صحيفة المثقف

واثق الحسناوي: تجلياتُ الرَّفض في شاهدةِ قبرِ السَّماوي.. دراسة سيميائية حجاجية تواصلية (3-4)

واثق الحسناوي2ـ رفض الأنظمة السياسية المستبدة:

ويرفض الشاعر صوت دوي المدافع ,كونها مرفوضة أيضا من قبل والدته، فأصوات المدافع تفزع عصافير نخلة البيت .في إشارة إلى الطفولة والسلام والوئام:

القروية أمي

لا تحبُّ سماع دوّي المدافع

ليس لأنّه يفزع

عصافير نخلة بيتنا ..

إنّما لأنّه يذكّرها بـ"جعجعة القادة "

الذين أضاعوا الوطن

وشردوني !(34)

لقد وظف الشاعر / المرسل لفظة " دوي/ دال " والمدلول المعجمي لها / صوت المدافع كدوي للنحل والطائر وحفيف الاشجار جميعها اصوات تسمى دويا اذا استمرت وبانت.

أمَّا المعنى الدلالي التداولي / الاصوات المزعجة التي تبث الرعب، لذلك هي مرفوضة لأنها تزعج أمه، ونقف هنا امام مشهدٍ تراجيدي درامي يحاكي حالة الرعب التي مرت بها ام الشاعر نتيجة اصوات المدافع المرعبة.

مشهد تتضاد فيه اصوات المدافع مع اصوات العصافير وحفيف اشجار النخل الباسقة، وهو امر مرفوض بالنسبة للشاعر، الذي اعتبره يهدد الامن والسلم والسلام في بيته / وطنه، الذي تتعايش فيه أمه مع النخلة والعصافير والأهل والجيران، ويعيش الجميع في سلام وأمن وأمان؛ لذلك يرفض الجميع هذا العدو الغاشم المُبهم الجاهل الذي يستغل ويستعمل لغة السلاح للسيطرة وفرض نفسه بالقوّة .

وهنا يتضحُ صراع الأنا والآخر وكذلك صراع الوجود مع العدم (امّا أكون أو لا أكون) .وهكذا صوّر لنا المرسل مشهدا آخرَ من مشاهده الدرامية والتراجيدية الرافضة لكلِّ مظاهر القوّة والعنف والاستبداد، والاقصاء بأسلوب المفارقة والحِجاج ايضا .

فهو يحتجُّ على أصوات المدافع كونها تُهدد عصافير نخلة بيته وتزعج الوئام والسلام الذي تحظى به امه، ويرفض كافة الطرق القسريّة، والجبريّة التي تبعد الشاعر عن وطنه الذي ترعرع فيه، متمثلا برمال الصحاري في مدينته العصماء، وتشبث الأشجار بالأرض بقوله:

لنا مِن صحارينا

صبرُ الرّمال على العطش

مِن جبالِنا:

قوّةُ التشبث بالأرض

مِن واحاتِنا كراهةُ الشَّجر للفأس

مالم يكن الاحتطابُ

لإيقاد تنور

يدرأ عن البطون

ذئاب المسغبة (35)

يؤكد اسلوب الرفض تشبث الشاعر العميق والطويل بجذور الوطن والوطنية، متشبها بصبر الرمال في الصحراء على العطش، و بجذور الاشجار في الصحاري منها الغضا المعروف والسدر في بادية المثنى (وهو ابن مدينة الصحراء وبادية السماوة التي ذكرت في التأريخ)، وكذلك يتشبه بجذور جبال العراق الشامخة الراسخة جذورها في بطن الارض، وجميعها علامات سيميائية تشير الى تعلق الشاعر بوطنه وتراثه وجذوره .

وتمثل هذه المقطوعة الارسالية مرسلة مَشاهد قصدية تأويلية تشبيهية استعارية حكائية، تُعضّد اسلوبه الرافض لكلِّ مظاهر القوّة والاقصاء، موظّفا فيها الشاعر اسلوب المفارقَة ايضا، لصدمة القارئ في قوله: (مِن واحاتِنا كراهةُ الشَّجر للفأس ...مالم يكن الاحتطابُ .. لإيقاد تنور ..يدرأ عن البطون ..ذئاب المسغبة ...).

فقوله (مالم يكن ..) مفارقة اذ اشعَرَ المتلقي/ المرسل اليه في البدء بأنَّ الفأس مكروه؛ كونّه يستخدم في الاحتطاب، وعاد واستدرك واستثنى عمل الفأس في الاحتطاب فقط من أجل اطعام الجياع، وهي التفاتةٌ رائعةٌ من قبل الشاعر لكي لا يُؤخذ على قوله بأن الفأس لا يستخدم فقط للشر، بل قد يكون للخير كذلك.

فقد حملت لفظة "الفأس" دلالتين متضادتين اشتقتا من وظيفته وليس من اسمه فالأسماء تطلق على الاشياء، لقرابة الشكل او الوظيفة او لعلاقة اعتباطية او سببية، فهو يرفض و يحتج على كراهته للفأس في حالة الافراط في استخدام القوة بالإكراه، والجبر والفرض والتعصب والعنت، مالم يكن استخدامه في الخير والاحتطاب من أجل اطعام الجياع، الذين تحوّل الجوع في بطونهم الى ذئاب كاسرة وهاجعة تنهش امعاءهم .

وفي مشهد اخر يصف الشاعر عدم الخضوع والاستسلام للقوّة الغاشمة التي تحاول ثنيه عن قراره، وهو يقف شامخا شموخ نخيل العراق متمنيا الموت / الشهادة وقوفا / بفخر وعزّة، دون الانحناء / الاذلال والسكوت على الضيم وطأطأة الرأس، متحدّيا عيون الطامعين او الطغاة او المحتلين، اذ يقول:

ولنا من النخيل:

شرف الموت وقوفا دون انحناء ..

فخذوا بنصيحتي:

عيونكم لا تقوى

على عواصف صحارانا ..

لن تتحمل:سجيل ابابيلنا:

دارنا أكبر من أن تُبتلع ..

يبدأ الشاعر مقطوعته هذه بجملة اسمية تقدم فيها الخبرعلى المبتدأ لضرورة شعرية او بلاغية، استعار من إباء النخيل، وشموخه دلالة الموت وقوفا، موظفا بعض المفردات القرآنية بتضمين سيميائي مقارِن للفظة "سجيل " وهي حجارة قوية وشديدة و"ابابيل" الجماعة من الطيور المختلفة تماما عن الطيور الموجودة في الطبيعة الآن اذ تحمل الحِجارة بمناقيرها وارجلها وترميها على جيش الملك اليمني أبرهة الاشرم جد النجاشي، الذي قصد هدم الكعبة.

لقد قارن الشاعرُ ما بين مشهدين تراجيديين دراميين (قديم وحديث) لحالة رفض العرب لأصحاب الفيل وجيش أبرهة الاشرم، الذي غزا الكعبة وهو نصراني، (36) ومحاولة تصويره لنظام البعث في العراق بالغازي او المحتل ايضا، وهو مسلم في اشارة الى أن مَن يفعل هذه الافعال أشبه بأبرهة النجاشي النصراني، لذلك سيدافع عن وطنه الذي وصفه بالدار التي لم ولن تُبتلع او تغتصب بالقوة، مقارنا أيَّاها بـ" الكعبة " كون داره / الوطن، مقدس كالكعبة عنده، التي أراد النجاشي هدمها.

3- رفض التفرقة والدعوة الى الوحدة:

في قصيدة:"كي لا نُذل أكثر": يرفض الشاعر التفرقة بين أبناء الشعب الواحد ويدعو الى الوقوف في خندق واحد ضدّ العدو فيقول:

لأن الشَّفة الواحدة لن تكون فما ..

وليس مِن نهر بضفة واحدة ..

لأن الوردة لا تكون بمفردِها حديقة ..

وما مِن طير يكون سربا بمفرده

فقد أن لكل الجداول أن تتحد (37)

تتناسل الصور الاستعارية والكنائية سيميائيا بتضمينات ارسالية مختلفة عضدت النسيج الشعري بوحداته التركيبية والدلالية، ابتدأها الشاعر بصورة مستوحاة من المثل العام (الدارج) الذي يقول: " اليد الواحدة لا تصفق" لأن الشَّفة الواحدة لن تكون فما) ويكرر المعنى الدلالي المستوحى من التراث الشعبي ذاته في العبارات الثانية (وليس مِن نهر بضفة واحدة) والثالثة (لأن الوردة لا تكون بمفردِها حديقة) والرابعة (وما مِن طير يكون سربا بمفرده)، اذ افاد التكرار ترسيخ وثبوت المغزى والمقصد والمعنى الذي اراده الشاعر لها وهو (ان التفرقة ضعف، وفي الاتحاد قوة).

فهي دعوة ارسالية تواصلية صادقة من الشاعر/ المرسل الى المتلقي / المرسل اليه، لرفض التفرقة / عدم التواصل او ضعفه، وهو نوع آخر من الرفض الذي تميزت به اغلب قصائد الشاعر المقاوم. ويكرر الشاعر دعوته في المقطع الثاني من القصيدة التي اسميتها "بالقصيدة المقاومة "وهو ما أوحى به العنوان، يقول:

لنكنَّ

حجراً على حجرٍ

كي ينهض الصرح ..

لونا إلى جانب لون (38)

وفي دعوته للإطاحة بالاحتلال ورفضه بشتى الانواع والطرائق، والوسائل الممكنة، وظَّف الشاعر إحدى صيغ فعل الأمر وهي صيغة "لام الأمر "مع الفعل المضارع (لنكن)، معللا دعوته للنهوض ببناء الصرح من خلال الأداة "كي "، رافضا الكسل والسكوت والقنوط والاستسلام والخضوع .

4- رفض الاحتلال:

وتتحول دعوة الشاعر من دعوة سلمية إلى دعوة مسلحة في نهاية القصيدة بقوله:

لتتواصل المسيرة

ويداً إلى يد

لنطيح بجدار الاحتلال

نلحظ إنَّ كلمة المسيرة -هنا- شكّلت ارسالية لها دلالات سيميائية كثيرة منها، مسيرة المقاومة/ الرافضة للاحتلال وكذلك مسيرة البناء والاعمار، ومسيرة الثورة التي تقلق المحتلين واذنابهم، وهي تدل كذلك على الحشد الجماهيري المتواصل والمتفاعل والمتوافق والمتفاهم على طرد ورفض المحتلين جميعا، التي استمرت طويلا في داخل العراق او في خارجه / المنافي.

وبهذا استطاع المرسل هرمنطقة مفردته سيميائيا. (مسيرة)، ضمن خطابه الذي يحمل إيحاءً ثوريا احتجاجيا حجاجيا، بأنَّ حان قطف ثمارها الرفض بسيميائية الاطاحة بالجدار / العازل بين الشعب والسلطة، وهو ايضا شكّل مفردة او وحدة دلالية متعددة الدلالات، اسهمت في اثراء المشهد بتعدد المعاني العميقة منها ضمن آليات الاشتغال السيميائي والحجاجي والتواصلي لديه .

فالشاعر مرة يصرح بالرفض مباشرة، ومرة يشير او يومئ اليه ومرة يقارنه بغيره وهكذا خلق جوا شاعريا شعوريا خياليا محاكاتيا حجاجيا صارخا بوجه القيود والظلم والاقصاء والديكتاتوريات او المنفى وغير ذلك .

5- رفض الإرهاب والعنف، والتطرف الديني (الاسلامي-المسيحي-اليهودي):

ويرفض الشاعرُ العنفَ والإرهاب من قبل الجهات الدولية الاستعمارية الاستحمارية، التي اتخذت من الدين أو الديمقراطية، حجّة لقتال واحتلال الاخر واقصائه، وتسببت في دماره ونسف بناه التحتية والفوقية، التي لا تؤمن بالأخر أو بالإسلام الحقيقي المعتدل، والتي تتستر بلباس الديمقراطية والليبرالية ما تسمى بالعرف الفلسفي:" الدين الحداثوي الجديد" الوضعي، وتستخدم العنف والإرهاب والتقتيل والتدمير ضدّ المواطنين الأبرياء والعزل، كما حصل في فلسطين والعراق وسوريا واليمن وليبيا ولبنان وغيرها من الدول الاسيوية والاوربية .

كما رفض الشاعرُ الاسلام الراديكالي السلفي المتشدد، الذي يتخذ من لباس الدين والتقوى حِججا سفسطائية مغالطة ضمن سلم حجاجي في خطابه اللاديني؛ لتحقيق مآرب سياسية شخصية ضيقة، فقد رَفضَه الشاعر بقوّة ووَصَفه أبشع من العنف الذي يستخدمه النازي الفوضوي الاشكال هتلر، وكذلك العنف الذي تستخدمه إسرائيل ضدَّ أبناء الشعب الفلسطيني الأعزل.

وفي الوقت نفسه، يرفض الشاعر العمليات الارهابية والاجرامية التي طالت الابرياء مِن المدنيين بحجّة الجهاد أو الدفاع عن الاسلام و المسلمين وارضهم ضد اليهود والمسيحيين كما يدّعي اصحابها، في اشارة الى تنظيم القاعدة وحركة طالبان، وتنظيم داعش، وجبهة النصرة، والجيش الحر، وغيرها من التنظيمات الاسلامية الراديكالية المتطرفة، التي لا تمثل الاسلام المحمدي المعتدل والمنفتح على الاخر، والمؤمن بحرية التعبير والتفكير، والاعتناق والانعتاق، والانفتاح على الاخر، وحرية الرأي والرأي الاخر، كما جاء في كثير من النصوص القرآنية المباركة، منها في قوله تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾. (النحل / 125) .وقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ . (فصلت / 34) .وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) ۞ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾. (الحجرات / 13-14).

لذلك قارن الشاعرُ ما بين المسلمين المتشددين، وآريل شارون السفّاح في ارساليته الحجاجية هذه، بل فضَّله عليهم، اريل شارون والديكتاتور العالمي النازي هتلر، كونهم اكثر نفاقا ودجلا وكذبا وضررا على المسلمين بنظره.

وهذا خطاب حجاجي سيميائي خطير جدا، إذ حاول فيه الشاعر قطعَ التواصل مع هكذا مرِسلين دجّالين ملفقين منافقين متسترين بالدين، عبر الروايات الخرافية المزيَّفة والمحرَّفة والملفَّقة والمدسوسة و الكاذبة، التي يستندون عليها ويظللون اتباعهم بها، فهو خطابٌ رافضٌ متمردٌ ثوريٌّ شديدُ اللهجة، فوجه الشاعر رسالة رفض الى حكّام وقادة العرب، وزعماء ورجال الدين المتشددين في مقارنةٍ حجاجيةٍ مُفارِقة جدا.!، اذ يقول:

أيّها الهمجيون

الجنَّةُ ليست منجمَ فحمٍ حجري

لتفتحَ أبوابها بالديناميت ..

ليست مَسلخاً لتُدخلَ بحزِّ الرؤوس ..

إذا كان الإرهابُ جهاداً

والقتل الأعمى تقىً

فان ارييل شارون

اتقاكم جميعا ..

ولا ثمة أجدر من "الفوهرر"

بالإمامة !(39)

يستهل قصيدته هذه بخطاب شديد اللهجة (ايُها الهمجيون) في اشارة واضحة الى جهل العرب المسلمين، بخاصة في امور دينهم ودنياهم، وانشغالهم بالحروب والصراعات الهمجية الطائفية المذهبية الداخلية التي عزّزها واججَّها وكان وقودها، الفقه الاسلامي المشوب والمزيف والمضروب من الداخل، والذي أوصلهم الى حد الهمجية والخرافية والعجمة والعزلة والجهل والتخلف.

منددا الشاعر بالتبعية العربية الاسلامية للأجنبي شرقا وغربا، والتي اوهمت الشباب المسلم المجاهد (بنظرهم)، بأن الاسلام ينمو ويصمد بالتبعية الاجنبية (الشرقية والغربية)، وإنّ طريق تفجير الانفس هو الوحيد الذي سينال رضا الله (جل جلاله)، والرسول (صلى الله عليه وسلم)، والطريق الوحيد والسريع والسهل الى دخول جنة عدن، واللقاء بالرسول (صلى الله عليه وسلم).

ففي مقارنة سيميائية بسيطة، نفى الشاعر أن تكون الجنَّة منجمَ فحم يُفجّر بالديناميت، لغرض الحصول على كنز الفحم، أي ليس الموضوع في استخدام القوة -كما يفهمون - بل عكس ذلك .وليس الدين والجهاد يقام بسلخ الجلود وحزّ الرؤوس والقتل الاعمى والتفجير الشمولي ...متسائلا باستغراب ما فرقكم عن اريل شاورن وهتلر ؟! وفي هذا المقطع ايضا اشارة الى التلاعب بالمصطلحات الدينية والسياسية وتوظيفها من قبل رجال الدين والساسة لمآرب مادية شخصية بحتة.

وبهذا يحتج الشاعر على رجال الدين، ويرفض فقههم الأعمى البغيض الجاهل، الذي يدفع بالشباب المسلم الى المشانق والمحارق التي هي اشبه بمشانق اريل شارون ومحارق هتلر .كما في قصيدة "كي نغفو مطمئنين دون كوابيس، (40)

وبما إنّي أتوجس من قائمة العنوانات الطويلة للقصائد، بوصفها عتبات نصية ارسالية تواصلية سيميائية / علاماتية استدلالية مفتاحية للمتون، وبوابات دخول لمضامين النصوص، ووصف مختصر ومكثف لها، صدارة من مرسل فاعل وقاصد وخالق للعلم المنتج، الى متلق / مرسل اليه مستقبل متعاون، مستعد لتلقي واستقبال العمل المنتج / العنوان وتأويله على وفق العلاقات السياقات والاكراهات والاشراطات المتعارفة والمتعالقة بين الطرفين. على الرغم من اني كنت اتمنى على الشاعر أن يكتفي بالعنوانات الرمزية المختزلة والمكثفة إلا انَّه معذور؛ كونّه مشغوفا بحبّ الوطن الذي يتمنى أن يقدّم له كلّ شيء، ولذلك قدّم له كلّ ما يعني ويعين من العنوانات فيقول:

ستبقى حقولنا حطبا لمواقدهم ..

وصدورنا هدفا لرصاصهم ..

وسيغدو ربيعنا حطباً للخريف (41)

ففي هذا الخطاب الاستعاري الرمزي القاتم (حقولنا / ارضنا واهلنا، حطبا / ضحية وعرضة للسرقة والنهب والاغتصاب، مواقد / معارككم وبطشكم وسطوتكم وسلطتكم وهزائمكم، صدورنا / ابناؤنا شبابنا عوائلنا ثوارنا رموزنا، رصاصكم، ربيعنا/ الشباب العمر السعادة الراحة الامل الغضاضة انتاجنا ثمرنا حيواتنا قوانا، خريفنا / الدمار والخراب والحروب والسقوط والجهل والتخلف والخرف) تصوير توليدي مجازي مكثف ضمن اللوحة التراجيدية الدرامية، التي تعددت فيها الاصوات والامنيات وتداخلت او اشتبكت فيها الاحداث وتعددت السياقات وتكثفت الايحاءات والدلالات الرمزية فيها، اذ يؤكد الشاعر على انَّ اوضاع الاحتلال الداخلية والخارجية، ستبقى على ما هي عليه، مالم تتحرك الجماهير الرافضة له جملة وتفصيلا، وتنتفض وترفض واقعها المأساوي، الذي هي فيه لتخلق وتنتج، وتنتشل المستقبل الذي اوحى به الشاعر من خلال تكرار حرف السين الذي يفيد الاستقبال (ستبقى، سيغدو) ، في اشارة الى إنَّ الحقول / الشباب العراقي المضحي مِن أجل التحرير، والرصاص / السلطة الجائرة و المحتل الغادر الجاثم على صدور العراقيين، سيبقى لأمدٍ طويل، كما صرّح بذلك كبار السياسيين الامريكيين. ويعضّد الشاعر دعوته للوحدة والاتحاد الشعبي والجماهيري، بقوله:

ما لم نتحد اتحاد:

العطر بالورد ..

الجذر بالطين ...

انهار مسيرتنا بسدود اليقين ..

بصرنا بالبصيرة

وقلوبنا بالإرادة ...

يؤكد الشاعر على أن المقاومة الوطنية ستستمر ضدّ كافة المظاهر السياسية والاجتماعية والدينية الفاسدة، التي خذلت ابناء الوطن الواحد ومزقتهم بالطائفية والعنصرية والمذهبية والقبلية، من خلال الاتحاد الذي يدعو الشاعر اليه؛ كونه مفتاح الخلاص والنجاح والانتصار في أشرس معركة، يخوضونها ضدّ الديكتاتوريات أو الاحتلال أو الفساد أو الإرهاب أو التزييف ..

ويعود مرّة أخرى يؤكد سياسته الشعرية وشاعريته السياسية، ضمن ستراتيجيته النصية التي تخلق تماسكا تواصليا توريطيا مع المتلقي، وتخلق في الوقت نفسه، صدمة وفجأة وفجوة، وثغرة لدى العدو.

إنَّ بناء النَّص السَّماوي، يعتمدُ سياسة الهدم والتفكيك وسياسة الحبك والسبك واعادة الصياغة، هدم مراكز القرار والسلطة واللغوس، فهو يهدم سياسة العدو وسلوكياته بمعوّله القاهِر المُبدع المُفلق، ويبني بيديه الناعمتين تواصلا رشيقا شفيفا شفافا ناعما في الوقت نفسه . إنَّها السياسة الناعمة التي تنسف من الداخل لتحطّم اللوغوس الدوغمائي الاوديبي السفسطائي المتمركز1 باختياراتها وانتقالاتها وتعبويتها الشعبية والاعلامية والشعرية، لتعيد بناءه وصياغته على وفق رؤياها واستراتيجيتها.

فهي سياسة لهدم ذات الآخر /العدو، وبناء ذات الأنا/ وذات المتلقي المتعاطف او المتعاون مع الأنا . فالشاعرُ يحلّق بعيدا عن سياسة التقليد والانكشاف والانكماش والجمود والركود والاستسلام، ليخلق الفجوات والثغرات في خطاب وسلوك العدو وهو يحطبُ بمعوله التفكيكي هذا في حقول الشوك والادغال الضارة؛ ليبعدها عن بساتينه اليانعة، ويستعد الى عملية النسف والسقوط التي كان يحلم بها ويرقبها عن كثب وقد تحققت وكما توقع، ويبني ويحصّن ويطوّر منظومته الدفاعية من الداخل، وبهذا نجح السَّماوي في استمالة متلقيه، وتوريطهم، وجذبهم الى ساحته الادبية، والاجتماعية، والسياسية والفكرية، برفضه للتحرير الذي يأتي مع المحتل أو من الخارج، بقوله:

لنغفُ مطمئنين

اطمئنان الحمائم

تحت ظلال المآذن ..

دون كوابيس تقرّح أجفاننا

برؤية خنزير

من خنازير البتناكون !(42)

دعوة أخرى بصيغة فعل المضارع المسبوق بلام الامر(لنغف) للاطمئنان بعد التحول الكبير الذي شهده العراق عام 2003، اطمئنان الحمائم تحت ظلال المآذن، وفيها اشارة عقائدية ايضا كما يرى "برجسون" بأنَّ الدين يبعث على الاطمئنان ويبث السعادة والاستقرار؛ لذلك عدّه ضرورة اجتماعية تنظيمية توحيدية لجماعة او أُمة ما . وأجاد الشاعر وصف الأثر الذي يتركه الاحتلال في العين من قرح، مستعيرا للمحتل لفظة "خنزير " وهي من الالفاظ المرفوضة والمنبوذة والمحرّمة في المجتمعات الاسلامية والعربية، اذ ذُكرِت في القران الكريم بقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله ﴾ (البقرة/ 173) . .

والجميل أنَّ الشاعرَّ على الرغم من المعاناة والمآسي التي مرّ ويمرّ بها، مؤمنٌ بالغد المشرق، مؤمنٌ بأنَّ الفجر سيبزغ مهما طالَ الليل وقد تحقق حلمه في عام 2003 ضمن قراءاته المستقبلية للواقع العراقي، والتي وظّفها في ستراتيجيته النصية، اذ ورّط المتلقي وشحَذ همَّه وحشد فضوله لمتابعة الدراما التراجيدية، التي نسجها له من بنات افكاره، وهذا المشهد التراجيدي يذكرنا بقصة الشاعر "محمود سامي البارودي" في المنفى: وبيته المشهور(فَقَدْ تُورِقُ الأَغْصَانُ بَعْدَ ذُبُولِهَا وَيَبْدُو ضِيَاءُ الْبَدْرِ فِي ظُلْمَةِ الْوَهْنِ)، وهي سِمة الشاعر المقاوِم الذي لا ييأس أو يستسلم، وهو في المنافي أو زنازين الاعتقال، اذ يبقى تحقيقُ الحلم يراوده في كلّ لحظة، وهو يعيش حالة الانهمام والانحباس الداخلي، بطاقاته المشحونة بحب الوطن، والتحرر والاستقلال، والعودة الى احضان الوطن .

 

د. واثق الحسناوي - جامعة المثنى

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم