والنقد الأصيل، ثلاث خصال تجتمع معانيها في قلم يعزف ثقافة ويشع معرفة وإيمان بنور العقل. في موضوع آخر نشرته بعنوان "كلمات من حروف الله" (المثقف، العدد، (4452) بتاريخ 13/11/2018م).

https://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=932285&catid=288&Itemid=601

واجهني بشهادة عزيزة عليّ وبخاصة فيما لو صدرت من متخصص له باعه الطويل في التعامل مع الأفكار العليا بفحص المكتوب بعيون ناقدة وبصيرة ذوّاقه قائلاً:

عزيزي الدكتور مجدي إبراهيم:

بعد التحيّة

نادراً ما أرى مقالات وأبحاث ودراسات في العربية المعاصرة، وخاصّة بين من يكتب وينشر على صفحات المواقع الإلكترونية من يجمع بين اختيار الكلمة ودقة العبارة وعمق المعنى. عشت ودمت.

ملاحظة: لا بأس لو يجري تحريك بعض الكلمات (الصوفية) ومصطلحاتها لكي يستطيع القارئ العادي أو الوسط من تلفظها وفهم معناها "الوسط". خصوصاً وأن لغة التصوف عميقة ودقيقة وعصيّة على فهم حقيقتها عند أغلب المتابعين لهذه المواقع

مع خالص الود).

وأرد يومها على التعليق قائلاً:

عزيزي الأستاذ الدكتور ميثم الجنابي:

خالص التحيّة والتقدير لسعادتكم

أثلج صدري كلماتكم الطيبة وملاحظتكم السديدة، وبخاصة وهي تأتي من باحث قدير وأستاذ متخصص له المصنفات العلميّة القيمة. يبدو كما يقال حقيقة إن القلوب عند بعضها، منذ شهور قريبة كنا نناقش رسالة عن "الهجويري" (ت 465هـ) فأحلت الباحث إلى دراستكم الممتازة عن تحليل كتاب الهجويري ومقارنتها اللافتة بشخصيات صوفية عديدة، وهي منشورة في إحدى المواقع الأمر الذي يتأكد معه بالفعل أن العلم رحم بين أهله.

دمت أخاً عزيزاً وعالماً جليلاً وأستاذاً قديراً

مع خالص محبتي وتقديري).

لم يكن العلم رحماً بين أهله وكفى، بل العروبة كذلك - كما كان يقول أستاذنا الدكتور زكي نجيب محمود - ثقافة لا سياسة، الثقافة في العربي هى الرحم الأصيل الذي يفرز التقارب المشترك. أما السياسة فتنافر وتباعد وصراع ممجوج. ولقد كان لميثم الجنابي العراقي كما كان لزكي نجيب محمود المصري هذا الهدف الأسمى الباحث عن مشترك التقارب من طريق الثقافة، وكلاهما مفكر عربي على الأصالة يضع هموم أمته فوق كل اعتبار متوخياً وحدة الروح العربي الثقافي.

2648 ميثم الجنابي

فلسفة التاريخ:

وفي سلسلة من الدراسات ثمانية كتبها الراحل عن ابن خلدون؛ إذ ذاك طرح موضوعاً بحثياً متشعباً عن "فلسفة العبرة التاريخية عند ابن خلدون" (المثقف العدد (4950) بتاريخ 25/3/2020م)

https://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=944655&catid=272&Itemid=630

 اشتبكتُ معه في حوار راقي هو أقرب إلى المناوشات المحبّبة إلى قلوب المتحاورين؛ فبادرته بسؤال بعد أن قرأت المقال استعداداً للمعركة الفكريّة قائلاً:

(حيّاك الله دكتور ميثم:

متابع أنا جهودكم الرائعة في هذه السلسلة، ومنهجيتكم في كتابتها، بدأتها بالهدم، وأعتقد أن الأجزاء القادمة هى بناء الفكرة التي أردت لها التشييد، هدمت السابقين ممّن قرأوا ابن خلدون، وبنيت قراءتك لا على أطلالهم الدوارس؛ بل من مصدر أردت أن يكون هو نفسه نقطة الانطلاق.

هل تسمح لي بالاختلاف معك في نقطة الهدم هذه؟

إذا كنت تسمح لي فأنا ذاكرها لك، وإذا لم يكن فالأمر بيننا ود وسماحة؛ فاختلاف الرأي لا يفسد قضية الود. فإلى لقاء بعد أن أسمع جوابكم ..

حيّاك الله وأبقاك).

وجاءني الرد فوراً:

(عزيزي الدكتور مجدي:

بعد التحيّة

(إنني أكثر ميلاً للنقد والاعتراض والاستفسار؛ لهذا يمكنك كتابة كل ما تريد. وسأكون سعيداً فعلاً بذلك.

بانتظارك، مع خالص الود).

وبدأتُ النقاش قائلاً:

(عزيزي الدكتور ميثم الجنابي:

كل التحية لشخصكم الكريم ..

ذكرتُ لك أن منهجيتكم تناولت نقطتين أولاهما الهدم ثم "البناء" فيما سيجئ تباعاً من سلسلة الدراسة. وأنا بدوري أعرض لابن خلدون أولاً كما عرضتم له. وفي هذا العرض يبدو من وجهة النظر ما قد يُستشف منه التركيز على فلسفة التاريخ مع ما قد أشرتم إليه في مقالكم السالف. هذه واحدة. أما الثانية فستكون منصبة على نقطة الهدم المنهجية، أرجئها لحين الفراغ ممّا أذكره في الجزئية الأولى.

 

عبد الرحمن أبو زيد ولىّ الدين بن خلدون، ولد بتونس، ويرجع أصل أسرته إلى حضرموت، كان لأسرته قدم راسخة في العلم والسياسة، الأمر الذي جعل ابن حيان يقول عنها: بيت ابن خلدون في أشبيلية نهاية في النباهة، ولم تزل أعلامه بين رياسة سلطانية ورياسة علمية، درس العلوم الدينية واللغوية والفلسفية والطبيعية والرياضية، وكانت تونس آنذاك مركزاً لعلماء شمال أفريقيا. تولي وظـائف حكومية فترة 25 سنة بدول شمال أفريقيا من سنة (751- 776هـ) وكانت فترة اضطراب سياسي.

وقد نسبت إليه الانتهازية في تصرفاته السياسية وإيثار الطُرق الملتوية في الوصول إلى مقاصده ممّا أدى إلى سجنه، وأنا من ناحيتي أحييك على سبر أغوار هذه النقطة ومعارضتها تماماً في مقالكم السالف.

رحل إلى الأندلس عام (764هـ) وقضى بها عامين يشهد غروب شمس الإسلام بها، وعاد إلى المغرب وقضى بها عشرة سنوات ووصل إلى مركز الحجابة لأحد أمرائها. تفرّغ للقرآن والتدريس بعد أن أصبح موضع ريبة كل أمراء الشمال الأفريقي. وقـد دوَّن في أربع سنوات من العزلة والتفرغ مؤلفة الشهير: (العِبَر) في قلعة ابن سلامة التي سُجن فيها من عام (776 - 780) ثم كتب (المقدمة) في خمسة شهور من عام (780 هـ )، ووصل إلى مصر عام (784 هـ) بعد أن سبقته شهرته إليها؛ فأحاط به الطلبة وتولى مذهب قاضي قضاة المالكية.

فُجع ابن خلدون في أسرته حين غرقت بهم السفينة أثناء سفرها إلى مصر للحاق به. وتأمر المتنافسون عليه بها مما زهَّده في منصب قاضي القضاة، ثم أدى فريضة الحج عام (789هـ) وزار بيت المقدس عام (801هـ) وقابل تيمورلنك عام (803هـ)؛ ثم نقح مقدمته وكتابه قبل زيـارته لمـصر وأهدى نسخة إلى السلطان برقوق. كان لأسفاره ومغامراته السياسية واتصاله بكثير من الملوك من النصارى بأندلس إلى ملك التتار بالشام فضلٌ في تكوين فلسفته التاريخية. توفى 29 رمضان عام (808هـ) الموافق 16 مارس عام (1406م).

هذا؛ ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى اهتمامات ابن خلدون العلمية والتي استخلصت من أثارة الفكرية، ومن أهمها نبوغه في فلسفة التاريخ فضلاً عن تأسيسه لعلم الاجتماع واهتمامه بالفلسفة والاقتصاد والتربية، وسأكتفي هنا بـ:

فلسفة التاريخ:

فالأصل في فلسفة أي علم من العلوم، فلسفة الدين مثلاً، أو فلسفة التاريخ، هو أن المادة من الدين أو من العلم الذي تتقدّمه كلمة (فلسفة) ثم يجئ النسق من الفلسفة. والنسق نظام عقلي يلم شتات المادة المتفرقة ويجمعها تحت وحدة عقلية ذات روابط مشتركة لا خلل في اتساقها ولا اعوجاج. ومن ثمّ، فقبولها في العقل أولاً من حيث اتساقها النظري هو مهمة الفلسفة كونها نسقاً.

تحديداً، معنى فلسفة الدين أن تكون المادة من الدين والنسق من الفلسفة كما هو الحال في فلسفة التاريخ: المادة من التاريخ والنسق من الفلسفة، أو كما هو الشأن في فلسفة اللغة، المادة من اللغة، والنسق من الفلسفة، أو كما هو الأمر في فلسفة الفن، المادة من الفن والنسق من الفلسفة. وهكذا، ولكن في فلسفة الدين على التخصيص لا يمكن، في تقديري، تجاوز حقيقة الدين ليتمّ ترقيعه من خارجه، بخلاف ما عليه من "مضمون" وخصوصيّة، فلا معنى لتلك المشروعات الفلسفية الزائفة برمتها ما لم تضع شرط المضمون الديني الذي تقوم عليه خصوصيّة العقيدة ينتسب إليها المدينون لها بالولاء، فوق كل اعتبار، فيكون كل تجديد لخطاب تلك العقيدة مثلاً قائماً من داخلها، تثويرها الباطن وحماستها الداخلية، أي من داخل مجموعة قيمها الثابتة التي تستند عليها، لا محاولة ترقيعها بخارجها مهما كانت نظريات الخارج جذابة تستهوي وتلفت النظر.

أمّا في فلسفة التاريخ قياساً على ذلك؛ فلم يكن الحال ببعيد عن هذا التَّصور؛ فلا غفلة مطلقاً عن شرط "المضمون" باعتبار النظر إليه (تحقيقاً) من حيث باطن الحقيقية التاريخية؛ فكما لم تكن هنالك غفلة عن شرط المضمون الديني ولا غيبة عن الأخذ به تقوم عليه خصوصية العقيدة ينتسب إليها المدينون لها بكل الولاء في حالة فلسفة الدين؛ فكذلك الحال في فلسفة التاريخ أن تجيء، ولدى ابن خلدون بصفة خاصَّة، منصبةً على باطن التاريخ؛ وأن يُوحي هذا الباطن بالتعليل لمبادئ الكائنات يعمل على تفعيله من حيث إنه هو أداة الكشف للحركة الباطنة المتغلغلة في مضمونه، فلا شيء يقع بالصدفة ولا تتحرك في الوقائع التاريخية وأحداثها حركة خارج إطار مضمونها أو بسبب قوى خارجية مجهولة، ولكنها تتحرك، ولا بدّ لها من أن تتحرك، غير أن حركتها في داخل إطار "المضمون" الذي يحتويها وفق قانونها الباطن وتبعاً للعوامل الكامنة فيها.

لقد تجمّعت في شخصية ابن خلدون العناصر الأساسية النظرية والعمليّة التي تجعل منه مؤرخاً حقيقياً - رغم أنه لم يولي في بداية حياته الثقافية عنايةً خَاصةً بمادة التاريخ - ذلك أنه لم يراقب الأحداث والوقائع عن بعد كبقيّة المؤرخين، بل ساهم إلى حد بعيد ومن موقع المسؤولية في صنع تلك الأحداث والوقائع خلال مدة طويلة من حياته العملية تجاوزت الخمسين عاماً، وضمن بوتقة جغرافية امتدت من الأندلس وحتى بلاد الشام.

فقد استطاع، ولأول مرة، (إذا استثنينا بعض المحاولات البسيطة هنا وهناك) أن يوضح أن الوقائع التاريخية لا تحدث بمحض الصدفة أو بسبب قوى خارجية مجهولة، بل هى نتيجة عوامل كامنة داخل المجتمعات الإنسانيّة، لذلك انطلق في دراسته للأحداث التاريخية من الحركة الباطنة الجوهرية للتاريخ.

ما هذا يا دكتور ميثم؟ وكيف تفسّره؟ أنا أنتظر ما عساه يهمني من رأيك؟

فعلم التاريخ ليس سرداً للأحداث وللوقائع، وهو إنْ كان (لا يزيد في ظاهره عن أخبار الأيام والدول) إنما هو كما يقول ابن خلدون:" في باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، لذلك فهو أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يُعَدَّ في علومها وخليق".

وقد ذكرت سعادتك هذا النص في المقال الأول. لكن ما وددتُ أن يكون هناك فصل بين المنهج العلمي في كشف أحداث التاريخ وعقلانية النظرة، لأن العقل كما تعلم سعادتك لا ينفصل عن العلم؛ بل العقل هو الذي يفرز العلم ويقوم الثاني عن الأول ضرورة. لكن علميّة ابن خلدون لم تكن مستقاة من مصادر فلسفية سابقة غير الشواهد والملحوظات ترتد في النهاية إلى عملية الفرز العقلي، وقد يسميها البعض علمية تجازواً بمقررات ما كان توصّل إليه.

لم يكن بالمطلق ناقلاً كما نقل الفلاسفة قبله عن اليونان، ولم يكن شارحاً أو معقباً كما شرح ابن رشد وعقّب على أرسطو، وتصرف في آرائه؛ بل أعمل ابن خلدون نظره العقلي وقواه الباطنة وتأملاته الذاتية فيما أراد التوصل إليه. وهذا فيما أرى سرّ تفرُّده ومصدر عبقريته، وقوام إبداعه الذي صبر وأحسن الصبر عليه.

فهو بذلك قد أتبع منهجاً في دراسة التاريخ يجعل كل أحداثه ملازمة للعمران البشري وتسير وفق قانون ثابت. وحين يعرض ابن خلدون لما تناوله المؤرخون السابقون عليه كالطبري والثعالبي والمسعودي يحلل الأخبار التاريخية في ضوء المعطيات التي توصل إليها من خلال الممارسات الاستقرائية والعلل العقلية، وينتهي إلى أسباب الخطأ الكامنة وراء ممّا يذكر مما تناوله المؤرخون؛ وهو في هذا كل يقدم فلسفة نقدية واعية فهو لا يقبل التشيع لرأي من الآراء أو نحلة من النحل تجعل النفس تميل إلى تصديق ما يوافقها من الأخبار. وهو لا يثق بناقلي الأخبار دون التمحيص الذي يؤدي إلى التعديل والتجريح في المنقول من الروايات أو ما يعرف عن رجال الحديث بعلم الجرح والتعديل. وهو لا يذهل عن مقاصد الأخبار، فإن ناقل الخبر كثيراً ما يروي الخبر تبعاً لما في ظنه وتخمينه، ففضلاً عن توهم الصدق بسبب الثقة في الناقلين؛ فهنالك يقع التكذيب. وإنه ليجعل من التمييز بين الحق والباطل قانوناً بمقتضاه يكون النظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران ونميز ما يلحقه لذاته وبمقتضى طبعه وما يكون عارضاً لا يعتد به وما لا يمكن أن يعرض له، ثم يحكم بأننا إذا فعلنا ذلك، عُدَّ ما فعلناه قانوناً لنا في تمييز الحق من الباطل في الأخبار، والصدق من الكذب بوجه برهان لا مدخل للشك فيه، وحينئذ فإذا سمعنا عن شيء من الأحوال الواقعة في العمران علمنا ما نحكم بقبوله ممّا نحكم بتزييفه، وكان ذلك لنا معياراً صحيحاً يتحرى به المؤرخون طريق الصدق والصواب فيما ينقلونه.

هذا منهج علمي تقوم عليه فلسفة التاريخ. وهكذا فهو وإنْ لم يكتشف مادة التاريخ فإنه جعلها علماً ووضع لها فلسفة ومنهجاً علمياً نقدياً تعليلياً نقلها من عالم الوصف السطحي والسرد غير المعلل إلى عالم التحليل العقلاني والأحداث المُعلَّلة بأسباب عامة منطقية؛ لننظر إليه وهو يقول: " إني أدخل الأسباب العامة في دراسة الوقائع الجزئية، وعندئذ أفهم تاريخ الجنس البشري في إطار شامل. إني أبحث عن الأسباب والأصول للحوادث السياسية". هكذا يدور منهج ابن خلدون، وأنا شخصياً لا أسوّغ مقارنته بمناهج أخرى سواه مما تتشابه معه في الشكل لا في المضمون، كالقول بالحتمية التاريخية وما جرى مجراها في التصورات الغربية.

أما نقطة الهدم المنهجية؛ فقد رأيتك فيها قاسياً قسوة شديدة على "طه حسين" إنْ في المتن وإنْ في الهامش، وهو بالتقريب أول من لفت الأنظار تقريباً إلى فلسفة ابن خلدون الاجتماعية. ودائماً - كما تعلم سعادتك - أن المحاولات المبكرة تكون أضعف بكثير بالقياس إلى ما يجيء بعدها؛ فليس يعني هذا إهمالها أو تعسف النظرة بصددها. ولم يكن من المنهج العلمي فيما أتصوّر أن نتناول هذه المحاولات المبكرة بشئ من القدح المركب الذي هو أقرب إلى الشتائم منه إلى النقد البناء.

هذا ممّا يرباء عنه العلماء المحققون أمثالكم. أو تناولها بالسخرية والاستهزاء فيما لو تكلم "طه حسين" عن إقامة ابن خلدون بمصر .. وقد تكون العاطفة في تلك الجزئية أغلب على الكاتب وأبعد عن المنهجية العلميّة. نعم، وإذن فلنرفضها ولا ضرورة عندنا لنغمة السخرية والتعريض؛ وبخاصة للعاهة الشخصية التي لا حيلة لأحد فيها.

ثم ماذا ..؟! هل لو أنني رأيت الدكتور ميثم الجنابي يتحدّث بعاطفته عن وطنه العراق؛ أفكيل عليه هجوماً إذْ ذاك يصل إلى حد القدح المباشر في شخصه، وهل يتفق التعصب كائناً ما كان ولو للفكرة التي أطرحها مع المنهج النقدي أو المنهج العلمي عموماً أو حتى مع العقلانية التي أتدثر بدثارها؟!

ثم ذكرتم أن "الجابري" رحمه الله كان أعمق فيما قدمه بكثير ممّا قدمه "طه حسين"؛ ليكن ! .. ولكن هل يروقكم تعصب الجابري وموالاته للعقلانية المُفرطة إلى الدرجة التي ينسف فيها كل محاولات ما سواه: صوفيّة أو تشيع؟ ثم ماذا عن الدكتور "على عبد الواحد وافي" فيما كتبه عن عبقريات ابن خلدون وفيما حققه للمقدمة ؟

هذا ما أردت قوله ممّا قرأته لكم بأناةٍ وهو ممّا لفت نظري في دراستكم الهامة .. دمتم عالماً مُحققاً قديراً .. مع خالص التحية).

وبعد أن قرأ التعليق أجاب من فوره:

(عزيزي الدكتور مجدي إبراهيم:

بعد التحيّة

أشكرك جزيل الشكر على هذه المداخلة القيمة والعميقة والنقديّة. وهذا أمر يفرحني للغاية، لأنني استهجن المديح ولا أحبه إطلاقًا، لأنه لا يغني المعرفة بشيء. إن كل ما تناولته في تعقيبك، سوف أتطرَّق إليه في الحلقات الثماني الباقيّة. وفيها إجابة على ما كان يدور في خلدك وما تناولته في التعقيب.

ملاحظة عامة:

إنّ هذه الدراسة هي جزء من كتاب كبير أرسلته للطباعة تحت عنوان (بوابة التاريخ الأبدي). يتناول أساسًاً أثر فلسفة التاريخ في تأسيس الفكرة السياسية.

ومن ثم فهو يحتوي على أهم فلاسفة التاريخ الذين تركوا أثراً هائلاً في بلورة الوعي النظري والعملي السياسي. وهي قضية غاية في الأهمية.

وابن خلدون بالنسبة لي هو مؤسس علم التاريخ وفلسفته. وفي هذا تكمن أهميته الضرورية بالنسبة لوعي الذات الثقافي والسياسي العربي.

تناولت في الكتاب، نشوء وتحول الفكرة التاريخية من الأسطورة الى منطق الرؤية التاريخية. وبعدها فلسفة هسيود وأوغسطين، باعتبارها صيغ أسطورية ولاهوتية مهمة، لكنها لا تؤسس للرؤية العلمية. وبعدها ابن خلدون وحتى العالم المعاصر واختتمته بفلسفتي عن التاريخ والثقافة والحضارة والمستقبل. وهي فلسفة سوف أقدمها للنشر قريباً تحت عنوان (فلسفة البدائل المستقبليّة) بخمسة أجزاء.

أمّا ما يخص نقدي لطه حسين، فهي مجرد صيغة طارئة بهذا الصدد، وضمن ما هو ضروري للإشارة الى الذين ساهموا في تناول شخصية وإبداع ابن خلدون، وفي مقدمتهم، من الناحية الزمنية، طه حسين.

لقد تناولت شخصية وكتابات وفكر "طه حسين" بصورة موسعة، إضافة إلى العشرات من الشخصيات الفكرية العربية الحديثة، في كتابي الذي صدر القسم الأول منه تحت عنوان (فلسفة وعي الذات العربي الحديث والمعاصر) (دهاليز المرحلة التأسيسية). وهو كتاب ضخم جداً، لهذا جرى تقسيمه الى قسمين لصعوبة طبعه وحمله! والكتاب يتناول مسار الفكرة العربية الحديثة ووعيها الذاتي، وهو كتاب نقدي فلسفي صارم!

وشخصية وإبداع "طه حسين" بالنسبة لي تتسم الى جانب كل التيارات الليبرالية والتقدميّة والعلمانية (الدنيوية) بقدر كبير من التسطيح والتشوش الفكري وانعدام المنهجية الخاصّة وسطحية تناوله لأغلب القضايا التي تناولها. وهو حكم مبني على دراسة كل ما كتبه (أشدد على كلمة كل أو جميع ما كتبه). وبالنسبة لي، فإن مقال واحد من أبو شادي في الديوان أفضل وأعمق من كل ما كتبه طه حسين (!!). وأن هناك الكثير من الشخصيات الفكرية المصرية، شبه المغمورة بالنسبة للكثير من المثقفين العرب، أفضل وأعمق وأكثر إخلاصًا بمعايير الثقافة العلميّة والقومية من "طه حسين" وأمثاله.

لكنني احترم "طه حسين" احترامًا عميقًاً لجهوده التنويرية، غير أنني أجد فيها، وفي أغلب رعيل المرحلة آنذاك، كيانات تقليديّة ومخربة بالنسبة لإرساء أسس الوعي الذاتي العربي الأصيل، أي المبني على أساس تأسيس المناهج الخاصّة وتناول لشكليات الوجود العربي بمعاييرها ومفاهيمها واصطلاحاتها. وهي جوانب توسعت فيها بطريقة ومستوى لم يجر تناوله في الفكر العربي الحديث والمعاصر في كتابي الذي أشرت إليه أعلاه، والذي أخذ مني حوالي ثلاثة عقود من الزمن والبحث المضني.

اتفق معك في بعض الجوانب القاسية تجاه "طه حسين"، لكنها محكومة بمحبتي للحقيقة التي ينبغي غرسها في كل مكونات الوجد والوجود العربي الحديث.

مع خالص الود والتقدير عزيزي الأخ مجدي).

لعل القارئ يلاحظ إصراره على الرأي لا سيما في النقد؛ لأنه يصدر عن "موقف" علمي محقق، ثم يضيف إضافة توضيحية شارحة في غاية الذكاء والوطنية والحرص المباشر على تعميق الروح العربي من قلب يعقل ضخامة مسؤولياته تجاه أمته وبني وطنه قائلاً:

(تعليق إضافي

عزيزي الأخ الدكتور مجدي:

لقد نسيت تناول نقدي لطه حسين في موقفه من مصر. لم يكن قصدي منها انتقاص العاطفة الوطنية ووجدانها الشخصي. لقد كان نقدي إيّاه بهذا الصدد هو نقد الانتقال "المنهجي" الذي لا يسوّغه منطق البحث. وإلا فإنني شخصياً أحب مصر ليس أقل ممّا أحبها "طه حسين". بالنسبة لي كل أوطان العرب أوطاني. وقد كان هذا النشيد الذي تربينا عليه منذ الصغر عندما كنّا ننشده في المدارس الابتدائية كل يوم منذ الصباح في باحات المدارس قبل الدخول الى الصفوف.

ولاحقاً أصبحت قضايا العالم العربي قضيتي في كل شيء. وأنا أعتبر نفسي شخصية قومية النزعة عربي وعروبي خالص. وكل ما أكتبه يهدف الى تأسيس الفكرة العربية الثقافية أو الفلسفة الثقافية للقومية العربية. وهذا مضمون فلسفتي التي وضعتها في كتابي (فلسفة البدائل المستقبلية) الذي أمل أن يظهر للوجود في نهاية هذا العام.

وينطبق هذا على فكر وإبداع الجابري. وعندي عليه دراسة نقديّة شديدة سوف انشرها في وقت لاحق.

مرة أخرى مودتي واحترامي الخالص).

أمّا أنا فأجيبه بعد ذلك:

(التوضيح مفهوم يا عزيزي الدكتور ميثم. ولا شك في أن ثقافتنا القومية العربية باقية في قلوبنا وعقولنا، نتمسك بها وندعو إليها، لأنها عنصر القوة فينا لا يمكن إغفاله، إذ كان مصدر هويتنا التي هي أيضاً مصدرها حضارتنا، أو علي أقل تقدير، تقف معها جنبا إلي جنب.

أنا شخصيا أوافقك تماماً في النظر إلي جوانب منهجيّة "طه حسين"، ولم أخالفك في مشروعية النقد لا من جهة الفلسفة ولا من جهة العلم؛ بل إنه لا تقوم دراسة كائنة ما كانت بغير وجهة نظر نقديّة. هذا أمر مفهوم، ومتفق معك تماماً فيما قلته عن بعض تلك الجوانب من تفكيره، كمسألة استصعابه النظر في مؤلفات "العقاد" وخاصة تصريحه بعدم فهم الكثير منها، وأنا شخصياً أيضا أميل فكريّاً إلى "العقاد" أكثر من ميلي إلى طه حسين. قرأت في صغري كتابات "العقاد" كلها، وقرأت طه حسين أيضاً، ولكني لم أتذوق "طه حسن" بمقدار ما تذوقت "العقاد".

المسألة، من بعدُ، مسألة توافق ذوقي لا قهر عقلي أمام المقروء والمكتوب.

كنت أتمني الاطلاع علي مصنفكم (فلسفة البدائل المستقبليّة) ولا شك في أنه سيكون كتاباً ماتعاً كشأن ما نقرأ لكم علي صفحات المثقف الغراء، وكلي أمل أن تتاح لنا الفرصة لقرائته حين يظهر للنور بسلام. كل التحيّة والمودة والتقدير).

ولم يكن ليرضيني منه بعض ما كتبه في "الأشباح والأرواح .. تجارب المثقفين والسلطة"، لأنه ينقض منهجه العقلي ذاته، ويتعصب لعاطفة العقيدة، ويتجنب الموضوعية في الحكم، وتلك أنقاض لما كان ألتزمه وحكم عليه بآخرين.

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم