ترجمات أدبية

لارا فابنيار: الغابة السيبيرية

بقلم: لارا فابنيار

ترجمة: صالح الرزوق

***

الشيء المميز بفودكا الفجل الحار أنها تجعلك تنسين أن ما تشربينه هو فودكا. اللون المخضر ورائحة القش تجعل الذهن يشعر كأنك تمتصين الأعشاب كما في حمام بخار، كما أن الطعم حاد جدا ويرشحك للشعور كأنك تشربين مشروب طاقة. نعم. مشروب طاقة. وينتابك الإحساس بالنشاط والقوة وأنت تنتهين من جرعة بعد جرعة. أنت مبتهجة مع الجميع، ولكن مع نفسك أولا، نفسك الذكية والفاتنة والعجيبة، وتعتقدين أن الجميع متاثرين بك بالمقابل، حتى لاحظت فجأة أنك مخمورة تماما ولا يمكنك التحكم بنفسك - حركاتك، أو كلماتك، أو ضحكتك الجنونية التي تلوي فمك وتلهب عينيك - وكل جسمك ينكمش وتريقين الشراب على طبقك، وركبتيك، وصدرك. ثم لاحظت أن هذه ليست حفلة كبيرة، والحاضرون هم خمس بالغين يبدو أنهم محترمون وفي أواسط أعمارهم، وتحلقوا حول طاولة في هذه الشقة الأنيقة في أبير ستريت سايد. وأن زوجك مارك يحدق بك مرعوبا، وصديقه سيرغي محمر الوجه، لأن شخصيتك الفاتنة والذكية كانت طيلة ساعتين تسخر منه وتنتقده. وحاول المضيفون صرف نظرهم، مع أنهم كانوا مخمورين مثلك. وكان الدواء الوحيد لذلك، طبعا، المزيد من فودكا فجل الخيل الحار، ولكن ليكن الله بعونك إن رأيت أن الزجاجة قد فرغت.

سألت هيلينا:" هل انتهت؟". وأخذت الزجاجة الفارغة مني وهزتها بقوة، كما لو أن الاهتزاز سيعيدها ممتلئة بقوة السحر. قال أليكس: "لدينا المزيد. سأودعها في المجمدة". وكان صوته مكتوما، لأن وجهه مدفون في فراء هرة كبيرة رمادية كان يحضنها معظم الأمسية. كان أليكس قد حلق لحيته حديثا، وتساءلت إن كان انجذابه لفراء الهرة بسبب فقدان شعر لحيته. قفزت قطة أخرى،  نحيلة ورمادية، إلى حضن هيلينا. وهناك قطة ثالثة في موضع ما، ولكن تلك تفضل الاختباء وتمرير الوقت تحت إحدى  قطع المفروشات الأنيقة. قالت هيلينا: "لا تعتقدوا من فضلكم أننا جماعة مهووسة بالقطط. فهي قطط عمي. توفي عمي وعمتي بفاصل أيام بينهما. والسباقة كانت عمتي. وكنا نساعد عمي بالجنازة لكنه توقف دون إنذار عن الرد على الرسائل. وتبين أنه مات أيضا. هل يمكنكم تخيل ذلك؟".

كان بمقدورنا تخيل ذلك، ولكننا لا نريد، ولذلك تبع كلامها صمت ثقيل. رأيت عدة قطرات فودكا متبقية في قعر كأس مارك، وتمنيت أن أشربها. ولكن مارك منحني نظرة إنذار. جلس قبالتي على الطاولة، ولكن بدا كأنه بعيد عني، بمسافة كواكب تفصله عني. ولكن غالبا ما أشعر بذلك حين نكون بصحبة الآخرين. وهذا الشعور يرعبني، لأنه يدفعني للاعتقاد أن التقارب الحميم العميق الذي يربطنا معا في البيت مجرد وهم يتبخر حالما نخرج، وبغياب تلك الحميمية لا نتمكن من الإحساس بالاستقلال أو الثقة بالذات، ونشعر أننا مكسوران ومهملان، وغير مرتاحين ونفتقد للحماية.  لأتغلب على رعبي، رفعت كأس مارك، ووضعته فوق وجهي حتى سالت آخر قطرة وتدحرجت في فمي المفتوح.  كان سيرغي جالسا بقربي. وأمكنني رؤيته من خلال الزجاج السميك. كان أطول وأضعف من كل الموجودين في حفلة العشاء. وكان وجهه محمرا، وكأسه يغطيها الضباب، وساقاه الطويلتان جدا مطويتان بشكل عجيب تحت الطاولة. وبدا غير مرتاح ومكشوفا، مثلي، وبضوء المخاوف التي أعاني منها، توقعت أن غياب الحب يتسبب بهذه الحالة. وكان يبدو هكذا منذ اختفاء داريا.   تهربت منه، وسقطت عيناي على الدفتر المفتوح فوق وسط الطاولة، وكان ملوثا بالزيت، ولا يصلح للكتابة إلا بصعوبة. كان الخط بيد هيلينا، أما الأفكار فتعود بالغالب لي ولمارك. كان الهدف من لم الشمل هذا مساعدة سيرغي لإطلاق قناة يوتيوب، وبها يمكنه إلقاء محاضرات عن الفن. كان سيرغي في روسيا مؤرخا فنيا، ومتعصبا للفن فعلا، وكان محبا للنحت، وبالأخص نحت الخشب. وكان يستمتع بالسفر لأماكن بعيدة، بحثا عن آثار فنية قديمة، وغالبا برفقة طلابه المخلصين، الذين يكتب لهم ويعلمهم ويلقي عليهم أحاديثه. غير أن يوتيوب أمر مختلف.  لم يكن سيرغي متيقنا أن لديه كاريزما قوية تؤهله لمواجهة الشاشة. ولكن تؤمن فدريكا صديقته الجديدة أن معنوياته كافية: فحضوره مريح وغير منفر، وكل ما يحتاجه أن يتغلب على الشعور بانعدام الأمان، وأن يتعلم كيف يروج لنفسه.  وكانت فكرة دعوتنا لتقديم المعونة تعود لفدريكا. وفي النهاية أنا ومارك صحافيان، لكن يمتلك أليكس  وهيلينا شركة تجارية ناجحة. وكانت متأكدة أن أربعتنا معا سنقدم مهارات مثالية لاكتشاف أفضل طريقة لنروج بها لسيرغي.

خططت فدريكا للإشراف على الموضوع، ولكن توجب عليها إلغاءه في آخر دقيقة حينما قدم إليها صديق فرصة فاصل غنائي لا يمكنها رفضه. وكان تخلفها عن الحضور خسارة. فهي على الأقل أصغر بعشرين عاما من بقيتنا. وهناك شيء جاد حيالها. أو ربما كان ذلك بفعل عمرها. كلنا لدينا أطفال، ومعظهم تقدموا بالعمر، ومع ذلك نفكر بهم كصغار. ولربما قضينا نحبنا من العار لو شاهدنا واحد منهم نتصرف بهذه الطريقة. ولو تواجدت فدريكا، لن أشرب حتى أفقد رشدي، وهذا مؤكد. قال مارك وهو يمد يده إلى الدفتر والقلم: "هل نتابع؟".

قالت هيلينا: "نعم. أين كنا؟".

"كتب سيرغي. ما هو عنوان آخر كتاب لك يا رجل؟".

قال سيرغي: "الغابة السيبيرية".

سألت بصوت مكتوم:"سيبيرية ماذا؟".

قال سيرغي:"الغابة السيبيرية". وتابع شرح أسباب تفوق الغابة السيبيرية على أشكال الغابات الأخرى. بالأخص بتولا سيبيريا. من الواضح أنها تستطيع أن تنمو في أكثر المناخات عدائية، وهو ما يجعل منها شيئا مناسبا للحفر على الخشب، لأنها ناعمة وقاسية جدا.

عويت أقول: "خشب سيبيري؟ خشب سيبيري قاس؟ هل هذا بورنو؟ هل وضعت يا سيرغي كتابا فاحشا؟".

انضمت هيلينا فورا وغردت تقول:"خشب استثنائي وصلابة فائقة. أعطني بعض الخشب الاستثنائي".

وقف إيفان أليكس ليضحك، واهتز مع قطته، فقد كانت لا تزال بين ذراعيه.  كنت مغشيا علي من الضحك وأسقطت من الشوكة في حضن سيرغي قطعة من سمك الرنجة. التقطها وألقاها على طرف صحنه. ارتعشت ركبته المبقعة من الرنجة. وكانت فدريكا قد نصحته بتقصير شعره جدا، وبدا به مثل ولد مدرسة أرعن. وبهذه الحالة كنت أنا السبب. وشعرت بعدم الراحة فجأة.

قال لي مارك: "هيي، لماذا لا تذهبين وتستلقين؟".

نهضت بصعوبة وتحركت نحو كنبة صغيرة بجوار النافذة.

قال أليكس: "انتظري. سأمنحك وسادة إضافية. تلك مغطاة بوبر القطة".

ولكن كنت قد تمددت ولا أجد الضرورة للحركة. وكنت لا أزال أسمع الآخرين، ولكن على الأقل لا أراهم، ولا يمكنني تفسير تعابير التذمر مني والتي انطبعت على وجوههم.

قالت هيلينا: "اسمع. هل صحيح أن لك ست زوجات؟ أعتقد أن أحدهم ذكر ذلك".

كنت أعلم من هو القائل. فهو أنا.

قال أليكس: "ست زوجات يا صاح؟. اللعنة".

بدأ سيرغي يتكلم قائلا أن هذا يعتمد على المقصود بمعنى زوجة، لكن رفعت صوتي من كنبتي قائلة: "كلا. لقد أحصيناهن.. وهن بالإجمال ست نساء".

أعجبني إحصاء عدد نساء أليكس، فهذا جعلني أشعر بزيادة الأمان لأنني رابع زوجة لمارك. ولست السادسة. كانت داريا سادس زوجات سيرغي. وهي صديقة قديمة لمارك، واحدة من سلسلة طويلة من الأصدقاء والمعارف الذين مروا بحياتي بعد زواجي بمارك. ولكن لم أقابلها إلا بعد عام على زفافنا، لأنها كانت حينها تعيش في أوروبا. ولكن كلمني مارك عنها كثيرا، ودائما بمزيج غريب من الحنين والتحير، كأنها شخصية من حكاية أو أسطورة، امرأة سمحت لها فتنتها الفائقة لتحصل على ما تريد، ولكنها دائما تفسد كل شيء في النهاية. قابل مارك داريا أول مرة قبل حوالي عشرين عاما، في بوسطن، خلال حفلة مهاجر جديد جاء من الاتحاد السوفياتي السابق. وكانت مركز الاهتمام، مع أنها ليست حكيمة ولا جميلة على نحو خاص. ولكن هي طويلة جدا - وتعلو بقامتها على بقية الضيوف كأنها شجرة وحيدة في وسط البرية. ويقال إن جد داريا أرستقراطي من رومانيا وانتهى به الأمر في سيبيريا، وكان والداها نحاتين مشهورين - وتلقى أبوها جائزة فنية سوفييتية هامة. ويشاع أن الأب مجنون ومقرف، وتسبب بهرب داريا من البيت حينما بلغت السادسة عشرة فقط. وبعد سنوات قليلة أتت إلى الولايات المتحدة بمفردها، وتدبرت قبولا في هارفارد. ثم انضمت لبرنامج دراسات مشهور عن فن الخشب في إحدى الجامعات.  وانجذب مارك إلى داريا. ولكن لم يمتلك الجرأة للتحرش بها. وكانت زوجته (الثانية) قد هجرته حديثا، وذهبت الى رجل آخر، وحملت ابنتها معها، وكان لا يزال متأثرا من ذلك. وحسب ما يذكر تبادل مع داريا عدة كلمات. ولذلك استغرب حينما اتصلت به بعد أسبوع واحد، لتطلب منه أن يأتي إلى المستشفى ويقلها بسيارته. وكانت قد خضعت لعملية ومن غير المسموح لها أن تقود سيارة. (لم يخبرني مارك ما هي العملية، ولكن يحتاج الشفاء منها لحمية معقدة). وتساءل لماذا اتصلت به من بين الجميع، واعترفت داريا أنها لم تكن مكالمتها الأولى. قالت وهي تتنهد: "كما ترى تبين لي أن معظم الناس أصدقاء للطقس المعتدل".

قابل مارك داريا في ردهة المستشفى، ورافقها إلى سيارته، وساعدها للركوب.  ثم سألها إلى أين يتوجب عليه أن يقودها. فأخبرته إنها حاليا غير مستقرة في شقة، وسألته إن كان بوسعها أن تقيم في بيته حوالي يومين. ومنحته ابتسامة دافئة وغريبة وبائسة جعلت قلبه يذوب.  وأقامت داريا في بيت مارك حوالي شهرين تقريبا. منحها خلالها غرفة نومه، ونام هو على كنبة في غرفة المعيشة. وكان يهتم بغسل ثيابها، ويأتي لها بلوازمها من البقالية، ويطهو طعامها، وفي الليل يساعدها في واجباتها المنزلية بعد أن يكون قد أضناه عمله الطويل. أردت أن أعلم إذا مارسا النكاح، ولذلك سألت هل وصلت علاقتهما لدرجة رومنسية في مرحلة ما. رد مارك إن هذا لم يحصل. وكلاهما لم يكن راغبا. أو بالاحرى إنه ألمح لها أنه متاح وذلك بعد أسبوع أو اثنين من مكوثها عنده. ولكنه فعل ذلك بدافع التهذيب، وليس لشيء آخر. ولم تقبل عرضه أبدا. ولم يقترب من الموضوع مجددا. كانا متوائمين. وبعد أسبوعين تعافت داريا بما يكفي لتعتني بواجبات الطهي. وكان يعود إلى البيت ليجد بانتظاره رائحة حساء شهية. كانت نباتية  وتعرف كيف تنتقي الخضار، وغالبا تستعمل مكونات لم يسمع بها مارك من قبل، مثل اللفت الألماني أو لفت طوكيو  أو الهندباء. سألته عن بناته واستمعت له باهتمام ملحوظ، وكلمته عن أحلامها ببناء عائلة وبيت حسب مخطط وضعته مسبقا، يضم باحة خلفية وحديقة خضروات. وسيعتنون جميعا بتلك الحديقة كفريق واحد - هي وزوجها المدهش و اللامع والوسيم، وأبناؤهما الكثيرون. وستعتني هي وزوجها بتربية الأولاد ليكونوا نباتيين، ولا يسع أحد أن لا يكون نباتيا؟. اعتقد مارك أن فانتازيا داريا سخيفة ومزيفة. كما لو أنها لا تعلم كيف تكون العائلة، أو كيف تعيش، ولا بد أنها كونت أفكارها من كتب الأطفال المصورة.

بعد خمس أسابيع، تعافت داريا تماما، وعادت لمتابعة حصصها في الجامعة، ولكن لم تستعجل البحث عن مكان خاص بها.  ولم يضايق مارك صحبة داريا، ولكنه كان يقابل بعض النساء، وكان يرغب بأن يتمكن من دعوة نساء إلى بيته. وأخيرا سألها هل خططت للمغادرة. بدا أنه فاجأها، ولاحظ أنه آلمها، وكأنها لم تتخيل أنه عمليا يريد منها أن ترحل، فتناسى الموضوع. وكان من الممكن لهذا التعايش أن يستمر إلى الأبد لو أنه لم يكن لمارك زوجة ثانية. وقد أخبرته فجأة أنها ارتكبت خطأ فادحا وستعود إلى بيتها مع بناتهما. وخشي أن يبلغ داريا بذلك، وقلق من ردة فعلها. لكن حينما أخبرها أخيرا أدهشته داريا وهي تزغرد فرحا. وبدا أنها سعيدة حقا لأن مارك سيستعيد أسرته، حتى لو ترتب عليها أن تغادر. وأبدى مارك استعداده لمساعدتها بالانتقال إلى بيت جديد، لكن قالت داريا إنها سترتب أمرها بنفسها. وذهبت لتتصل بعدد من معارفها، وسرعان ما حصلت على دعوة مؤكدة لتعيش مع إحداهن.

قاد مارك داريا إلى بيت متواضع في شارون. فتحت لهما الباب امرأة قصيرة زرية الهيئة يحيط بها عدة أطفال وكلاب تعوي.  وظهر أنها لا تعرف داريا على نحو جيد. ووقفت داريا وهي تستند على عمود الشرفة، وكانت شاحبة ومبتسمة، ولكن المرأة لم تبتسم لها. وبدا لمارك أن الشخص الطويل يبدو مقهورا ومكشوفا، وأكثر عرضة للمحن من الأشخاص معتدلي القامة. حمل حقيبة داريا إلى غرفة مظلمة ومزدحمة بالأشياء في مؤخرة المنزل، وحينما عاد وجد داريا تجلس على سجادة مهترئة في غرفة المعيشة، وتحاول يائسة أن تلاعب الأطفال والكلاب بلعبة مشتركة. 

قالت داريا للمرأة البائسة: "أولادك رائعون". وألقت نظرة اعتذار للكلاب، وسارعت تردف أن الكلاب رائعة كذلك. ابتسمت لها المرأة لأول مرة.

أقامت داريا أربع شهور هناك. ومن الواضح أن ذلك كان أسلوبها الخاص. فهي موهوبة بكسب أشخاص يقدمون لها خدمة، كتوفير المسكن والطعام وقيادتها بالسيارة إلى مكان ما. 

سألت: "هل هي إنسانة ذات نهج ما؟".

قال مارك: "كلا. على الإطلاق. لأصحاب المشاريع استراتيجية طويلة الأجل. لكن داريا متسرعة".

من السهل عليها عقد صداقات. ولكنها تخسرها بنفس السهولة. بعد فترة كانت المشكلة أنها تختبر حبك وحدود طاقاتك، وتتصرف كأنها مخدوعة إن لم تستجب لمطالبها بسهولة. ولا تقبل أي شيء أقل من الحب غير المشروط، حب من النوع الذي يتوقعه معظم الناس من ذويهم. خذ على سبيل المثال ضيافتها في العائلة المقيمة في شارون. بعد شهرين اشتكت من زحمة وحرارة غرفتها، وأعلنت أنها لا تناسب مريضة شفيت حديثا من عمل جراحي خطير، وطلبت تبديل غرفتها مع أحد أفراد العائلة. ولم تكن النهاية سعيدة.

قال مارك: "كنت محظوظا لأنها لم تستقر عندي سوى ثماني أسابيع. وهي فترة لا تكفي لتلعب لعبتها".

وعلى ما يبدو أنها تتبع نفس الأسلوب في حياتها المهنية. كانت تبرع بمقابلاتها، وتحصل على عمل محترم بإثر الآخر، ولكن سرعان ما تصر على دفع أي مشروع تعمل عليه نحو أقصى ما يمكن، وهي مشكلة متصاعدة بالضرورة، وينتهي الأمر بالاستقالة أو الطرد. وبعد عدة سنوات، أصبحت لها سمعة، وتراكمت عليها ديون، ولم يبق أمامها حل غير مغادرة الولايات المتحدة والبحث عن عمل في أوروبا. وهناك كررت نفس الدورة الشقية، وفي الختام سافرت إلى روسيا، حيث لم يسمع أحد شيئا عن ماضيها المقلق. وحيث منحتها الشهادة التي حصلت عليها من هارفارد موقعا ممتازا.

سألت: "وماذا عن حياتها الغرامية؟ هل كانت متقلبة أيضا؟".

قال مارك إنه يفترض ذلك، ولكنه لا يعلم عنها شيئا يذكر. وكانت داريا إما متحفظة جدا حولها، أو أنه ليس لديها ما يقال.

وأضاف: "من يعلم؟ بعض الناس غير محظوظين بالحب".

استفزني كلامه. كانت حياتي الغرامية، بعكس مارك ومعظم بقية اصدقائنا، باردة بلا أحداث أيضا. وأساسا كان بحياتي رجلان فقط، زوجي السابق ومارك. وهذا لا يعني أنني لست محظوظة بالحب. أليس كذلك؟. ما أفهمه من ذلك كما أعتقد أنني أنظر للحب بجدية لا يعرفها الإنسان العادي.

قلت: "ربما معايير داريا عالية جدا. ولا يمكنها الاستمرار مع أحد".

تنهد مارك قائلا: "بالتأكيد. أنا أوافقك".

ثم بعد عام من تلك المحادثة، اتصلت داريا بمارك لتخبره أنها وجدت أخيرا الحب الذي تبحث عنه كل حياتها. وأنها ستتزوج بأطول وأوسم وألطف وأذكى وأجمل رجل على الإطلاق.

شعرت بالمبالغة.

وقد قالت لمارك إنها قابلت سيرغي حينما كان يعمل على شيء عن والدها. وطلب منها الإذن لاستعمال صور قديمة: ويريد أن يكلمها، أولا عن أبيها، ثم عن طفولتها في سيبيريا. وبعد ذلك عن عاطفة حب سيرغي للمنحوتات الخشبية، وعن حبها للأشجار. وسألها عن شجرتها المفضلة، قالت البتولا السيبيرية. ولم يتمكنا من إنهاء المكالمة. ولم يستنزفا مخزون كلامهما. لم يأخذ كل منهما فرصته ليشبع من الآخر. وذلك هو الحب الحقيقي. حينما لا يسعك أن لا تكونا معا كل الوقت.

أعاد مارك التفكير بمحادثاته، واعتقد أن تعريف داريا للحب كان أبسط وأفضل تعريف سمعته في حياتي. وهذا كل شيء. لا يمكن لأي منهما أن يأخذ كفايته من الاخر. لا يمكن لأي منهما ألا يكون برفقة الآخر. حتى يحصل ذلك بالصدفة.

قالت داريا إنها ستقترن من سيرغي في الولايات المتحدة. وأنهما سيرحلان من هنا إلى الأبد. وكانت كارهة لروسيا في كل الأحوال - ولم يكن يريحها سياسات بوتين ولا نقص جودة الطعام النباتي. وكانت الخطة أن يستقرا في مدينة نيويورك. بسبب شركات التصميم الراقية والمتاحف، وكانت متاكدة أنها ستحوز على الاهتمام وتحصل على فرصة في شركة  تشجير وكتابة تاريخ الفنون.  وكانت قد وجدت مكانا ليقيما فيه - فقد قبل أحد أساتذتها  سابقا استضافتهما في غرفة نوم لا يحتاج لها. ووعدت أن تزورنا حالما تستقر هي وسيرغي.

قلت لمارك: "من المؤسف أن داريا لا يمكنها إغرائي. فأنا لست عرضة بسهولة للإغراء. ولدي وعي خاص تجاه ذلك".

قال مع ابتسامة: "سنرى".

مع ذلك كنت متشوقا جدا لرؤية داريا. وتابعت التفكير بشقتنا الصغيرة في الطابق الخامس، وحاولت أن أقرر إن كانت مناسبة بما فيه الكفاية. جاء زواجي من مارك نتيجة غرام هبط علينا مثل زوبعة، دون أن نخطط له ودون أن نتوقعه، واقتلع حياة كلينا من جذورها. تركت أنا ومارك كل شيء نمتلكه لآبائنا السابقين، ولم يكن بوسعنا الحصول إلا على شقة موحشة وداكنة، ثم أثثناها بأرخص المفروشات من إيكيا. وكان لها شكل يعزي قلب الأعزل: شرفة في الأعلى تواجه أبراج مبنى إلديرادو.  وكنا أنا ومارك فخورين بشرفتنا على نحو هزلي، كما لو أنها ابن أنجبناه. وقررنا أن لا نجرب إنجاب طفل. فقد كان مارك مسنا جدا، وأنا لم أكن أريد إلحاق الضرر بشعور ابنين لي.  كان أحدهما في الجامعة، والآخر على أعتابها، ولكنهما كانا ضعيفين. وأردت أن يعرفا مع أنني هجرت أباهما من أجل رجل آخر، لن أستبدلهما بأبناء آخرين.  وهكذا بطريقة ما كانت شرفتنا هي أقرب ما يكون لابن نعتني به معا. وجعلناها حية بالحب الذي غمرناها به. أحضرنا مفروشات متواضعة تصلح للحدائق ليمكننا تناول وجباتنا هناك. وجهزنا فيها حديقة خضروات وأعشاب وبندورة صغيرة. وطلبنا شجرة كرز محدودة الحجم، فوصلتنا في وعاء ضخم من الغضار. وكنا نتوقف على السلالم لنلتقط أنفاسنا ونشتم ونحن نحمل كل شيء إلى الأعلى حتى الطابق الخامس. والآن ونحن ننظر إلى الخلف على ماضي حياتنا، لا يسعني إلا التفكير بلعبة "بناء بيت" بطريقة صبيانية وبريئة، لا تختلف عن فانتازيا الحياة العائلية المشتركة بين داريا ومارك.

جاءت داريا إلى مسكننا بمفردها. واعتذرت عن سيرغي، الذي أخره اجتماع في متحف ميتروبوليتان مع شخص مهم. وتوجهت فورا إلى شرفة السطح ووقفت هناك وامتدحت المنظر. كانت قامتها وملامحها الرائعة جذابة حقا، بالإضافة لشكلها وابتسامتها الغامضة. وبدت كأنها أم وابنها وقد التحما معا، فقد كانت عاطفية وضعيفة في وقت واحد. وصدمني ذلك، ولكن لم أشعر بالقلق حينما منحتني اهتمامها. وسألتني أسئلة عن عائلتي. وامتدحت عملي. وأعربت عن إعجابها بالطعام النباتي الذي هيأته، وسألتني عن طريقة تحضير حساء القرنبيط المتبل. لم يسألني أحد من قبل عن وصفة أي وجبة. ثم بعد كأس أو اثنين مالت نحوي وهمست لي إنها تعتقد أنني ومارك منسجمان أكثر من انسجام مارك مع زوجاته السابقات. ولكن داريا لم تقابل الزوجة رقم 1، ومن الظاهر، أن الزوجة رقم 3 تافهة، ورقم 2 كارثة بكل معنى الكلمة، فقد هجرت مارك من أجل رجل آخر مرتين وليس مرة فقط. ثم أعلنت أن سيرغي اقترن قبلها بست زوجات ولكن هي لم تتزوج قبله وهذا أول زواج لها.

سألت: "هل تصدقين أنه تزوج قبلي خمس مرات؟".

قالت ذلك وهي تضحك، ولكن لاحظت أن ماضي سيرغي يربكها.

قال مارك: "أنا أعرف هذه الأشكال. من المتفق عليه أن يقولوا لا للمرأة ولا يمكنهم الالتزام بامرأة واحدة".

نبهني كلامه. وأسرعت بالمجادلة.

قىت: "لا. هذا ليس الصواب. بعض الرجال لا يلتزمون بزواج غير مثالي ويفضلون الاستمرار بالبحث عن شقيقة روح حقيقية".

سألت داريا: "هل بوسعي أن أعانقك؟". وحينما عانقتني أدهشني قوتها الفيزيائية الصرف التي عبرت بها عن امتنانها. عانقتها بالمثل بنفس القوة تقريبا.

وحينها شاهدت تكشيرة مارك. وعلمت لماذا. اعتقد أنني غراب أمام ثعلب داريا. ذلك كان امتنانها قد غمرني. وهذا يدل على سذاجة تسمح لي بالسقوط تحت سحرها. كما كان هو، وكما حصل للجميع. ولكنه مخطئ. ربما داريا ساحرة مشهورة، ولكن هذا لا يعني أنها لم تحبني بصدق وإخلاص. ألم أكن محبوبة؟. وحتى لو أنني عرضة لإغواء داريا لماذا لا أحبها بصدق، بغض النظر عن كل شيء؟.

تأخر سيرغي حوالي ساعة ونصف الساعة. وليعوض عن ذلك التهم السلالم نحو شقتنا ووصل بأنفاس لاهثة ومحمر الوجه، وكان يطلق تعليقات واحدة بعد الأخرى. كان يشكو من الشوارع، والأبنية، والزحام، والناس. والكهرباء والفن. كان المتحف مذهلا، ولا سيما المنحوتات الخشبية التي قدمها شعب أسمات. كانت تشكيلاته تأخذ الألباب - كانت كأنها جذور أشجار تنمو من جسم إنسان في الهواء لتربطه بأسلافه الذين تنمو جذورهم من أجسامهم في الهواء، أيضا، لتربطهم بالماضي السحيق، وكانت تكرر ذلك بلا نهاية. وهي طريقة ذكية لتعبر عن استمرارية الحياة، ولتشير إلى الخلود.  في لحظة ما توجب على سيرغي رفع نظاراته ومسح العدسات، وتصورت أن بخار حماسته الفائقة غلفها بالضباب. ثم نظر إلى أعلى وشاهد برجي إلديرادو التوأم أمامنا تماما، كانا ضخمين، مذهلين، ويسبحان في ضوء ذهبي.

قال سيرغي: "آه يا إلهي. ربما المشهد من سطحك أجمل ما في مدينة نيويورك".

وحان الآن دور مارك ليكون مصدوما من الفتنة ولأنظر له بتقطيبة على وجهي.

لم يكن سيرغي وسيما كما أوحت لنا داريا - برأيي كان مارك أجمل منه، إذا كنا موضوعيين - ولكنه مليء بسحر رومنسي. سحر من فترة مختلفة. قامته، نحافته، شعره الغزير، وكلامه المتدفق - كلها تصنع منه بطلا كيشوتيا. في الواقع هناك شيء كيشوتي بداريا أيضا. وهما واقفان على السطح معا، وذراع كل منهما تحيط بالآخر، وعيناهما تتفحصان برجي إلديرادو. كان من الواضح أنهما منسجمان.

الشيء الوحيد الذ رأى سيرغي أنه مخيب للآمال كانت الوجبة التي يسكبها. قال: "آه. أنتما نباتيان أيضا". وبدا ضجرا ومغدورا به، مثل طفل تلقى زوجا من الجوارب كهدية في عيد الميلاد. قال مارك لدينا بعض السلامي في الثلاجة، فاشتعل وجه سيرغي للحظة، ثم حول نظره إلى داريا يطلب إذنها. قالت: "حسنا. لكن فقط القليل منه". وأضافت بهمسة متآمرة: "لا يمكن للرجال أن يكونوا مثاليين في الليل. ولا يزال أمامنا رحلة طويلة".

كان زفافهما جميلا. بميزانية منخفضة لكنها مؤثرة حقا. مؤثرة جدا حتى  أنني ندمت لأني صممت أن أتزوج في بلدية المدينة. تبادل سيرغي وداريا المواثيق أمام مرفأ وليامسبيرغ، وكان يحيط بهما حشد من أصدقاء داريا، فقد اختاروا أن ينسوا أزماتهم السابقة معها كرمى لهذه المناسبة. وتكون لدي انطباع أن عددا قليلا من الضيوف يعرفون بعضهم بعضا. والشيء المشترك بينهم أنهم سمحوا لداريا أن تقيم بضيافتهم في وقت من الأوقات. وكان أفضل رجل وضيف الشرف هما آخر مضيفين لها.

كان يوما مشمسا قاسيا من شهر تشرين الأول. كانت الشمس في عيني كل الوقت، ولم أجد نظارتي الشمسية، ولذلك تابعت وضع يدي فوق وجهي لأوفر ستارة حامية. وكانت داريا ترتجف بثوبها الكريمي الفضفاض. وهكذا خلع سيرغي سترته السوداء، وعلقها على كتفيها. ولكنه بدأ يرتعش بدوره، فخلع أحد المدعوين سترته وقدمها إلى سيرغي. وهكذا حصلت داريا على سترة واسعة جدا، وحصل سيرغي على سترة قصيرة جدا. ورأيت أن الأمر كله سخيف ومؤثر .

كانت ميشيل منظمة العرس سيدة عجوزا صغيرة الحجم استضافت داريا حينما وصلت إلى الولايات المتحدة. قرأت ميشيل بصوت ممتلئ خطابا من قرطاس بأوراق مجعدة تخفق مع الريح.  ثم تقدمت فيدريكا حفيدة ميشيل، وكانت حينها مراهقة مزاجية وضخمة، وأنشدت أغنية "راقصني حتى نهاية الحب" لليونارد كوهين، وهي خيار داريا وسيرغي. وكان المفترض أن يرافقها على الغيتار زميلة في الدراسة، واعتذرت في آخر دقيقة، ولذلك غنت فدريكا منفردة، فبدت الكلمات خشنة ومنفرة قليلا.

سألت مارك: "ألا تعتقد أنه يفهم منها المعنى غير المقصود؟". ولكنه كان مشغولا جدا بطعامه.

تخيلت اثنين يرقصان على سطح شقة غادرة، مثل قمة جرف سطح، ويقتربان بالتدريج من الحافة دون أن ينتبها لها، حتى قام أحدهما بتلك الخطوة  الأخيرة غير المحظوظة، ليسقط كلاهما في الهاوية. وقامتاهما لا تزالان منحنيتين بوضع آخر رقصة لهما.

سألت آليكس وهيلينا من الكنبة التي أستلقي عليها: "هل تعلمان أن سيرغي قابل فدريكا في زفافه؟".

قالت هيلينا: "كلا. ماذا؟". كان أليكس يهز رأسه فقط ومارك ينظر نحوي متنبها. كان يكره كلامي حين يكون مباشرا ومن هذا النوع. لكن قررت أن أتجاهله.

نهضت قليلا واتكأت على الوسادات، ليمكنني رؤية الجميع. قلت: "لقد غنت 'راقصني حتى نهاية الحب'.

اكد سيرغي بقوله: "نعم. هذا صحيح. كانت خطيبتي تبحث عن من يغني لنا بالمجان، واقترحت المشرفة على زفافنا حفيدتها. وتلك كانت فدريكا".

كم من الغريب أن يتبدل كلامه إلى هذه الدرجة. كان بعكس حماسته السابقة. ولو توجب وصفه كان بطيئا ومحسوبا. وتساءلت هل هذا التغير حصل خلال زواجه بداريا أم بعد أن انفصلت عنه.

قالت هيلينا مع تنهيدة: "لفدريكا صوت جميل. هل ستكون هي الزوجة رقم 7؟".

قال سيرغي: "لا أعتقد أنه ستكون هناك سابعة".

لم يتوفر لهيلينا ولا أليكس فرصة لمقابلة داريا، لأننا صادقناهما منذ فترة قريبة، بعد العودة للحياة إثر نهاية الوباء، وكانت تشبه حركة الطبقات الأرضية.  بعض أصدقائنا اختفوا جغرافيا، وبعضهم ابتعدوا إيديولوجيا. فالدوائر الاجتماعية غيرت حدودها المألوفة، وضاقت، وتوسعت، واندمجت، وتكسرت. وفقدنا القليل من الأصدقاء وكسبنا غيرهم، ومن بينهم أليكس وهيلينا. وقابلا سيرغي من خلالنا، في بيتنا - ليس القديم بشرفته العالية، ولكن في شقتنا الجديدة العملية، والتي انتقلنا إليها بعد أن رفض مالكها أن يجدد الإيجار. ونظرت لهذا الانتقال على أنه إنهاء لطور رومنسي من زواجنا. وما تبعه فترة مقلقة وغير مستقرة يمكن أن تقود لتشكيل روتين مريح ورقيق، ولكن أيضا يمكن أن تؤشر على بداية النهاية.

استمر زواج سيرغي وداريا ثماني سنوات، وبعض الناس رأى أن ذلك معجزة.  كانت النقود إحدى المشاكل. مشكلة كبيرة. لم يتمكن سيرغي من الالتحاق بعمل. كانت داريا تحصل له على مواعيد مع شخصيات هامة، ولكن لم ينفعه ذلك، لأن لغة سيرغي الإنكليزية لا تتحسن مهما بذل من جهود - أو كما قالت داريا لأنه ببساطة لم ييبذل كل ما بوسعه.  وكان دخله الوحيد يأتي من مقالاته القليلة التي ينشرها في مجلات فنية. أما بالنسبة لها فقد كانت تجد وتفقد الأعمال بسهولة. وتابعا الحياة المشتركة في شقق الأصدقاء، عدة شهور هنا، وعدة شهور هناك. وتلك الإقامات كانت نادرا ما تنتهي على ما يرام، وكنت في سري أشعر بالسرور لأن شقتنا ضيقة جدا ولا يمكن استضافتهما. وفشل علاج مشكلة الإنجاب كانت أزمة إضافية.  جربا كل شيء. ولا أنسى وجه داريا بعد كل محاولة. لم يكن حزنا ولكن ما هو أسوأ - فراغ رمادي ويأس.  أما سيرغي فقد كان شيئا آخر. جلس بمكانه، متماسكا ومهتما، وهو يعانق داريا بذراعيه، مع قليل من الشعور بالراحة. قبل داريا لم أكن على دراية عملية بهذا الألم. كنت قد أنجبت اثنين وكانا صغيرين جدا. وكنت في خضم صراع الأمومة في تلك الفترة ولا يمكنني ملاحظة المعاناة التي يتسبب بها العقم. أنفقت ساعات أناقش مع أمهات شابات أخريات القيود التي نشعر بها. ومن الأسهل عليك إحصاء مصاعب إنجاب طفل،  لكن يصعب أن تتكلم عن ضروراته. ماذا يجعله ضرورة؟. ليس الشعور بالرضا، كلا، ولكنه أيضا يجلب الشعور بالامتلاء - نهاية الفراغ بسبب الرعاية،  أو الامتلاء بالقلق،  الامتلاء بالعاطفة، الامتلاء بالحب الكبير، مع التأكيد أن ذلك كان تقريبا لا يختلف عن الألم، ثم الامتلاء بشيء ثقيل وحقيقي يجعلك تشعرين بالجمود، وليس انعدام الوزن. تشعرين أنك هناك. ذلك ما كانت داريا تريده بكل قواها - أن تشعر أنها ذات جذور، وموثقة الرباط بأمان. وبعد كل محاولة فاشلة، كان يمكن لداريا أن تستمر في الفراش لفترة طويلة جدا. ثم تنتقد سيرغي بلسانها، وتتابع الهجوم عليه لعدة أيام - وأحيانا لأسابيع. 

"سيهرب". كلنا توقعنا ذلك بعد كل محاولة لا تقود لنتيجة. وأنا أيضا توقعت ذلك. ولكن رغبت أن يثبت لي أنني مخطئة. وأردت أن أرى الحب وهو ينتصر في خاتمة المطاف. وكنت أريد ذلك لأجل داريا ولأرفع من معنوياتي شخصيا.

وربحت الجائحة الجولة. ليس المرض نفسه - فكلاهما لم يكن مصابا - ولكن نظام الحياة الجديد الذي أتت به الجائحة.  قبل بداية انتشار كوفيد بوقت قصير، حصلت داريا على فرصة عمل غير متوقع في إيسلندا، من بين كل الأماكن. وأرادت أن يرافقها سيرغي، ولكن محاميه الذي يتابع موضوع هجرته نصحه أن لا يغادر الولايات المتحدة، ما دام ينتظر أوراق الجنسية الأمريكية. فقررت داريا أن تسافر وحدها. كان عملا مؤقتا، على كل حال، وسافرت لست شهور فقط. ورتبت لسكن سيرغي مع ميشيل، السيدة العجوز التي رعت زفافهما. ولم تكن تعلم أنه بعد أسابيع قليلة سيتوقف العالم - ستغلق المكاتب، وتتمزق الجامعات، ويعود الطلاب إلى مسقط رأسهم ليتابعوا الدراسة بالإنترنت - أو أن فدريكا، والتي كانت تدرس الموسيقا في جامعة بيركلي، ستعود لتسكن مع جدتها.  وفي أول عدة شهور، كان داريا وسيرغي يتكلمان بالزوم، وكانا يتناقشان بكل تفاصيل حياتيهما. واتصلت داريا في أحد الأيام حينما كنت أنا وسيرغي ومارك في نزهة في المنتزه. وتخلى عن سريته، وأمكننا سماع كل كلمة. أخبرها سيرغي أنه اقترض من ميشيل الدراجة وعبر بها جسر بروكلين إلى مانهاتن، وكانت الشوارع خالية جدا، فتابع بطريق متعرج حتى الزقاق الخامس. وأخبرته داريا أنه عليها أن تذهب إلى المتجر رغم عاصفة ثلجية، وكنا حينها في نيسان. وأضافت تقول: بالرغم من المناخ المتوحش الإيسلانديون شعب رائع ومريح.    ولأول مرة في حياتها لم تواجه الأزمات في العمل. قال سيرغي: "ذلك الشعب معتاد على اندلاع البراكين باستمرار. وهم مجهزون على نحو منقطع النظير  للتعامل مع إنسانة مثلك". ضحكت داريا. وكانت واحدة من تلك المحادثات بالزوم والتي أخبر بها سيرغي داريا أنه موجود الآن مع فدريكا.

وسمعت أنا ومارك عن انفصال سيرغي عن داريا. وحاولنا أن نتصل بها عدة مرات، كل على حدة ومعا، ولكنها لم ترد.  ولم ترغب بالكلام مع أحد. حتى أنها ألغت حساباتها بالتواصل الاجتماعي.  أخبرنا بعض الأصدقاء أن الشركة الإيسلندية عرضت على داريا وظيفة دائمة وقبلتها، ولكن لم نحصل على أي معلومات أخرى عنها.

"أنت. كيف حالك؟". فتحت عيني ورأيت مارك يركع قرب الأريكة. مرر أصبعه على خدي. وفجأة تلاشت المسافة  الشاسعة التي تفصل ما بيننا. لم يكن بعيدا عني بأكوان كثيرة - كان هنا، قربي تماما. معي. ولي.  لم يعد يدهشني أن الاتصال الفيزيائي المجرد يستطيع أن يفعل ذلك. كانت تعابيره رقيقة واستفزازية قليلا. وكان يدرك ما يرعبني، وكان يحاول أن يعلمني أنه ليس علينا أن نخاف من ذلك. ليس بعد، على الأقل.

سألني: "هل تريدين أن تعودي إلى البيت؟".

أومأت.

أبعد القطة الرمادية عن قدمي، وساعدني للنهوض. وحاول أليكس وهيلينا أن يحتجا. قالا: "هل أنتما راحلان؟ ماذا؟ الوقت باكر. كلا. لدينا زجاجة أخرى. ولا بد أنها بردت الآن بما فيه الكفاية".

ولكن أجبنا كما يفعل بقية الناس دائما في هذه الحالات - إنه علينا أن نستيقظ باكرا في الصباح القادم.

استغرقنا وقتا طويلا لارتداء لفاحتينا، وقبعتينا، ومعطفينا، وشد رباط بوطينا الشتائيين. ثم طلبت هيلينا أن ننتظر، وجهزت حزمة حلويات لنا. ثم قرر أليكس أن يخبر مارك طرفة طويلة فعلا. استمر سيرغي جالسا في كرسيه عند الطاولة، ينقر من طبقه  قطعة ملتوية من البطاطا.

كنا عمليا قد بلغنا الممر بانتظار المصعد الذي يصر، وحينها جاء سيرغي وخرج من الباب، وبدأ يعرج باتجاهنا.

أوضح قائلا: "ساقي نامت قليلا".

تأهبنا من أجله. كنا نعلم أنه سيسأل إن كنا قد سمعنا من داريا، لانه كان يستفسر عنها كلما اجتمعنا.

قال مارك: "لا. لا شيء يا صاحبي".

هز سيرغي رأسه، وعاد يعرج إلى الشقة.

ولكن كنت أعلم شيئا عن داريا، شيئا لن أعلن عنه. كنت قد وجدت بالصدفة مقالة عنها في مجلة إلكترونية. حسنا، لنكون صادقين تماما، كنت أبحث في غوغل عن داريا كل أسبوعين. وبالعادة أرى اسمها مرة أو مرتين، ولكن في هذه المناسبة رأيت مقالة طويلة تتكلم عن مشروع جديد عن "بستانية أمريكية مجتهدة" أزمعت على غرس أشجار في المرتفعات الإيسلندية  الرحبة والعقيمة. وشاهدت صورة لداريا وسط بحر من الرماد البركاني، وكانت تركع على شجرة ضعيفة. وكان رأسها مائلا، وابتسامتها الحذرة تؤكد أنها تعلم أن بعض الناس قد يعتقدون أن مغامرتها سخيفة، مثل طفل "يزرع" عصا في الرمال. ومع ذلك كانت ستفعلها.

رأيت شيئا ملهما في إصرارها على متابعة محاولاتها، بينما معظم الناس سيصيبهم اليأس على الأرجح. وينسحب نفس الكلام على إمكانية محافظتها على الأمل، مهما كان ذلك عبثيا وبلا طائل. احتفظت بتلك الصورة في هاتفي. حتى أكثر الحيوات سعادة تقود حتما إلى الفجيعة، سواء توقعتها أم لو تتوقعها. وآمل، حين يكون لي علاقة، أن تساعدني صورة داريا على الصبر والتحمل.

***

..........................

* الترجمة من النيويوركير. عدد 11 أيلول  2023.

لارا فابنيار Lara Vapnyar كاتبة أمريكية من أصل روسي. لها أربع روايات. ذكريات المتاهة 2006، رائحة الصنوبر 2014، لا زلت هنا 2016، اقسمني بالصفر 2019.  ومجموعتان من القصص: يوجد يهود في بيتي 2003، بروكولي وحكايات أخرى عن الطعام والحب 2008.

ترجمة صالح الرزوق

في نصوص اليوم