صحيفة المثقف

ألان سيليتو: مساء يوم السبت

2804 sillitoeبقلم: ألان سيليتو

ترجمة: صالح الرزوق


 في إحدى المناسبات شاهدت رجلا يحاول أن يقتل نفسه. لا يمكن أن أنسى ذلك اليوم لأنني كنت وحدي في البيت، في أمسية من أمسيات يوم السبت، ومشاعري سوداء كالحة ويغمرني القنوط. فقد كان كل أفراد العائلة في صالة السينما، ما عداي. ولسبب من الأسباب تركوني وحدي. وطبعا لم أكن أعلم أنني سريعا سوف أرى بعيني شيئا لا يمكن أن أراه في الأفلام، شاهدت رجلا حقيقيا يعلق نفسه بحبل. كنت صغيرا يومها. ويمكنك أن تتخيل كم استمتعت بالحادث.

لم أعرف عائلة لها وجوه تسود وتكتئب حين يصيبها القنوط مثل عائلتنا. كان رجلنا الكبير يبدو بوجه أسود وثقيل وحافل بالنوايا الإجرامية إذا لم يجد لفافة أو إذا توجب عليه استعمال السكارين لتحلية الشاي، أو دون أي سبب منطقي ومفهوم. وكنت أنسحب من البيت كلما ابتعد عن كرسي الموقد بجانب لسان النار المشتعل ليبحث عني. كان يجلس، تقريبا على لسان النار، وقبضتاه، الملوثتان بالزيت والمضمومتان، أمامه وراحة كل منهما قبالة الثانية. وكتفاه الثخينان نحو الأمام، وعيناه البنيتان الداكنتان تتأملان النار. وبين حين وآخر يطلق شتيمة بذيئة، دون أي سبب مقنع، أسوأ الكلام يمكن أن تتوقعه منه، وإذا بدأ بهذا الهراء تعلم أنه حان الوقت لتختفي. وإذا ورد اسم الوالدة، هذا دليل أن الأمور ستسوء جدا، فهي ترد عليه بلسان سليط. تقول:”لماذا أنت مكفهر لدرجة لعينة يا عاثر الحظ؟”. كأن ما يحصل بسبب تصرفاتها. وقبل أن أفهم ماذا يجري يركل الطاولة ويقلبها على قفاها، بكل ما عليها من أطباق، وحالا تهرب الوالدة من البيت وهي تعول. ثم يعود الوالد لينحني قرب النار ويتابع شتائمه. وقد يكون كل ذلك بسبب علبة لفافات.

وفي إحدى المرات رأيته خامدا أكثر من أي وقت آخر، وتوقعت أنه فقد رشده على نحو ما - حتى مرت ذبابة على مبعدة ياردة منه. فهاجمها بيده، وضربها، ورأيتها تسقط مشلولة في النار الملتهبة. وبعد ذلك دبت فيه أنفاس الحياة والبهجة قليلا، وجهز بعض الشاي.

حسنا، هكذا انتقلت إلينا عدوى النظرة السوداء. وهذا هو السبب الحقيقي للكآبة التي نتقاسمها مع الوالد.  كانت حياته كلها تسير بهذا الاتجاه. صدقا. أصبحت النظرة السوداء من طباع العائلة. بعض العائلات لها نظرة حالكة، وبعضها الآخر لا تمتلك هذه النظرة. وعائلتنا تنتمي للنوع الأول مباشرة، وهذا مؤكد، ولذلك إذا شعرنا بالضجر نبدو ضجرين حقا. ولا أحد يفهم لماذا نسأم إذا بلغنا درجة عالية من السأم، ولا أحد يعلم لماذا تسوّد وجوهنا. بعض البشر يكتئبون ولا يبدو عليهم الشر أو السوء. ترى أنهم سعداء بطريقة مثيرة، كما لو أنهم حصلوا على حريتهم من زنزانة بعد عقوبة على خطيئة لم يرتكبوها، أو أنهم انصرفوا من صالة السينما بعد الجلوس متحجرين على المقعد لثماني ساعات من أجل مشاهدة فيلم بارد، أو أنهم أخطأوا بتوقيت الحافلة بعد أن جروا وراءها لحوالي نصف ميل، وتبين لهم بعد نهاية الجري أنها ليست حافلتهم - في عائلتنا الشعور بالضجر لا يختلف عن ارتكاب جريمة بالنسبة لبقية العوائل. 

سألت نفسي العديد من المرات ما هذا، ولكن لم أصل لأي إجابة حتى لو انتظرت بمكاني وفكرت بالموضوع ساعات. هنا يجب أن أعترف أنني لم أجد الطاقة لأفعل ذلك، ولكنها فكرة طيبة أن أفعل. لكن أنفقت ساعات وأنا أجهد ذهني بأمور هذه الدنيا، حتى قالت لي الوالدة، وهي تراني منكفئا قرب النار مثل الوالد:”لماذا تبدو أسود؟”. ثم توقفت عن التفكير بالأمر حتى لا تشتد كآبتي وينتابني الضجر القاتل وأتحول لشخص يشبه والده، وأركل الطاولة وأقلبها بكل الأواني المصفوفة عليها. وغالبا أفترض أنه لا يوجد شيء يستحق هذه الكآبة. إنها ليست غلطة أحد، ولا يمكنك أن تلوم أحدا، إذا أصبحت كئيبا وأنا متأكد أنه شيء يجري في العروق مع الدم.

في مساء هذا السبت كنت أبدو كئيبا جدا، وحينما عاد الوالد من مكتب المراهنات قال لي:”ماذا بك؟”.

قلت وأنا أنفخ:”أشعر بالاستياء”. كانت تنتابه نوبة غضب حين أقول له أنا كئيب لأنني لم أذهب إلى صالة السينما.

رد يقول:”حسنا. اغتسل إذا”.

قلت له:”لا أريد أن أغتسل”. وكانت هذه حقيقة.

صاح بملء فمه:”حسنا، اذهب واحصل على هواء منعش من الخارج”. ونفذت ما نصحني به، بسرعة مضاعفة، لأنه إذا وصل الأمر بوالدي أن يطلب مني أن أتنفس هواء منعشا، هذا يعني أنه حان الوقت لأغيب عن نظره.

في الخارج لم يكن الهواء منعشا حقا، بسبب معمل الدراجات الهوائية اللعين الذي تجده في نهاية الباحة. ولم أعرف أين أذهب، وهكذا ذرعت الباحة قليلا وجلست قرب بوابة خلفية ما.

ثم رأيت الرجل صاحب البيت، ولم يكن مضى عليه بيننا في هذه الباحة فترة طويلة. كان طويلا ورفيعا وله وجه مثل رجل دين تقي. وكان يرتدي قبعة مسطحة وبشارب غزير، أضف لذلك يترك لديك الانطباع أنه لم يتناول منذ عام مضى وجبة طعام محترمة. لم يتبادر لذهني أي شيء من هذا القبيل في حينها: مع ذلك أتذكر أنه التفت نحو نهاية الباحة. وهناك ظهرت امرأة شديدة الفضول وكثيرة الإشاعات ولا تغادر مكانها، باستثناء لحظات قليلة حينما ترافق زوجها لحانوت الرهونات، ويكون بأفضل بذة لديه أو على دراجته، ونادت بملء فمها: “ما الغاية من ذلك الحبل الذي معك يا صاحبي؟”.

رد بصوت مرتفع:”لأشنق به نفسي يا آنسة”. قهقهت لطرفته المرحة والشئيمة، واعتقدت أنها لم تسمع نكتة طيبة من هذا النوع في حياتها كلها. مع ذلك في اليوم التالي ستضحك بالجانب الآخر من وجهها الممتلئ.

مر الرجل من جانبي وهو ينفخ لفافة ويحمل إسطوانة من الحبال الجديدة، وتوجب عليه أن يقفز وهو يتخطاني. وتقريبا لمس كتفي بحذائه القاسي، وحينما أخبرته أنه عليه أن يحذر ويعرف موقع قدميه، لا أعتقد أنه سمعني، حتى أنه لم يلتفت حوله. ولم يكن يتواجد عدد ملحوظ من البشر في حينها. كل الأولاد كانوا في السينما، ومعظم الأمهات والآباء كانوا في وسط المدينة يشترون اللوازم.

وتابع الرجل طريقه في الباحة باتجاه بوابته الخلفية، ولأنه لم يكن لدي عمل أهتم به، وبسبب عدم ذهابي إلى السينما، تبعته. وترك باب بيته مفتوحا قليلا وبدفعة بسيطة تمكنت من الدخول. ووقفت هناك، أراقبه فقط، وأمص إبهامي، بينما اليد الأخرى في جيبي. وأفترض أنه انتبه لوجودي، وبدأت عيناه تتحركان حركة طبيعية، ولم يكن يبدو عليه أنه يمانع.

سألته:”ماذا تريد أن تفعل بذلك الحبل يا شريك؟”.

قال:”سأشنق به نفسي يا ولد”. وكان صوته يوحي كأنه فعل ذلك مرة أو اثنتين أو أن الناس وجهوا له مثل هذا السؤال سابقا.

“ولماذا يا شريك؟”. لا بد أنه اعتقد أنني متشرد صغير السن وفضولي.

قال:”لأنني أريد ذلك، هذا هو السبب”. ونظف الطاولة من الأطباق وجرها نحو وسط الغرفة. ثم وقف عليها ليربط الحبل بحامل النور. وتألمت الطاولة من وزنه ولم تكن تظهر آمنة، ولكنها أعانته حتى أنهى مهمته.

قلت له:”لن يتحمل طويلا يا شريك”. وفكرت أنه من حسن حظي أن أكون هنا وليس في السينما أشاهد سلسلة جيم فتى الأدغال.

ولكنه سرعان ما أصبح داكنا، والتفت نحوي وقال:”هذا ليس شأنك”.

وتوقعت أن يطلب مني أن أختفي من بيته وأخرج ومعي الغبار والنفايات، لكنه لم يفعل. وانتبهت أنه عقد أنشوطة رائعة بالحبل، كما لو أنه بحار أو ما يشبه ذلك، وحين كان يربطها لم يتوقف عن الصفير لنفسه بلحن رخيم. ثم هبط من الطاولة وأعادها لمكانها السابق عند الجدار، ووضع كرسيا تحت الأنشوطة. لم يكن يبدو أنه حاقد على نفسه أبدا، ولم ألحظ شبح الكآبة والسوداوية التي أراها في عيون ووجوه عائلتي حين يصيبها الضجر. ولو أنه كان نصف كئيب مثل والدي الذي تنتابه الحالة مرتين في الأسبوع، لشنق نفسه قبل سنوات. ولم تذهب هذه الفكرة من رأسي. كان يؤدي عمله بمهارة مع هذا الحبل وأصبح كل شيء على أتم ما يرام، كأنه خطط للتفاصيل كثيرا، أو أن هذا آخر عمل يقوم به في حياته. ولكن كنت أعلم شيئا لا يعرفه، لأنه لم يكن يقف حيث أنا أقف. كنت أدرك أن الحبل لن يصمد، وأخبرته بذلك مجددا.

قال:”أغلق فمك”. كأنه يقول:” وإلا ركلتك خارجا”.

ولم أود أن يفوتني ما يجري. لذلك لزمت الصمت. تخلص من قبعته وألقاها على طاولة الزينة، ثم خلع معطفه ولفاحته، ومددهما على الكنبة بحرص. ولم أشعر ولو بالقليل من الرهبة، كما لو أنني بالسادسة عشرة من عمري، وكان الموضوع شيقا بنظري. كنت يومها في العاشرة فقط ولم تتوفر لي من قبل فرصة رؤية رجل يشنق نفسه. وتقاربت مشاعرنا، أصبحنا معا قبل أن يلف الرجل الحبل حول رقبته.

قال لي:”أغلق الباب” نفذت ما طلب. قال:”أنت ولد طيب بالنسبة لسنك”. كنت أمتص إبهامي. تحسس جيبه وأخرج كل محتوياته، وألقى حفنة من الأشياء والنقود على الطاولة: علبة لفافات ونعناع، بطاقة رهونات، مشط قديم، وعدد من النقود المعدنية. تناول بنسا وقدمه لي قائلا:”أصغ لي أيها الصغير. سأشنق نفسي. وعندما أتأرجح أود أن تركل هذه الكرسي بكل ما أوتيت من قوة وتبعدها للخلف. هل فهمت؟”.

أومأت له. وضع الحبل حول رقبته، ثم تخلص منه كأنه ضيق ولم يتسع لرقبته.

سألته ثانية:”لماذا عزمت على ذلك يا شريك؟”.

قال وهو يبدو بغاية التعاسة:”لأنني ضجرت، ولأنني أريد ذلك. امرأتي تخلت عني، وأصبحت عاطلا عن العمل”.لم أود أن أجادل، بسبب لهجته اللئيمة، وكنت مدركا أنه لا يمكنه أن يختار طريقا آخر سوى شنق نفسه. وظهرت مسحة مضحكة على وجهه: وحتى عندما تكلم معي كان كأنه لم يكن يراني. أقسم على ذلك. كانت معالمه مختلفة عن وجه والدي الداكن اليائس. وأفترض أن هذا هو السبب الذي يمنع رجلنا الكبير من شنق نفسه، حظ سيء، أنه لا يسعه أن ينظر لظروفه مثل هذا الرجل. نظرات رجلنا الكبير تحدق بك، ولذلك يجب أن تتراجع وتطير لتبتعد بأسرع ما يمكن عن البيت: نظرات هذا الرجل تنظر من خلالك، ويمكنك مواجهتها وأنت تعلم أنها لا تضرك. ورأيت أن الوالد لن يقتل نفسه لأنه لا يحسن تبديل ملامح وجهه بشكل صحيح، مع أنه عمليا بلا عمل معظم الأوقات. ربما يجب على الوالدة أن تهجره أولا، ثم يمكنه أن يفكر بذلك. ولكن، كلا - نفضت رأسي - الوالدة لن تهرب، مع أنه يفرض عليها حياة تشبه حياة كلبة.

ذكرني:”لن تنسى أن تركل ذلك الكرسي؟”. وأرجحت رأسي لأقول له لن أنسى. وجحظت عيناي، وراقبت كل حركة قام بها.

وقف على الكرسي وأحكم ربط الحبل حول رقبته في هذه المرة. وتابع صفير لحنه الرقيق. وأردت أن أنظر نظرة أفضل للأنشوطة، لأن صديقي سيسأل ليعرف ماذا حصل، وإن أخبرته سيخبرني عن السينما وما حصل في سلسلة جيم فتى الأدغال. وهكذا أحصل على الكعكة. ثم ألتهمها. وهذا جزاء المحسنين كما تقول الوالدة. ولكن قررت أنه من الأفضل أن لا أسأل الرجل عن أي شيء.  وتمسكت بمكاني في الزاوية. كان آخر شيء قام به هو التخلص من عقب السيجارة من بين شفتيه ورميه في أتون النار الفارغ. ثم تبعه بعينيه حيث استقر في صدر الموقد الأسود - وكان يبدو كأنه كهربائي يزمع على القيام بصيانة لسلك النور.

وفجأة اهتزت ساقاه الطويلتان وحاولت قدماه ركل الكرسي، وساعدته حسب وعدي له. وقمت بركلة قوية مباشرة مثل لاعب في فريق نوتنغهام فوريست وانزلقت الكرسي للخلف وارتطمت بالكنبة، وتدحرجت كاتمات صوت أرجل الكرسي على الأرض بينما انقلب الكرسي. تأرجح الرجل قليلا، وجدفت يداه بطريقة فزاعة عصافير تطرد الطيور بعيدا، وصدرت من حلقه أصوات غريبة كأنه جرع كمية من الأملاح، ويحاول جهده أن يبلعها. ثم صدر صوت آخر، ونظرت للأعلى ورأيت صدعا كبيرا في السقف، مثل الذي تراه في السينما بعد حدوث هزة أرضية. وبدأ المصباح يدور حول نفسه مثل سفينة فضاء. وكنت أوشكت أن يصيبني الدوار، وشكرا للمسيح، أنه سقط في تلك اللحظة مع صوت خبطة قوية على الأرض وتوقعت أنه كسر كل عظمة في بدنه. اختلجت قدماه لبعض الوقت، بطريقة كلب يشعر بمغص قوي. ثم استلقى هامدا.

لم أتمهل لأنظر إليه وأسرعت بمغادرة المنزل. وأنا أقول لنفسي:”أخبرته أن الحبل لن يتحمله”. وكنت أتمتم أن عمله لم يكن متقنا، ويداي في جيبي وتقريبا أبكي من هذه الفوضى العارمة التي ارتكبها. وأغلقت بوابته بقوة وبخيبة أمل حتى كادت أن تخرج من مفاصلها.

وحينما كنت أشق طريقي في الباحة عائدا للبيت لأشرب الشاي، آملا أن الآخرين عادوا أيضا من السينما، ولن أضطر للدخول في الكآبة وحدي، مر بجاني شرطي، وتوجه لباب الرجل. كان يسرع بخطواته الواسعة ورأسه يسبق قدميه، وعلمت أن أحدا وشى به. لا بد أن أحدا شاهده يشتري الحبل ثم نقل المعلومة للشرطة. أو تصادف أن المرأة المسنة في الباحة علمت بالموضوع. أو لعله أخبر أحدا، وكنت أفترض أن الرجل الذي شنق نفسه، لم يكن يدري تماما ماذا كان يفعل، وهذا واضح من النظرة التي رأيتها في عينيه. قلت لنفسي: المهم أن هذا ما حصل. وتبعت الشرطي لبيت الرجل، الرجل البسيط في هذه الأيام لا يمكنه حتى أن يشنق نفسه.

عندما وصلت كان الشرطي يقطع الحبل من حول عنقه بسكينة رفيعة، ثم قدم له جرعة من الماء، وفتح الرجل عينيه، لكن لم أحب الشرطي، فقد أرسل اثنين من أصدقائي لمدارس إصلاحية بسبب سرقة أنابيب حديدية من دورات المياه.

سأل الرجل وهو يحاول أن يساعده على النهوض:”لماذا كنت تريد أن تشنق نفسك؟”. كان يجد صعوبة بالكلام. وكانت إحدى يديه تنزف من نقطة كسر زجاجة المصباح. كنت موقنا أن الحبل لن يحمله، ولكنه لم يستمع لي. عموما لن أفكر يوما بشنق نفسي، ولكن إن عزمت على ذلك سأحرص أن أربط الحبل بشجرة أو شيء من هذا القبيل، وليس عروة مصباح.

“حسنا لماذا فعلتها؟”.

رد الرجل بصوت مبحوح:”لأنني أردت ذلك”.

قال له الشرطي:”عقابك سيصل لخمس سنوات حبس”. زحفت لداخل البيت وأنا أمتص إبهامي من نفس المكان.

قال الرجل:”هذا رأيك. كل ما أردته أن أشنق نفسي”. وكانت له نظرة عادية تدل على الرعب.

قال الشرطي وهو يحمل دفتره من جيبه:”حسنا. ألا تعلم أنه تصرف مخالف للقانون.”.

قال الرجل:”كلا. لا يمكن. إنها حياتي أليس كذلك؟”.

قال الشرطي:”أنت تعتقد ذلك. ولكن للقانون رأي آخر”.

بدأ بامتصاص الدم من يده. كان جرحا لا يذكر ولا يمكن رؤيته. قال:”هذه أول مرة أسمع بهذا الكلام”.

قال الشرطي:”ها أنا أخبرك”.

طبعا لم أخبر الشرطي أنني ساعدت الرجل على شنق نفسه. أنا لست ابن البارحة. ولم أولد يوم أول أمس.

قال الرجل:”شيء رائع. لا يمكن لرجل أن يتحكم بحياته أيضا”. كان لا يزال يفكر بالأمر.

قال الشرطي:”حسنا. لا يمكنك أن تقرر”. وبدأ يقرأ من كتابه بمتعة بالغة. ثم قال:”هي ليست حياتك. وأن تنتحر جريمة ضد القانون. هذا معناه قتل النفس. انتحار”.

تحجرت نظرات الرجل، كما لو أن كل كلمة من كلمات الشرطي تعني ست سنوات سجن بارد. وشعرت بالأسف نحوه، وهذه حقيقة، ويا ليته استمع لما قلت له، ولم يعتمد على عروة المصباح. الأفضل أن يفعلها بشجرة أو شيء يعادل شجرة.

ثم رافق الشرطي في الباحة مثل حمل وديع، واعتقدت أن هذا هو نهاية كل ما جرى.

ولكن بعد يومين انتشر الخبر بيننا كشرارة - وحتى قبل أن يصل للصحف - لأن امرأة من باحتنا كانت تعمل في المستشفى بغسيل الأطباق وتوضيب المكان. وسمعتها تفشي السر لشخص من الباحة.

“لم يخطر ببالي ذلك. توقعت أنه اقتلع تلك الفكرة المخبولة من رأسه حينما أخذه الشرطي. ولكن كلا. العجائب لا تنتهي. ألقى نفسه من نافذة المستشفى عندما غاب الشرطي الذي يحرس سريره لحظة ليتبول. هل تصدق ذلك؟. مات؟.لم ينتظر طويلا”.

هجم على الزجاج، وسقط مثل حجرة على الطريق. من جهة لم أشعر بالأسف له، ولكن على من جهة أخرى أسعدني ذلك. فقد أثبت للشرطة ولكل الناس أيا كانوا أنه يملك حياته وهو حر التصرف بها. كان ذلك مدهشا، كيف وضع الأحمق ابن الزانية نفسه في عنبر في الطابق السادس، وهكذا أنجز عمله، وهذا أفضل حتى من أن يتدلى من شجرة. ودفعني ذلك للتفكير مرتين بالكآبة التي تنتابني أحيانا. كيس الفحم الأسود المودع في داخلي، والنظرة السوداء القاتمة التي تظهر على وجهي، لا يعني أنني أزمعت على ربط نفسي بحبل أو إلقاء نفسي تحت عجلات حافلة من طابقين، أو الهبوط من نافذة مرتفعة أو ثقب حنجرتي بغطاء علبة سردين أو وضع رأسي في فرن غاز أو رمي الكيس الذي تحتمي به روحي على قضبان القطار، لأنه حينما تتمكن منك المشاعر السوداوية لا تستطيع أن تتحرك من الكرسي الذي تجلس عليه ثم ارتكاب هذه الحماقات.

عموما لن أكون أسود لدرجة أن أشنق نفسي، لا يعجبني مرأى الشنق، ولم يعجبني أبدا، كلما تذكرت الرجل الكبير “مهما كان اسمه” وهو يتدلى من عروة المصباح.

يغمرني السرور الذي لا يدانيه شيء لأنني لم أذهب إلى السينما في مساء ذلك السبت، حينما شعرت بالسوداوية وأصبحت جاهزا للإقدام على ارتكاب خطيئة. كما تعلمون لن أقتل نفسي. ثقوا بي. سأستمر في هذه الحياة مثل نصف مجنون حتى أبلغ مائة وخمسة، ثم بعد أن تتحرر روحي سأتهم الموت بجريمة غير أخلاقية، فأنا أريد أن أبقى حيث أنا على وجه هذه الأرض.

 ***

................................

الترجمة من” قصص جديدة ومختارة”. منشورات Early Bird Books. 2016.

نسخة Open Road Integrated Media.   

 ألان سيليتو Alan Sillitoe كاتب بريطاني من مواليد نوتنغهام. عمل بالجيش البريطاني في ماليزيا. وأصيب بذات الرئة. عاد للحياة المدنية وعمل بالكتابة. تجول في أوروبا وزار الاتحاد السوفياتي. وكتب في أدب الرحلات والخيال العلمي. له عدة مسرحيات ومجموعات شعرية. اشتهر بكتابه الأول “مساء السبت صباح الأحد - 1958” وفيه سيرة نصف ذاتية تنقل معاناة الطبقة العاملة وظروف الحياة في شوارع نوتنغهام في فترة الحربين. دافع عن حق إسرائيل بالوجود، وأيد غزو أمريكا للعراق عام 2003. وتسبب له ذلك بعدد من الإحراجات مع بقية زملائه اليساريين. يعتبر سيليتو واحدا من أفراد “الجيل الغاضب الشاب”. لكنه لم يكن يحب هذا التصنيف. وتابع الكتابة منفردا وجرب عدة تقنيات وأساليب لكتابة تاريخ سردي لأبناء الطبقة العاملة وفقراء أوروبا. في بواكيره استعمل اللهجة الدارجة ولغة كلام الشوارع. من أهم أعماله “الجنرال” 1960، “الباب المفتوح” 1989، “مفتاح الباب” 1961، “الترحال في نهيلون”1971، “شجرة تحترق”1967، “عيد الميلاد” 1999، “رجل مناسب لعصره” 2004 ....

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم