صحيفة المثقف

فلاديمير سوروكين: الهرم الأحمر

2861 سوروكينبقلم: فلاديمير سوروكين

ترجمة صالح الرزوق

بعبارة مباشرة خلط يورا  بين فريازينو وفريازيفو، وتابع بالاتجاه الخاطئ. ولكن ناتاشا شرحت له كل شيء قائلة: اذهب إلى محطة يارسلافسكي واستقل القطار المتوجه إلى فريازيفو أو إلى شيلكوفو. كانت محطته هي زاغوريانسكايا ولا تتوقف كل القطارات هناك. قطار فريازيفو يتوقف. أما قطار فريازينو فيتابع دون تمهل. وقد ركب يورا بالخطأ قطار فريازينو.

قالت له ناتاشا وهي تقف في محطة دينامو وتمتص مثلجات بين قطعتي بسكويت هش:”يوجد قطار في الساعة السادسة والربع - ويأتي بموعده في أيام العمل”. ثم أضافت:”ذلك القطار يتوقف في هذه المحطة دائما”. المثلجات كانت تقدمة من يورا.

قال يورا وهو يقضم من مثلجاته وبسكويته:”وكم يستغرق... ممممم. ليصل القطار إلى هنا”.

ابتسمت ناتاشا وقالت:”أربع وخمسون دقيقة. وستكون في محطتي في السابعة”.

كانت هذه ثالث مرة يلتقيان بها، ولكن لسبب ما كانا يستعملان الصيغة الرسمية في التخاطب.

“هل ستكون الحلقة كبيرة؟”.

ضحكت ناتاشا وقالت:”لا أحب الحلقات الصغيرة”. وهزت رأسها.

كانت تهز رأسها باستمرار إذا نطقت بشيء مضحك. ولهذا السبب، كانت تبدو صادقة وربما ساذجة بحماقة، لكنها ليست غبية. واستنتج يورا ذلك سريعا. وبدأ يحبها. كانت قصيرة، مسمرة، نحيفة، واضحة، ودائما مبتسمة - ومن الواضح أن الدم الذي في يجري في عروقها جنوبي. مولدافي أو أرمني. وربما يهودي. ولكن يورا لم يستفسر عن جذورها. دائما هناك موجة من السعادة تشع من ناتاشا. كان شعرها أسود، ومربوطا بجديلتين تطوقان عنقها. سألها وهو ينهي مثلجاته السائلة:”وهل أتوقع أن أقابل زمرة كبيرة من معجبيك؟”.

هزت ناتاشا رأسها مجددا وقالت:”بلا شك!”.

“هل لديك مسدس خاص بالمبارزات؟”.

“لدى والدي مسدس بأسطوانتين”.

“سأوفر لك الذخيرة”.

“اتفقنا”.

نظر يورا لشفتيها، المبتسمتين والمغطاتين بمثلجات تلمع، وتخيل أول قبلة له معها. ربما... قبالة حديقة من الليلك.

وسألها:”هل يوجد أحواض زهور ليلك في بيتك؟”.

“لدينا حوض. مرتب. لكنها تموت، وقد قطعها الوالد. ولم يتبق منها غيرالجذامير”.

أنهت ناتاشا الحلوى، وأخرجت منديلا من جيب سترتها، ومسحت شفتيها، والتقطت وشاحها، الممدود على ساقيها السمراوين الرفيعتين طوال الوقت، ولفته حول ذراعيها، وربطته عند بطنها. ثم قالت:”حسنا. سأنصرف”. وأحنت رأسها ونظرت نظرة جانبية نحو يورا، وأضافت:”أراك يوم السبت يا يورا”.

رفع يورا قبضته بتحية وقال:”يوم السبت يا ناتاشا”.

التفتت ناتاشا وأسرعت بالابتعاد نحو النفق. ابتعدت عنه بالسرعة المعهودة التي فارقته بها في أول لقاء، وكأنها تسير على عارضة توازن في ألعاب الخفة. ثم تدحرجت بسرعة على العارضة، كما لو أن أحدا يدفعها، وقفزت في الهواء، ويداها ممدودتان للجهتين ورأسها مرتد للخلف، ووجها المحمر عرضة للعيون. كانت طالبة جمباز متفوقة، وتدرس في معهد التربية وتشارك في أستاد الطلبة. لكن يورا كان طالب سنة ثانية في الصحافة بجامعة موسكو الحكومية، وبترتيب 63، ويكتب في مجلة الجامعة. وبهذه الطريقة تقابلا. ثم شاهدا معا فيلما فرنسيا هو “تحت سقف باريس” وكانا قد شاهداه من قبل: يورا مرة، وناتاشا ثلاث مرات. ثم ترافقا بنزهة في حديقة غوركي. ثم دعته ناتاشا إلى حفل عيد ميلادها. والآن... ها هو يورا يفقد الفرصة.

كان يحمل هديتين. زجاجة شمبانيا، ومجموعة أشعار والت ويتمان بترجمة كورني شوكوفسكي. كان الكتاب مطبوعا بإخراج جيد في منشورات أكاديميا، واحتفظ به يورا في بيته، بين بقية الكتب، التي جمعها جده. لكنه نظر إليه مرة واحدة، وقلّب فيه بسرعة وأعاده لمكانه على الرف. ولكن حينما فكر ماذا يقدم لناتاشا في عيد ميلادها تذكره. كان قد أنفق جعالته الطلابية على ثلاثة تسجيلات جاز أمريكية، اشتراها من دكان صغير في كوزينتسكي موست. بقية النقود كانت تكفي الشمبانيا فقط بصعوبة. ولم يطلب يورا من والديه النقود لشهرين متتاليين.

شاعر جيد وكتاب أنيق. قال لنفسه. وأودع ويتمان والشمبانيا في حقيبة جلدية صفراء، ثم ألقى الحقيبة على كتفه. قرأ ويتمان على متن القطار. وأدرك بوقت متأخر أنه بالاتجاه الخاطئ. سأل رجلا رفيعا يحمل عكازة وعلبة في حقيبة من القماش:”هل يمكن أن تخبرني متى نصل إلى زاغوريانكا”.

رد الرجل المسن بتأتأة:”لن تصل. أنت تستقل قطارا لا يذهب إلى هناك”.

“ماذا؟”.

“حسنا... قطار فريازنو لا يتوقف في زاغوريانكا”.

قفز يورا ونظر من النافذة. كانت الأدغال وأعمدة الهاتف تزحف أمامه.

“يا للمصيبة..”.

“الموقف التالي هو محطة غرين باين. غادر هناك، واستقل القطار العائد إلى ميتيشي، ثم استقل القطار الذاهب إلى فريازيفو”.

ضرب يورا راحته بحنق وقال:”اللعنة”.

قال العجوز:”لا ضرورة للسباب”. ونظر بشكل مبهم من النافذة.

شتم يورا حماقته، وحمل حقيبته وتقدم نحو الفسحة.لم يكن لها باب، وكان هواء حزيران يتدفق فيها. ورن صوت من وراء ظهره يقول:”أنت. يا رجل. أعطني سيجارة”.

استدار يورا. شاهد رجلا خشنا يستند على الجدار في الزاوية. لم يلاحظه يورا لحظة وصوله. ونظر إليه بغيظ وأخرج من جيب سرواله علبة نصف فارغة من سجائر آسترا وعلبة ثقاب.  تناول سيجارة له، ثم مد يده بالبقية. انفصل الشاب عن الجدار، وتقدم بسرواله الأسود العريض، والتقط بصمت سيجارة، ووضعها بين شفتيه الضخمتين. أشعل يورا سيجارته وألقى بعود الثقاب المحترق وراء ظهره.

قال الشاب بصوت آمر:”هات النار أيضا”.

تردد يورا، وفكر أن يخبره أن يجد ولاعة خاصة به، ولكنه أشعل عود ثقاب وقربه من طرف سيجارة الرجل. وبدأ الشاب بالتدخين. كان وجهه شاحبا ونحيلا بعظام وجنتين عريضتين وذقن مائلة.

سأله يورا بعصبية:”هل غرين باين قريبة؟”.

رد الشاب:”من يعلم بحق الجحيم. أنا مزمع على مقابلة صديق في إيفانتيفكا. أنا لست من هنا. وأنت مثلي، أليس كذلك؟”.

وافق يورا بحركة من رأسه. فحص الشاب يورا بلا مبالاة، ثم عاد يستند على الجدار، والسيجارة بين شفتيه المبتلتين، وعيناه نصف مغمضتان. استدار يورا ونفخ الدخان من إطار المدخل. كان القطار يتتقدم  ببطء. هذا القطار يزحف كالسلحفاة، قال يورا لنفسه بحنق. بليد. أحمق. منقرض....

وبسرعة أنهى سيجارته وألقى العقب على العشب المغبر الذي يمر القطار من خلاله. وعاد للعربة. كان نفس الركاب يجلسون على نفس المقاعد. وشعر أن بعضهم نظر إليه بتهكم. قال لنفسه: أنا مادة للضحك. وهذا صحيح.

فتح يورا كتاب ويتمان وعاود القراءة فيه. بعد ثماني صفحات، أعلن صوت مجلجل بمكبر الصوت :”غرين باين”. حمل يورا حقيبته، وغادر الفسحة، لم يكن الرجل ذو الشفتين الكبيرتين في مكانه، وقد انتقل إلى جوار ثلاث سيدات من مختلف الأعمار: امرأة عجوز، امرأة ضخمة متوسطة العمر، وشابة. وتوقف القطار بشخير مزعج. وغادره يورا برفقة النساء ونظر حوله. وهبط عدد محدود من المسافرين نحو المنصة الخشبية للرصيف، وهرعوا باتجاه القرية التي تشاهدها من مبعدة بين الأشجار. وزحف القطار مغادرا. وأدرك أن عليه أن ينتقل للرصيف المقابل. قفز يورا على القضبان وتخطى السكة، وهو يقفز على الخطوط الحديدية، وكانت حارة بسبب الشمس. وحينما وصل الطرف الآخر، مسح الرصيف بعينيه، ووقع بصره على سلالم خشبية، فصعد عليها. لم يجد أحدا على الرصيف. كانت بعض أعقاب السجائر ملقاة بإهمال على الأرض. وعلى الإشارة الطويلة الشبكية لم يبق غير كلمة “باين”. وأمكن يورا أن يشاهد ظل الكلمة المفقودة “غرين” والتي كانت هناك في يوم من الأيام.

قال يورا ضاحكا بشكل فاتر:”لا بد أنهم يطلون الباين بلون احمر”. واقترب من مقعد تقشر طلاؤه الأبيض، وجلس عليه. نظر للساعة الكبيرة التي قدمها له والده حينما كان في جامعة موسكو الحكومية:  بلغ الوقت السادسة واثنتين وأربعين دقيقة.

قال: “سيبدأون دوني”.

أخرج سجائره، ثم أعاد التفكير، وأبعدها. قال مجددا:حماقة”. ونظر لأشعة النور التي علقت بأغصان أشجار السرو، وبصق على أرض قذرة.

مرت اثنتا عشر دقيقة.

ثم بعدها ثلاثة عشر.

عشرون.

لكن القطار لم يظهر.

“اللعنة علي. عيد ميلاد سعيد يا ناتاشا”.

نهض يورا وتقدم على الرصيف. لم يكن هناك روح واحدة على مرمى النظر. وكانت الشمس تهبط من السماء، وهبطت بين جذوع الأشجار. كانت حقيبته على ظهره، وبدأ يتقدم على ألواح مغبرة، ويضرب عليها بصندله بغضب.

“قذارة!.

“محزن!

“مقرف!”.

أنت الألواح بغباء تحت خبطات قدمي يورا. وأغضبه أنينها. وبعد أن سار مسافة تعادل كل الرصيف، استدار وبدأ يعدو، وجمع كل قوته وحاول أن يقوم بقفزة طويلة مثل لاعب جمباز، ينتقم من هذا الرصيف المتهدم.

“غباوة!

“هراء وقذارة!”

وقعقعت الألواح. اقترب يورا من اللافتة الشبكية الحاملة لكلمة “باين”.

“يوم باين!

“أنا باين من أجل القطار!

“آه، ماص أعضاء الذكورة!! متى! سيحين! وقت! قدومه!؟”.

قال صوت ما بنبرة عالية:”بغضون ثماني دقائق”.

استدار يورا. كان رجل يجلس على المقعد وقد قفز من جواره للتو. كان هذا شيئا غير متوقع لذلك جمد يورا. رأى رجلا بوجه بدين منفوخ وبثياب صيفية خفيفة وكان يبادله النظر.

دمدم يورا:”ماذا؟”. ولم يصدق عينيه.

رد الرجل:”القطار سيصل في غضون ثماني دقائق”.

لم تكن هناك تعابير على وجه الرجل الضخم الأبيض الشبيه للكمثرى. بلا تعابير على الإطلاق. تماما بلا تعابير. كانت هذه أول مرة يرى فيها يورا في حياته وجها من هذا النوع.

“قطارك الكهربائي”.

ثبتت عينا الرجل الفارغتان من التعابير على وجه يورا. وبدا ليورا أن وجه الرجل متجمد. وأن الرجل نفسه... خرج من المشرحة. جثة. رجل ميت. أصاب يورا فجأة الدوار. بنفس الطريقة التي شعر بها حينما ضربته الشمس في باكو في الصيف المنصرم. وارتعشت ساقاه.

قالت شفتا الرجل المتجمدتان:”اجلس من فضلك. تبدو كأنك تلقيت ضربة شمس. الطقس شديد الحرارة بالنسبة لبداية حزيران”.

همد يورا على المقعد. تنفس بعمق، وعادت له أحاسيسه، ومسح بيده العرق من جبينه.

نصحه الرجل بقوله:”من الأفضل أن لا تقفز قفزة طويلة في هذا الجو الحار”.

ولاحظ يورا كم كان الرجل بدينا. لم يتحرك أبدا واستمر بالنظر باستقامة للأمام. كانت ثيابه من طراز قديم: قبعة باناما بيضاء، بذة صيفية بلون بني خفيف، دراعة بيضاء نوع كوزوفوروتكا مع قبة مطرزة. حذاء قماشي أبيض يبرز من تحت سرواله العريض البني الخفيف. كان صديقا طريفا من أيام جده الراحل - يحب حمع النقود المعدنية، والنكات، ويخمر كثيرا - وقد ارتدى بهذه الطريقة في الصيف، ثم إنه ميت. حذاء الرجل البدين المضحك - عمليا كان بوطا بساق منخفضة - أعاد يورا لوعيه. أطلق أنفاسه. ملأ رئتيه بالهواء. طرد أنفاسه مجددا. كان وديعا. وانتهت الفترة الضبابية. وشعر بالرشاقة والمرح.

فكر يورا: من أين جاء؟. من حيث لم يتوقع... لماذا لم ألاحظه؟. هل ارتفعت حرارتي وأصابتني الحمى؟.

وتابع الرجل البدين ينظر نحو الأمام بلامبالاة هادئة ودون أي تبديل في موضعه. 

سأله يورا:”ثماني دقائق، أليس كذلك؟. أنت تعرف المواعيد؟”.

“أصبحت سبع دقائق”.

“هل في عقلك ساعة منبهة أو شيء من هذا القبيل؟”.

“أبدا”.

وبدأ يورا يشعر بالخفة وليس المرح. وضحك بطمأنينة وحك قفا رقبته.

“أنت تعرف ما يتوجب عليك أن تعرفه؟”.

“تقريبا”.

“حسنا. ما هو ميتينسبيل؟”.

“منتصف لعبة في الشطرنج”.

“صحيح. ماذا عن... منكب الجوزاء Betelgeuse؟”.

“نجم في مدار أوريون. أحمر وعملاق له نفس قطر مدار جوبيتر حول الشمس”.

“بالضبط!. الآن أخبرني من هو دايف بروبيك”.

ضم الرجل البدين شفتيه المتجمدتين وصفر صفرة جميلة من نوع “تايك فايف - *لحن جاز”.

شهق يورا وقال:”هوهوووو”. وصفق ركبتيه. ثم قهقه. وقال:”أنت موسيقي. هذا هو أنت، صحيح؟. والموسيقيون يجيدون الشطرنج؟. هل تعزف الجاز؟”.

رد الرجل البدين بهدوء:”لا”.

“هيا اعترف لا بد أنك كذلك. ماذا تعزف؟. الساكسوفون؟ الترامبيت؟”.

لزم الرجل البدين الصمت.

“حسنا. نلعب لعبة التخمين. أخبرني إذا: أين... هممم. المستنقع الفاسد؟”.

“هو في منطقة سيليجاروفسكي التابعة تفيرسكايا أوبلاست”.

تعرض يورا لصدمة. المستنقع الفاسد هو موقع معروف في خوتور فقط، وهي قرية صغيرة وكان معتادا على الصيد فيها برفقة والده وجده. وهي فعلا في مقاطعة سيليجاروفسكي. المستنقع الفاسد هو مستنقع تحيط به غابة. والشلالات تتفجر فيه. كيف أمكن للرجل البدين أن يعلم بذلك؟”.

كان لا يزال جالسا على المقعد دون حراك. هل كان موهوبا بالتخاطر؟. ينوم مغناطيسيا؟. لا بد أنه ينوم مغناطيسيا!. وربما اعتاد أن يعمل مع وولف ميسنغ... إذا. يجب على يورا أن يخدعه بطريقة ما. تفحص محيطه. وفجأة، وسط المسافة، وأمام مبنى من طابق واحد مشيد من أحجار السيليكات البيض، شاهد إعلانا باهتا مثبتا على لوح كبير: “هدفنا هو الشيوعية”.

وكانت صورة لينين واضحة تحت الشعار. يورا طلب منه بصوت مرتفع، وهو يعقد ذراعيه بتكبر على صدره:”أخبرني عن فلاديمير إليتش لينين؟”.

رد الرجل البدين بهوادة:”الرجل الذي قاد هرم الزئير الأحمر”.

فتح يورا فمه.

“ماذا؟. الهرم؟. الأحمر... ماذا؟”.

“الزئير الأحمر”.

“ما هذا الهرم؟”.

“مصدر الزئير الأحمر اللامتناهي”.

“وأين هو؟”.

“في مركز عاصمتنا”.

“أين بالضبط؟”.

“حيث المركز”.

“في الكرملين؟”.

“لا. في الساحة الحمراء”.

“في الساحة نفسها؟. هرم؟”.

“نعم”.

“ولكن أين في الساحة؟. هل هو مرئي؟”.

“قاعدته تحتل كل الساحة”.

“كل الساحة؟”.

ضحك يورا. واستمر الرجل البدين بالجلوس بهدوء لا يتزعزع.

قال يورا:”يجب أن تعلم أنا أعيش قرب الساحة الحمراء، في بيانتنيسكايا. ولكن لم أشاهد هرما أحمر هناك”.

“لا يمكنك رؤيته”.

“وأنت تراه؟”.

“نعم”.

حسنا. قال يورا لنفسه. هذا الشاب يهلوس.

“وماذا يفيد هذا الهرم؟”.

“يصدر عنه زئير أحمر”.

“مثل مكبر صوت؟”.

“تقريبا. لكنه يزعق بموجة صوتية مختلفة. بذبذبات مختلفة”.

“ولماذا يفعل ذلك.. لماذا ينفخ أصواتا؟”.

“ليعدي العالم كله بالزئير الأحمر”.

“لماذا؟”.

“ليخرب بنية الجنس البشري من الداخل”.

“يخربها؟. لماذا؟”.

“وهكذا لا يكون البشر بشرا”.

فكر يورا هذا يبدو جنونا. ونظر حوله.

ولكن لم يشاهد أحدا على الرصيف.

“وهل لينين من بنى الهرم؟”.

“لا. هو من دعاه ليكون”.

“كأنه ضغط على زر؟”.

“شيء من هذا القبيل”.

“ومن بناه إذا؟”.

“لا أحد يعلم”.

ضحك يورا وقال:“ربما الألمان؟. أو ماركس؟ أنغلز؟”

“ليس الألمان”.

“اليانكي؟”.

“لا”.

رد الرجل البدين:”من هناك”. ثم أضاف:”قطارك يأتي من هناك”.

نظر يورا إلى الهواء الحار، ونظر يساره نحو المسافة التي تنقص باستمرار حتى الأفق. لم يشاهد شيئا. استمر واقفا وألقى أنشوطة حقيبته على كتفه. وعاود النظر في لوحة لينين.

“وماذا عن الشيوعية؟”.

نقل الرجل البدين عينيه المتجمدتين إلى يورا وقال:”ماذا عن الشيوعية؟”.

“حسنا. أليست هي من اختراعنا.. المستقبل الناصع؟”.

“هي ليست مستقبلنا الناصع ولكنها الزئير الأحمر في الوقت الحاضر”.

في اللحظة المحددة، انطلق نفير بوق من بعيد. وشاهد يورا هذا القطار. لا يزال بعيدا، ولم تكن حركاته مسموعة. رغب يورا أن يودع الرجل البدين، وأن يقول له شيئا مرحا ومستفزا، ولكن فجأة أعاد التفكير بذلك. وقف هناك، يتأرجح بمكانه كما يحب، ونظر بالرجل الغريب. كان الرجل لا يزال جالسا ونظره للأمام. أمكن يورا أن يشاهد القطار الآن. وكان يحبو باتجاه الرصيف. وفجأة أصبح متأكدا أنه لن يرى هذا الرجل غير العادي مجددا. وتأكد أن هذا الرجل سيستمر بجلسته على الرصيف الفارغ والمغبر. وأنه لن يركب القطار إلى موسكو. وربما لن يركب أي قطار. ولم يكن واضحا إلى أين يمكن أن يتوجه هذا الرجل. وبدا كأنه خرج من المقعد نفسه. وشعر يورا بحزن ومرارة. وامتلأت عيناه بالدموع. وتوقف القطار بشخيره المعهود. واقترب يورا أتوماتيكيا. ودخل في العربة وجلس. ومسح عينيه بقفا يده. ونظر من النافذة للرصيف. كان الرجل البدين جالسا تقريبا بنفس مكانه على المقعد. وينظر للأمام. وكان هناك شيء مألوف ومؤلم حياله. ثم انطلق القطار. تجمد يورا بمكانه. وشعر بحنين شديد. اشتياق عارم. ولم يكن لديه مكان يقصده. ولا فكرة تشغله. وعوضا عن التفكير تذكر ببساطة أن آخر كلمات الرجل البدين هي:”الزئير الأحمر في الوقت الحاضر”.

نظر يورا من النافذة مشلول الحركة وسكب نظره على العشب، وأعمدة البرق والهاتف، والبيوت الصغيرة، والسيارات، والنفايات، والمخازن والرافعات وأكوام الفحم الحجري والنباتات الحارة والناس والطيور والماعز والكلاب...

ونسي تماما حفلة عيد ميلاد ناتاشا. وفاتته محطة ميتيشي. واستعاد وعيه فقط حينما توقف القطار في محطة يارسلافسكي. ولحظة وقوفه، تخلص من شلله. وقف وغادر القطار، وانحدر نحو الرصيف مع بقية الركاب، وفورا ابتعد عن الحشود. وأخرج سجائره. وماذا عن حفلة عيد الميلاد؟ زاغوريانكا؟ ناتاشا؟ وتذكر كل شيء.

قال وهو يبصق بتذمر:”أحمق!”.

أشعل سيجارة. وتجول في شوارع موسكو التي حل عليها المساء. وعبر باحة الحديقة. وتابع لشقته في بيانتيسكايا.  وأعاده التدخين لإحساسه بالواقع.

وقال يورا لنفسه:”لا بد أنه منوم مغناطيسي”. وبدأ يضحك ويقول:”وأنا وقعت بخدعته كأحمق صغير. الزئير الأحمر!. زئيييييير أحمر! هرم!”.

أخرج زجاجة الشمبانيا من حقيبته وفتحها وهو يمشي. وطارت الفلينة مع فرقعة عالية، وأخافت سيدة مسنة، وسقطت على جدار المبنى. واندلعت الشمبانيا الدافئة نصف الحلوة من الزجاجة، وجرع منها يورا، وأغرق نفسه بها خلال ذلك. شرب كل الزجاجة الدبقة وهو في طريقه للبيت، وتركها على حافة نافذة شخص ما. في البيت، قرأ عددا جديدا من “الشباب” ثم أوى لسريره أبكر مما اعتاد. ومر يوم الأحد. في يوم الاثنين، أجرى يورا امتحانين. وفي يوم الثلاثاء زار دينامو، وكانت مباريات الجمباز في مراحلها الأخيرة. دخل إلى صالة الرشاقة، وتقريبا اصطدم بناتاشا. كانت بثوب أزرق مشدود، ويداها بيضاوين بسبب مسحوق التالك. وكانت بطريقها لغرفة الثياب.

قال وهو يتوقف:”مرحبا”.

ردت:”مرحبا”. مع ابتسامتها الدائمة، وتابعت طريقها. ولم يلتقيا مجددا أبدا. تخرج يورا من جامعة موسكو الحكومية وتزوج من ألبينا، ابنة أحد أصدقاء والده القدماء. وبمساعدة والده، موظف هام في وزارة المواصلات، حصل على عمل في كوسمولوسكايا برافدا. وأنجب هو وألبينا ابنا سمياه فياجيسلاف. في نهاية الستينات، انضم يورا للحزب، وحصل على عمل في إزفستيا. وأنجب هو وألبينا ابنة سمياها يوليا. في منتصف السبعينات، شغل منصب رئيس قسم في أوغنيوك. في صباح يوم من تموز، تناول إفطارا سريعا، كما هو شأنه، وركب سيارة والده الفولغا البيضاء القديمة، وانطلق إلى مكتب المحررين. ولحظة وصل جسر موسكفوريتسكي ، انقبض قلبه وخفق بطريقة منعته من التقاط أنفاسه. أوقف يورا السيارة عند الرصيف. وحاول أن يلتقط أنفاسا منتظمة ودلك نقاط التقاء الإبهام مع راحة يده كما علمه طبيبه. كان يورا يعاني بالفعل من عدة مشاكل في القلب. بدأت بعد نشر مقالة خلافية في الأزفستيا، ووافق عليها رئيس القسم “بتسرع”، حينما كان رئيس التحرير بعطلة. واستدعي يورا للاستجواب أمام هيئة الحزب في فرع المدينة. قال رجل بوجه ذئبي:”لقد تجاوزت الخط المقبول”. وإثر ذلك أعفي رئيس القسم من مهمته بسرعة البرق. وتعلق مستقبل مهنة يورا بطرف خيط. وبمعجزة استمر بمكانه. وأسعفته ارتباطات والده في الحزب أكثر من أي وقت مضى. ولكن قلبه اضطرب، وأخبره الأطباء أنه يعاني من أزمة قلبية بسيطة. أنفق شهرين مع ألبينا في المصحة. واضطرب قلبه للمرة الثانية حينما تورط ابنه بقصة مشينة: اغتصاب جماعي في مأوى الطلبة. كان والد يورا قد توفي للتو، ولم يكن هناك أحد ليطلب منه النجدة. وزار يورا عدة مكاتب، يطلب معونتهم ولو أهان نفسه. لكنه أنقذ ابنه: كان نصيبه إطلاق سراح مشروط. وبعد ستة شهور بدأ يورا بتعاطي أدوية القلب. وانتهت الأزمة.

ولكن الآن. الآن. الآن.

بدأ قلبه يخفق.

لم يشعر بهذا الإحساس من قبل. ولم يتمكن يورا من التقاط أنفاسه. وغادر سيارته واقترب من دعامة الجسر، ووضع يديه على الغرانيت البارد، وحاول أن يتنفس بانتظام. وهو يراقب نور الصباح الذي يشع على نهر موسكو. طزاجة المياه المنعشة هبت عليه وهو على الجسر. وحاول تهدئة نفسه. ولكن استمر قلبه بالخفقان. ومثل حيوان صغير ينتفض في قفص - كما لو أنه يرقص.

يرقص كان كان.

يرتدي القفطان.

وأطرافه خفقان.

تنفس يورا، تنفس، تنفس.

كان رأسه يدور ويعسوبان فولاذيان يئزان في أذنيه. ارتعشت ساقاه. تمسك بالدعامة ومال عليها. كان الماء يلمع بالأسفل. كان الماء يلمع. والماء البراق التمع بلمعان خاطف.

همس يقول لنفسه:”قف، قف، قف”.

القلب. القلللللب. قللللللبببببه. توقف عن الخفقان.

توقف. تو...

قفففف.

توقف للأبد.

وساد الصمت

داخل يورا.

وبآخر ما لديه من قوة، حاول أن يقف.

تمسك بالدعامة.

وفجأة شاهد الهرم الأحمر. كان يعلو فوق الساحة الحمراء، وقاعدته تشغل كل مساحة الساحة. وارتجف الهرم وهو يرسل الزئير الأحمر. وجاء الزئير بشكل موجات، وغمر كل شيء حوله مثل إعصار، وكان يتدفق حتى الأفق باتجاه أركان الأرض الأربع. وكان الجنس البشري يغرق في هذا الزئير الأحمر. يغرق وهو يحاول أن يجدف قدما. مشاة، ركاب، واقفون، جالسون، نائمون - رجال ونساء ومسنون وأطفال.  لقد غمر الزئير الأحمر كل شيء. وموجاته ضربت وضربت بعنف كل شخص، شخص، وداخل كل شخص، شخص، ضوء، ضوء، والزئير الأحمر يزأر وينبض وينبض قادما من الهرم الهرم كي يخمد يخمد الضوء الضوء ولماذا ينبض بنبض بهذه الطريقة المخيفة المخيفة وموجات موجات حمر خابية خابية تنبض تنبض ولا يمكن لا يمكن أن تنبض تنبض ولماذا لماذا لا يمكن لا يمكن تنبض تنبض هذا الغباء الغباء العنف العنف بستة أجنحة ستة أجنحة أنت هنا هنا قرب قرب مجنح بستة أجنحة ستة أجنحة أنت براق براق أنت كثير كثير أنت أبدي أبدي أنت مرحبا مرحبا ستة أجنحة مجنحة ستة أجنحة تعود تعود أنت كنت كنت مختلفا مختلفا بدينا بدينا سخيفا سخيفا حذاء أبيض أبيض بوط منخفض الساق حذاء اسمك اسم.

دمدم يورا:”يوم باين”. وابيضت شفتاه وهو يحاول أن يبتسم.

وانهار.

***

..........................

 (ترجمها عن الروسية ماكس لوتون Max Lawton).

نشرت في النيويوركير/ عدد 4 تشرين الأول 2021

فلاديمير سوروكين  Vladimir Sorokin روائي روسي معاصر. يكتب أيضا المسرح والقصة والسيناريو. من أهم أعماله “يوم في حياة أوبريشنيك” 2006،“العاصفة الثلجية”2015، “الجليد”2002، “الطابور”1983، و“قلوبهم الأربع”1991. يكتب الخيال العلمي والفانتازيا، وينتقد عيوب الاتحاد السوفياتي التي قادت لانهياره.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم