صحيفة المثقف

ثامر الحاج امين: من وحي السفر

ثامر الحاج امينيُعتبر السفر نشاطا ًانسانياً متعدد المنافع لا تنحصر في حالة الاسترخاء والمتع البصرية الاخرى التي يستمتع بها الانسان خلال جولاته السياحية انما تتعدها الى التعرف على ثقافات الشعوب وتجاربها في تنظيم حياتها والتي قد يجد السائح فيها الفرصة لمراجعة ذاته واصلاح عيوبه، وقد أوجز كل ذلك الشاعر حبيب بن أوس الطائي بقوله (وطول مقام المرء في الحي مخلق لديباجتيه فاغترب تتجدّد) .

 في سفرتي الى ماليزي لمست كل تلك المزايا وفي الوقت نفسه أثارت انتباهي جملة من المشاهدات التي تستحق التأمل والاستفادة من دروسها، فعلى الرغم من ان المجتمع الماليزي مجتمع متعدد الأديان، وان الغالبية من سكانه هم من المسلمين الذين تصل نسبتهم الى 60% الاّ ان هذه الغالبية لا تشعر بهيمنتها على واقع الحياة اليومية وتكاد تنسى انك في بلد اسلامي وأنت تعيش وسط طوفان من البشر فيه المسلم والبوذي والهندوسي والمسيحي والكونفوشوسي واللا ديني وذلك بسبب محدودية الاشهار عن هوية الأديان في الأماكن العامة ان لم نقل انعدامها تماما، وتجربة تعدد الديانات والجنسيات التي يزخر بها مشهد الحياة في ماليزيا هي تجربة مثيرة للإعجاب وتستحق الاشادة والاستفادة من دروسها القيمة التي من أبرزها قدرة المجتمعات المتحضرة على تخطي هوياتها الفرعية والانضواء تحت هوية واحدة أعم وأشمل وأسمى وأصلح هي هوية المواطنة التي يمكن ان تضم الجميع تحت جناحها دون تصادم و صراعات تكلف الكثير ولا تنتهي، كما ان تجربة ماليزيا تحفزنا على عقد المقارنة بين حياتها وحياة شعوبنا المتخمة بشعارات التقوى وتعاليم الدين ومظاهر التدين الشكلي التي لم تفلح في الحد من انتشار الجريمة وتفشي الفساد بأشكاله في مجتمعنا يضاف الى غياب الشعور بأهمية البناء للأجيال القادمـة . ففي العاصمة الماليزية كوالالمبور لم نشهد خلال تجوالنا في معظم احياءها وشوارعها اي مظهر يدل على اسلامية هذه الدولة سوى الحجاب الذي ترتديه بعض المسلمات وكذلك جامع واحد اسمه (مسجد جامك) وهوكيان بسيط غير مبالغ في طرازه ومساحته ومنائره وموقعه ، كما عشنا حالة الأمان الذي يسود مجتمعها حيث لم نشهد شجاراً او مخالفة او جريمة او تجاوز على نظام المرور طيلة وجودنا فيها، كما لم نتعرض لعملية نصب او قرصنة حتى في الاوقات المتأخرة من ليل المدينة الصاخب بكل مظاهر البهجة والأمان والاستقرار، على العكس اننا وبسبب ما اتخمنا به من ثقافة التعصب (اننا خير امة ..) ومشروعية الشك بالآخر المختلف معنا في الدين والعقيدة وتكفيره، فإننا اكتشفنا هذا الهراء عندما لم نأخذ بنصيحة السائق البوذي الذي استأجرناه عند عودتنا الى الفندق في ساعة متأخرة من الليل وكانت الاجرة التي دفعناها له بشكل مضاعف هي ثمن الشك في صدقه وعدم الأخذ بنصيحته . كما ان مشاهد التعايش بين المختلفين دينياً في المجتمع الماليزي تبدو حقيقية لا رياء فيها وهو ما جسدته مشاهد الود في جلوس المرأة المحجبة الى جانب السافرة ومشاركتها الحديث دون نفرة او تأفف بسبب الاختلاف في الدين والمعتقد، فالكل يعرف حدود حريته ويحترم حرية الآخر المختلف .

ان العبرة التي يمكن استخلاصها من كل هذا هي ان وجود الدين وفاعليته والالتزام بتعاليمه هو ليس في عدد الجوامع و المجاهرة في أداء العبادات و الطقوس المتعددة و... و... و... بل في مدى صدقك وأمانتك وانعكاسهما على مظاهر الحياة العامة المتمثلة في تدني نسبة الجريمة وغياب الفساد وصيانة الأمانة وتجسيد ذلك ايضا في احترام حقوق الاقليات والأديان وحرية الآخر من خلال الالتزام بحدود حريتك

 

ثامر الحاج امين

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم