صحيفة المثقف

منى زيتون: دور المدرسة في تنمية ذكاءات التلاميذ

منى زيتونتناولنا في مقالات سابقة نظرية الذكاءات المتعددة لجاردنر، كما تعرفنا على مفهوم جانبية المخ وسيادة نصف الكرة المخي الأيسر أو الأيمن في معالجة المعلومات لدى أغلب البشر.

وفي هذا المقال نركز على ما يمكن أن تصنعه البيئة المدرسية الثرية من تطوير وتنمية الذكاءات ‏‏(المواهب) الثمانية، وخلق تكاملية في معالجة المعلومات في المخ لدى التلاميذ.‏

دور المدرسة التقليدية في تنمية الذكاءين اللغوي والمنطقي/الرياضي وسيادة نمط التعلم والتفكير الأيسر

يذكر جاردنر (Gardner, 1999) أن المدرسة المتماثلة Uniform School تعادي الذكاءات المتعددة؛ ذلك أن جوهر التعليم المتماثل هو الاعتقاد بأنه ينبغي أن يُعامَل كل فرد بالطريقة نفسها. وقد يبدو هذا عادلًا للوهلة الأولى حيث لا يوجد لأي فرد مميزات خاصة، بينما تكون هذه الفكرة ظالمة في الحقيقة حيث تقوم المدرسة المتماثلة على أساس الافتراض بأن كل الأفراد متماثلون ومن ثم يصل التعليم لهم جميعًا بالتساوي وبإنصاف، وذلك بتجاهل الفروق الفردية فيما بينهم في الشخصية وفي العقل.

ذلك أنه رغم أن الفروق الفردية عامة وشائعة ومعروفة للجميع إلا إننا كثيرًا ما نلاحظ أنها لا تلقى الاهتمام الكافي من المدرس، فهو رغم إدراكه لها لا يلتفت إليها عندما يعد دروسه وطرق التدريس التي يستخدمها في الفصل، وتجاهل الفروق الفردية أثناء التدريس لابد وأن يؤثر على نتائج العملية التربوية وعلى نتائج التعلم في الفصل (رجاء أبو علام ونادية شريف، 1983، ص 5).

ويؤكد إبراهيم وجيه (1985، ص 3) على الفكرة نفسها بقوله إن من وظائف التربية والمدرسة أن تتعرف على الفروق بين التلاميذ، وأن تكشف عن المواهب والاستعدادات وتعمل على إطراد نموها إلى أقصى حد ممكن، وأن تكشف الجانب الذي يمكن أن يبدع فيه التلميذ وتعمل على نمو هذا الجانب، وأن تراعي الجوانب الأخرى حسب الحاجات التعليمية المختلفة. ويؤكد على أن المدرسة قديمًا لم تكن تراعي الفروق الفردية بين التلاميذ، بل ولا زالت أغلب مدارسنا لا تراع هذا الجانب وإنما تتعامل مع التلاميذ جميعًا على أنهم سواسية وتعرض عليهم برنامجًا تعليميًا واحدًا لا تحيد عنه.

كذلك يشير أحمد أوزي (د. ت) إلى أن الممارسة التربوية والتعليمية قبل ظهور نظرية الذكاءات المتعددة كانت تستخدم أسلوبًا واحدًا في التعليم لاعتقادها بوجود صنف واحد من الذكاء لدى كل المتعلمين، مما كان يُفوت على أغلبهم فرص التعلم الفعال. إن تعدد الذكاءات واختلافها لدى المتعلمين يقتضي اتباع مداخل تعليمية/تعلمية متنوعة لتحقيق التواصل مع كل المتعلمين المتواجدين في الفصل الدراسي.

ويضيف هُوار (Hoerr, 2000) إنه لعقود طويلة ركزت المدارس –في بعض الأحيان بشكل كلي- على تلك القدرات التي يمكن تسميتها الذكاءات المدرسية "Scholastic Intelligences" –القدرات اللغوية والمنطقية/الرياضية-. وهذا الميل للتركيز على الذكاءات المدرسية كان بسبب حقيقة أنها تكون أسهل نسبيًا في أن يُصمم لها اختبارات ورقة وقلم ثابتة وصادقة لتقييمها، بينما يكون تصميم اختبارات ثابتة وصادقة لتقييم المواهب الموسيقية والفنية للتلاميذ أكثر صعوبة وبالتأكيد أكثر تكلفة. وتقدم الاختبارات المعيارية معلومات منبئة أقل فائدة عن النجاح في الحياة لحقيقة كونها تقيس جزءًا من الصورة فقط.

ويؤكد جاردنر على الفكرة نفسها إذ يذكر أن مدارسنا وثقافتنا واختباراتنا تركز أغلب انتباهها على الذكاء اللغوي والذكاء المنطقي/الرياضي، فهي تقدر الأشخاص ذوي القدرة العالية على التحدث بوضوح وكذلك الأشخاص ذوي المنطق، بينما تجاهل التعليم النظامي دومًا الأشكال الأخرى للتمثيل العقلي بالرغم من كون الذكاءين اللغوي والمنطقي/الرياضي غير كافيين لزراعة محصول أو رسم صورة أو ارتجال لحن أو إحراز هدف في مباراة أو الفوز بانتخاب، وما إلى ذلك من الأشياء التي تكون مُقَدَّرة في المجتمع. أي أنه لا يكون هناك انتباه مساو في التعليم للأفراد الذين يظهرون تميزًا في الذكاءات الأخرى (Armstrong, 2000a; Brualdi, 1996; Gardner, 2001; Holmes, 2002; Lynn Gilman, 2001; Scherer, 1997). وإن كانت باتيستا (Battista, 1999) ترى أن المدارس تقضي الكثير من الوقت في تدريس الحساب، بينما تفشل في تدريس المنطق الذي له الأولوية.

كذلك يذكر الباحثون (as cited in Lavach, 1991, p. 219) أنه منذ الطفولة المبكرة وحتى قبل المراهقة يتعلم التلاميذ أن يثبطوا تعبير النصف الكروي الأيمن من المخ والتوجه للأيسر الأكثر لفظية؛ كاستجابة وكإذعان للنظام التربوي السائد. وهو ما قرره طلاب الجامعة في دراسة هاف (Hough, 1987) عن أنفسهم وعن تربيتهم في المدارس في المرحلة قبل الجامعية؛ حيث رأوا أن تربيتهم كانت تركز على المخ الأيسر التقليدي، كما لاحظوا وظائف المخ الأيمن على أنها أقل سيادة لديهم. كذلك وجدت دراسة سليمان (Soliman, 1989) فروقًا وصفها الباحث بالمدهشة بين درجات المخ الأيمن والمخ الأيسر لطلاب الجامعة من كلا الجنسين الذين أجرى عليهم دراسته، والتي أرجعها للتنشئة الاجتماعية وطرق التدريس التي يتعرضون لها. وقديمًا أشار عبد الوهاب كامل (1981، ص ص 168- 172) إلى دور محتوى المنهج وبنائه وطريقة تقديمه للأفراد في مراحل الطفولة فيما يتعلق بنشاط أي من النصفين الكرويين، وأن التربية تلعب دورًا هامًا ورئيسيًا في المدخلات التي تقدم إلى الفرد في مراحل النمو المختلفة، ومن ثم تكون المسئولة عن التكامل الوظيفي بين نصفيّ المخ. كما فحص هيرمان (Herrman, 1982) الدرجات المدرسية لتلاميذ جيدين وبلداء، وقرر أن 53% من التلاميذ الجيدين عرضوا بروفيلات مخ أيسر، بينما 18% فقط من التلاميذ البلداء أظهروا تفضيلًا معرفيًا أيسر. على العكس 64% من التلاميذ البلداء لُوحظ تفضيلهم لأنشطة المخ الأيمن! وهو ما يتفق مع نتائج دراسة سليمان عبد الواحد (2005) حيث وجد أن النمط الأيمن هو المسيطر لدى التلاميذ ذوي صعوبات التعلم والنمط الأيسر هو المسيطر لدى العاديين، كذلك أظهرت دراسة سالم إمحمد (1995) أن مجموعتيّ التلاميذ ذوي النمط المتكامل للمخ وذوي النمط الأيسر كان لهم تفوقًا دالًا عن التلاميذ ذوي النمط الأيمن للمخ في التحصيل الدراسي.

وعلى حد تعبير جاردنر (Gardner, 2001) فإننا يمكن أن نسمي التربية والحال كذلك بالنصف مخية "half- brained". ويمكن تقرير إنك إذا ما كنت تريد صنع أفراد متشابهين بقدر الإمكان فإنك ستحد أو تتجاهل تعددية التفكير، ومن ثم سترى الذكاءات المتعددة كعقبة. وقد استدلت هاردي (Hardy, 2005) من خلال نتائج دراستها أنه عندما تكون طريقة التلميذ الأفضل في التعلم تختلف عن الأسلوب التدريسي للمعلم فإن التحصيل الأكاديمي للتلميذ يكون محدودًا على نحو خطير.

كما استنتج سمدلر وتوريستاد (Smedler and Törestad, 1996) من نتائج دراستهما أن الذكاء العام -المكون من القدرات اللغوية والبصرية/المكانية والاستدلالية- في سن عشر سنوات كان منبئًا قويًا للمهارات الأكاديمية الأساسية في عمر 13 عامًا (ر> 0.7)، كما أن الأطفال الذين لديهم قدرة لفظية كان تحصيلهم أفضل مما كان متنبًا به من المستوى الكلي لذكائهم، بينما أظهر الأطفال ذوي التوجه المكاني تطورًا أقل تبشيرًا بالنجاح في المهارات الأكاديمية الأساسية؛ أي أن القدرة اللغوية كانت منبئًا أقوى من القدرة المكانية لاكتساب المهارات الأكاديمية الأساسية. ولا شك أن مثل تلك النتائج إنما تعود لنوعية المهارات الأكاديمية الأساسية التي يركز عليها التعلم المدرسي.

كذلك تؤكد الدراسات التي أجريت على الجوانب الفارقة لاختبارات الذكاء أن التحسن –نتيجة للتعلم المدرسي- في الجانب اللفظي أكبر منه في الجانب غير اللفظي (فؤاد أبو حطب، 1996، ص 569). وبالقطع تعود هذه النتائج إلى طبيعة التعلم المدرسي وتركيزه على تنمية القدرات اللفظية.

وأرى أن ارتباط اختبار معامل الذكاء التقليدي منذ نشأته على يد بينيه بالنجاح في المدرسة التقليدية قد ساهم في استمرار ارتباط كل منهما بالآخر وفي الاهتمام بالذكاءين اللغوي والمنطقي/الرياضي في المدارس وتنشيط النصف الكروي الأيسر من المخ.

ويوضح عبد الوهاب كامل (1981، ص 173) ارتباط معامل الذكاء IQ بسيادة النصف الكروي الأيسر بقوله إن معامل الذكاء كمفهوم أساسي في علوم التربية التقليدية مغزاه هو النسبة بين العمر العقلي والعمر الزمني. وفي الحقيقة بعد أن أصبح مصطلح الذكاء يتم تحديده بلغة مقدرة كل من نصفيّ كرة المخ الأيسر والأيمن فإن معامل الذكاء أصبح يعني في جوهره نسبة مقدرة النصف الكروي الأيسر إلى مقدرة النصف الكروي الأيمن منسوبة للعمر؛ حيث تظهر النسبة بين الذكاء اللفظي من جانب والعملي من جانب آخر. والأطفال في أغلب النظم التربوية –على حد قوله- يتم انتقاؤهم على أساس معامل الذكاء (التحيز إلى النصف الكروي الأيسر)، ثم يتم وضعهم في تلك المواقف التعليمية التي تعمل على استثارة نشاط النصف الكروي الأيسر ويتم تدعيم استجاباتهم على هذا النحو أيضًا حتى يمكن أن تظهر عليهم الفائدة من استغلال وتنشيط النصف الكروي الأيسر، ومن ثم فهم يخرجون إلى المجتمع الذي قد يتوقع أن يتصرفوا غالبًا فيه وكأن ليس لهم نصف كرة أيمن كان من الممكن أيضًا استغلاله والاستفادة منه.

كما يشير مصطفى كامل (1993، ص 2) إلى أنه بما أن بعض الأفراد يميلون إلى الاعتماد بشكل متسق على أحد نصفيّ المخ أكثر من الآخر في التعامل مع المعلومات التي تواجههم، مما يجعل هذا النصف يعتبر هو النصف المسيطر أو السائد dominant hemisphere فإنه يترتب على بروز مفهوم "السيطرة المخية" أمران: أولهما أن المخ الإنساني لا يعمل بكامل طاقاته الضخمة لدى بعض الأفراد، ما يشكل إهدارًا لقدر كبير من الإمكانيات البشرية الخلاقة، وثانيهما أن سيطرة أحد نصفيّ المخ لدى البعض يمكن أن تعبر عن نفسها في أسلوب معين يتبناه هؤلاء الأفراد في التعلم والتفكير والتعامل مع المنبهات التي يتعرضون لها في بيئتهم بوجه عام.

ويشاركه لازير (Lazear, 1992) هذا الرأي إذ يذكر أن دراسات المخ خلال الخمسين عامًا الأخيرة قد أقرت أن البشر ربما يستخدمون أقل من 1% من إمكانية المخ، بينما يكون سبرينجر (Sprenger, 1999) أكثر تفاؤلًا عندما يذكر أن بعض الدراسات تستنتج أننا نستخدم نسبة 1 : 20 % من أمخاخنا. أما وولف (Wolfe, 2003 a) فتؤكد ثبوت عدم صحة الاعتقاد بأننا نستخدم جزءًا من الدماغ لا يتجاوز 10% منه، وذلك وفقًا لما أثبته تصوير المخ –باستخدام تقنيات PET أو fMRI- أثناء نشاطه من أن المخ يعمل ككل أثناء تأديته لنشاطاته المختلفة. بالرغم من ذلك فإنني أرى -استنادًا لنتائج أغلب الدراسات- أننا حقيقة نستخدم كل أمخاخنا لكن ليس كل قواها المعالجة.

ويبقى هذا هو الحال في المدارس فبمجرد أن نكبر ونلتحق بالمدرسة ينبغي علينا أن نلقي بالعديد من طرقنا الطبيعية لجمع المعلومات وأن نجلس ثابتين وأن نكون هادئين ونوقف أحلام اليوم ولا نعبث؛ لذا فالطفل الذي يتعلم بشكل أفضل عن طريق الحركة حول المكان أو ذلك الذي يحتاج للتحدث عن الأفكار ليفهمها أو الثالث الذي يفهم أفضل برسم أشكال ورموز كل منهم يفقد أداته الأكثر فاعلية ويُلقي جانبًا نمطه الأولي للتعلم ومن ثم يصبح التعلم مملًا، بينما تؤكد لنا نتائج دراسات المخ أننا بحاجة لنتحرك ونغني ونرقص ونرسم ونتحدث ونتأمل لنتعلم بشكل فعال، لذا فإننا بحاجة إلى أن نكف عن التوقع بأنه توجد طريقة صحيحة واحدة لنُعلِّم أو نُدرِّس، وكذلك أن نكف عن توقع أن متعلمينا سيكونون أكثر نجاحًا إذا استخدموا الاستراتيجيات نفسها، وأن نؤمن حقًا أن التنوع هو المفتاح "Diversity is the KEY" (Multiple Intelligences for Adult Literacy and Education page, n. d). ذلك أنه لا يوجد مخان بشريان متماثلان تمامًا، ومن ثم لا توجد بيئة مثرية واحدة سوف تُرضي بالكامل كل المتعلمين لفترة ممتدة من الزمن، إن مدى البيئات المثرية للبشر يكون غير منتهٍ. ولابد من بذل الجهود للعمل على إثراء الصفات الموروثة من خلال إثراء البيئة لكل فرد وفي أي عمر، لكن مهما كان شكل الإثراء فإن التحدي للخلايا العصبية هو المهم حيث تشير نتائج الأبحاث التي أُجريت على الحيوانات أن الملاحظة غير النشطة ليست كافية لتطور المخ وأن الفرد يجب أن يتفاعل مع البيئة (Diamond, 1988; 1996).

كيف لمدخل الذكاءات المتعددة (الأنشطة الصفية المتـنوعة والتقويم المتـنوع) في التدريس أن يغير من هذا الواقع التربوي؟

يشير فؤاد أبو حطب (1996) إلى أنه في جميع الأغراض الأكاديمية والتطبيقية الخاصة بفهم سلوك الإنسان وتفسيره والتحكم فيه والتنبؤ به لابد من وضع الفروق الفردية موضع الاعتبار.

وأرى أن الأساس البيولوجي لنظرية الذكاءات المتعددة، إضافة إلى مراعاة الفروق الفردية بين التلاميذ وإمكانية تنمية الذكاءات -واللتان تركز عليهما نظرية الذكاءات المتعددة- يمكن أن يصنعوا الكثير في واقعنا التربوي إذا وضعهم المربون في الاعتبار؛ ذلك أن الخبرات والأنشطة المتنوعة التي يتم تقديمها للتلاميذ في ذلك المدخل التدريسي تساعد في تنمية الذكاءات المتعددة لهم ما يعني الاهتمام بتنمية قدرات كلا النصفين الكرويين للمخ.

ويرى بعض الباحثين ومنهم أولسون (Olson, 1980) (في مصري حنورة، 1997، ص 186) أن الطفل يولد بمخ منقسم إلى قسمين متكافئين، وكلما استمر الطفل في التعامل مع البيئة بظروفها المختلفة أدى ذلك إلى سيطرة أحد نصفيّ المخ، ومال النصف الآخر إلى الكسل، كذلك يشير أولسون إلى أن الوراثة تلعب دورًا هامًا في تحديد السيطرة المخية. وهو ما يعني أن كلًا من التدريب والوراثة له دوره في تأكيد سيطرة أحد الجانبين على الجانب الآخر. وهو ذاته ما أشار إليه جابر عبد الحميد (1977، ص 599) من وجود أثر للوراثة وللبيئة فيما يخص الذكاء، إلا أنه يذكر أنه حتى ولو كان 20% فقط من تباين الذكاء يُعزى إلى العوامل البيئية بينما باقي التباين يعود إلى العوامل الوراثية، فإن هذا يكفينا لنحاول توفير أفضل بيئة تعليمية ممكنة لكل تلميذ، مشددًا على ضرورة أن نستخدم اختبارات الذكاء لا لإبراز الفروق بين التلاميذ بل لمساعدة جميع التلاميذ على التعلم على أعلى مستوى، وأن نستخدم تلك الاختبارات لتشخيص نواحي القوة والضعف لدى الأفراد لكي نوفر لهم أكثر بيئات التعلم فاعلية، وأنه ينبغي علينا لتحقيق ذلك أن نوفر طرقًا مختلفة ومسالك للتعليم ونتيح لكل طفل أن يختار الطريق الذي يفضله.

وتذكرنا دياموند (Diamond, 1988) بدعوة العديد من المربين –من أمثال ديوي وحتى الآن- إلى إمداد المتعلم بتشكيلة متسعة من الخبرات من أجل إثراء تطوره العقلي، وتعود بنا إلى كتاب نُشر في مطلع القرن العشرين لروبن هالِيك (Reuben Halleck, 1901) بعنوان "تربية الجهاز العصبي" أشار فيه مؤلفه إلى أن التربية الأفضل التي يمكننا أن نمد بها الجهاز العصبي تكون عن طريق تحفيز كل الحواس الخمس المعروفة.

ويذكر جينيسي (Genesee, 2000) أنه بما أن فهمنا للمخ يتطور باستمرار فإن النتائج من أبحاث المخ للتدريس والتعلم ينبغي أن تتطور أيضًا باستمرار. إن فهمنا بأن المخ به مناطق متخصصة قد حمل معه النزعة للتدريس بطرق تعكس تلك الوظائف المتخصصة. على سبيل المثال، فإن البحث في الوظائف المتخصصة للنصفين الكرويين الأيسر والأيمن قادنا للتدريس لكلا النصفين الأيسر والأيمن. ولقد اتضح أن خريطة قشرة المخ الوظيفية يمكن أن تتغير حتى في الرشد كاستجابة لخبرات بيئية أو تعليمية ثرية، وأن التدريس والمعلمين يمكن أن يصنعوا اختلافًا في نمو المخ.

كما تذكر إرلاور (Erlauer, 2003) أن الوقت قد حان للاكتشاف –من منظور فسيولوجي- لماذا تكون استراتيجيات تدريس بعينها ناجحة دائمًا، وما هي طرق التدريس والتعلم الجديدة التي سوف تكون أكثر نجاحًا، وذلك من خلال الفهم للكيفية التي يعمل بها المخ بشكل أفضل والتي نستطيع أن نحسن ممارساتنا التربوية بمحاولة التطابق معها. وتوضح وولف (Wolfe, 2003 a) أنه كلما فهمنا المخ أكثر كلما أصبحنا أكثر قدرة على تصميم تعلم يتوافق مع الكيفية التي يتعلم بها بشكل أفضل، بدلًا من أن نعتبر أمخاخ تلاميذنا على أنها صناديق سوداء بداخلها أسرارها المغلقة عليها.

إن المبادئ التي يقوم عليها ما يُعرف بالتعلم المستند إلى المخ والتي تتحدد في أن المخ هو معالج موازي للمعلومات بمعنى أنه يمكنه أداء أنشطة متعددة في آن واحد، وأن المخ يعالج الكليات والأجزاء بتزامن، وأن كل مخ يكون فريدًا، مثل تلك المبادئ تكون هامة للتدريس والتعلم؛ حيث أنها قد أسهمت في وضع تصور عن تقنيات التدريس الناجحة التي يمكن استخدامها مع التلاميذ وأهمها خلق بيئات تعلم تغمر التلاميذ بالكامل في خبرة التعلم؛ ذلك أنه لأن كل مخ يكون مختلفًا فإن المربين ينبغي أن يسمحوا للمتعلمين أن يُعدلوا بيئات تعلمهم وفقًا لرغبتهم، كما أنهم بحاجة أن يدركوا أن أفضل طريقة للتعلم ليست من خلال المحاضرة لكن عن طريق المشاركة في بيئات تعلم حقيقية تجعل المتعلمين يجربون أشياء جديدة بشكل آمن (www.funderstanding.com). إن ما نعرفه عن المخ لا يؤثر فقط في تطوير قدراتنا العقلية بل يسهم أيضًا في تطوير الطرق والأساليب التي يمكن أن نتعلم بها، والتعلم المستند إلى المخ –كما يعرفه كل من مِكبرين وبراندت (McBrien & Brandt, 1997) - يتضمن استخدام مداخل للتدريس تعتمد على أبحاث المخ الحديثة، وتطوير استراتيجيات تدريس والتي تتضمن من بينها استراتيجية التدريس القائمة على نظرية الذكاءات المتعددة.

ولقد اتضح للعلماء منذ نهاية القرن التاسع عشر من أمثال تشارلز بُونِت Charles Bonnet وشيرينجتون Sherrington (في السيد أبو شعيشع، 1998، ص 354) دور الوصلات العصبية في عملية التعلم حيث أشاروا إلى أن الخلية العصبية توصل لما يتلوها من خلايا نوعًا من التعلم لا تحظى به الخلايا التي لا تتصل بها، وأن الاستخدام المتكرر لوصلة عصبية ما في توصيل رسالة عصبية يعمل بطريقة ما على تقوية إمكانية هذه الوصلة العصبية على إيصال الرسائل، وأن التعلم يحدث زيادة في سهولة مرور الرسائل العصبية نتيجة لتكرار استخدام المسار العصبي نفسه. يضيف سبرينجر (Sprenger, 1999) أن علماء الأعصاب يعرفون التعلم على أنه خليتان عصبيتان تتصلان ببعضهما البعض. إنهم يذكرون أن الخلايا قد تعلمت عندما ترسل خلية عصبية رسالة إلى خلية عصبية أخرى. ويؤكد جينيسي (Genesee, 2000) على ذلك بأن فكرة أن الأساس العصبي للتعلم يكون كامنًا في وصلات بين الخلايا العصبية بقيت تخمينية لفترة، أما الآن فهناك دليل مباشر بأنه عندما يحدث التعلم فإن اتصالًا عصبيًا كيميائيًا بين الخلايا العصبية يكون ميسرًا وأن التعلم عن طريق المخ هو تقريبًا صنع وصلات داخل المخ وبين المخ والعالم الخارجي، وأن تلك الوصلات المتكونة لا تكون بين الخلايا العصبية المجاورة فقط لكن أيضًا بين الخلايا العصبية البعيدة في أي من النصفين الكرويين. وتصف كارليسون-بيكرينغ (Carlson- Pickering, 2001) الأمر بكونه تنشيط وصلات عصبية في المخ، وأنها كلما كانت منبهة أكثر يصبح الاتصال أقوى. بينما يكون جاردنر (Gardner as cited in Brualdi, 1996) أكثر تحديدًا عندما يذكر أن التعلم هو نتيجة للتعديلات في الاتصالات بين الخلايا. وبإمكاني أن أستخلص من كل ما سبق أن التعلم والتدريب يمكن أن يخلقا اختلافًا كبيرًا في مخ الإنسان. وهو ما أشارت إليه نتائج الأبحاث التي أجريت على الحيوانات (في السيد أبو شعيشع، 1998، ص ص 363: 366 ؛ ودياموند Diamond, 1996; 1988)، والتي أكدت تأثير الخبرات المثرية على تركيب ووظيفة الخلايا العصبية بالمخ.

وتؤكد دياموند (Diamond, 1988) على دور الإثراء البيئي في التطور المخي، ومن ثم فإنه يجب علينا ألا نتخلى حتى عن الأفراد الذين يبدأون حياتهم تحت ظروف غير مفضلة، فالإثراء البيئي يمكنه أن يثري أمخاخهم النامية أيضًا اعتمادًا على درجة قسوة الأذى الذي لحقهم. وفي دراسة ريفيلج (Revelj, 1987) والذي استخدم فيها برنامجًا لمنع صعوبات تعلم دراسية متوقعة لعدد 14 طفلًا في مرحلة ما قبل الالتحاق بالمدرسة لديهم اختلال وظيفي ضئيل بالنصفين الكرويين أشارت نتائجه إلى حدوث تحسن في أداء 12 منهم في الاختبار البعدي، وارتفع مستوى 6 منهم إلى المعدلات العادية.

وقد توصل علماء علم الأعصاب إلى أن البيئات المعقدة تنتج أدمغة ذكية مقارنة بالبيئات المملة، لذا ينبغي على المعلم أن ينوع من الأنشطة الصفية، وأن يقدم للتلاميذ تحديات جديدة كل يوم. حيث توجد فجوة هائلة بين ما يشرحه المعلم وبين ما يفهمه المتعلم، ومن أجل تقليل هذه الفجوة يحتاج المعلمون إلى إدماج التلاميذ في الأنشطة الصفية من أجل فهم أعمق وتغذية راجعة مع استراتيجيات تعلم صريحة وضمنية، وكلما زادت الخبرات والتغذية الراجعة أصبحت نوعية الشبكات العصبية أفضل (ناديا السلطي، 2004، ص ص 11- 104).

كما أشارت نتائج العديد من الدراسات إلى ضرورة تطوير الممارسات التدريسية استنادًا للفكر الجديد الذي حملته نظرية الذكاءات المتعددة؛ حيث تشير هاردي (Hardy, 2005) استدلالًا من نتائج دراستها أن وعي التلاميذ بقواهم التعليمية ينبغي أن يدمج في ممارسات تدريسية، وأن قلة التفاوت المسموح به في الطرق المتنوعة التي يتعلم بها التلاميذ يجب أن تتغير من أجل تربية تكون أكثر مساواة وتسمح لكل التلاميذ أن يخبروا النجاح ومتعة التعلم. ولعلنا نلاحظ فيما تذكره هاردي أن التنوع في طرق التدريس أصبح هو السبيل للمساواة المنشودة في التربية بعد أن كان سابقًا سبيلًا لعدم المساواة فيها.

ويشير شيرير (Scherer, 1997) إلى أن المربين قد تعلموا الكثير من تغيير فصولهم لدمج ممارسات مدخل الذكاءات المتعددة، وأنهم قد وجدوا النظرية أكثر فائدة في ربط خبرة الفصل الدراسي بالحياة الحقيقية، وربما يكون الإسهام الأعظم لنظرية الذكاءات المتعددة هو أنها قد غيرت التدريس. كما تذكر جودنو (Goodnough, 2001, pp.181-182) أن نظرية الذكاءات المتعددة أكبر من كونها نظرية تقدم اتجاهًا خاصًا نحو طبيعة الذكاء، حيث أصبحت مدخلًا لاستكشاف أساليب التدريس، وتفريد التدريس والتعلم، وتطوير المناهج، وتحسين تقييم المعلمين، وعلى حد قولها فإن واحدة من القوى الأعظم لنظرية الذكاءات المتعددة هي قدرتها على الخدمة كإطار عمل للمعلمين لاستكشاف أساليبهم التدريسية ولتساعدهم في صنع قرارات عن الطرق التي يكونون بها خبرات التدريس والتعلم للتلاميذ.

ويوضح أرمسترونج (Armstrong, 2000b) أن المعلمين اليوم يتعلمون كيف يقدمون المادة خلال تشكيلة من القنوات التعليمية متضمنة بصريات وموسيقى ووسائط متعددة وتعليم عن طريق الفريق وعروض عملية واستكشاف المواد. بينما تؤكد لامب (Lamb, 2002) على عدم وجود طريقة صحيحة ومناسبة واحدة لإدماج مدخل الذكاءات في الفصل الدراسي، إنه يستلزم فقط تغيير فكرتنا عن التدريس والتعلم ومخاطبة الفروق الفردية والإمداد بتشكيلة من الأنشطة والخبرات لتسهيل التعلم.

وتظهر نتائج البحث التربوي أن هذا الاستخدام  للقنوات التعليمية المتنوعة لإدخال المعلومات يسهم في ازدياد سعة الذاكرة العاملة المؤثرة؛ حيث تشير نظرية التشفير الثنائي Dual-Coding Theory لبايفيو (Paivio, 1969, 1971, 1986, 1990 as cited in Marzano et al., 2001; Mousavi et al., 1995; Yang et al., 2003, p.330) إلى أن الحجم المؤثر من الذاكرة العاملة قد يزيد عن طريق تقديم المعلومات بأسلوب مختلط (شكل سمعي وبصري) بدلًا من أسلوب واحد؛ لأن المعرفة تخزن في شكلين وليس في شكل واحد (شكل لغوي وشكل بصري أو غير لغوي). والشكل اللغوي هو دلالات ألفاظ في طبيعته، أما الشكل البصري فيعبر عنه كصور عقلية أو حتى إحساسات جسمية مثل الشم والتذوق واللمس والارتباط الحركي والصوت، وأن نشاط المخ يتم حفزه أكثر لدى التلاميذ الذين يبدعون في التمثيلات غير اللغوية. بينما يرى أندرسون (Anderson, 1983 as cited in Carlson- Pickering, 1999; 2001) ويتفق معه باحثون كثيرون أنه عندما يريد الأفراد أن يفهموا شيئًا معقدًا بعمق فإنهم يجب أن يشفروا خبراتهم التعليمية ثلاثيًا. وهذا يعني أنه إذا كنت معرضًا لأفكار جديدة وقُدمت لك على الأقل من خلال ثلاثة ذكاءات مختلفة فسوف يكون لديك فرصة أفضل لتذكر المعلومات. وتفسر لنا وولف (Wolfe, 2003 a) سبب قوة استدعاء الذاكرة مع زيادة مصادر الخبرة فتذكر أنه عندما تدخل خبرة ما إلى المخ فإنه يُفك تركيبها وتُوزع على المخ بأكمله، وأنه عندما تُستدعى معلومة يجب أن يُعاد تركيبها، لذا فإنه كلما كانت الطرق التي تُقدم بها المعلومات لمخ التلاميذ أكثر كلما كانت الطرق التي يملكونها لإعادة التركيب أكثر وكلما كانت الذاكرة أغنى؛ وبذا يكون التدريس المتعدد الأشكال مؤثرًا للغاية.

ولا يقتصر التطبيق التربوي للنظرية على تحسين طرق التعلم المدرسي بما يتلاءم والفروق الفردية للتلاميذ العاديين بل يتعداه لرعاية ذوي صعوبات التعلم والموهوبين. يذكر فوغارتي وبيلانكا (Fogarty and Bellanca, 1995) أن كل التلاميذ يمتلكون ذكاءات متعددة من ذوي صعوبات التعلم إلى الموهوبين.

ويوضح موريس(Morris, 2002; 2003) أنه إذا طلب المعلمون من تلاميذهم تلقي المعلومات بطريقة لا تتوافق مع أساليب تعلمهم السائدة أو أن يظهروا التعلم بالطريقة التي تجعلهم فاشلين في استخدام ذكاءاتهم الأكثر سيادة، فإن مثل هؤلاء المعلمين يخلقون داخل تلاميذهم أشكالًا من التوتر ودافعية منخفضة وأداءً مقموعًا. وهناك مجموعة من الأدلة تقترح أن كثيرًا من تلاميذ التربية الخاصة الذين صُنفوا على أنهم ذوو صعوبات تعلم هم في الحقيقة ليسوا ذوي صعوبات جوهريًا لكنهم دُرِّسوا وقُيِّموا بطريقة غير مناسبة، وربما يكون وصف صعوبتهم أنهم ببساطة يتعلمون بشكل مختلف ولا يستطيعون أن يتعلموا بالطريقة المتاحة في مدارسهم، إنهم ليسوا تلاميذًا أغبياء أو متعلمين بُكم (صامتين) بل هم ببساطة يتطلبون تقييمات وأدوات بديلة لإظهار أشكالهم المختلفة من الذكاء. لذا نجده –موريس- يقترح تغيير المصطلح الذي يشار إليه بالرمز (LD) من ذوي صعوبات التعلم Learning disabled إلى المتعلمين بشكل مختلف Learned differently. ويؤكد أرمسترونج (Armstrong, 2000a) على الفكرة نفسها بقوله إنه لسوء الحظ فإن الكثير من التلاميذ الذين يمتلكون درجة مرتفعة من الذكاءات الأخرى عدا الذكاءين اللغوي والمنطقي/الرياضي لا يتلقون تعزيزًا كبيرًا عليها في المدرسة، وأن الكثير منهم يصنفون على أنهم من ذوي صعوبات التعلم أو مضطربيّ نقص الانتباه أو ببساطة تحصيلهم دون المستوى.

وفي دراسة هاريل (Harrell, 2003) عن تلاميذ ذوي صعوبات تعلم خاصة وذوي صعوبة عقلية معتدلة.. اتضح لها أن الذكاء المكاني والذكاء الجسمي/الحركي لهؤلاء التلاميذ كان مرتفعًا؛ وأنه نظرًا لكون هذين النطاقين من الذكاء غالبًا ما يُهملان في مناهجنا الدراسية فإنه لا تتاح لهؤلاء التلاميذ الفرصة لإظهار قواهم في الفصول الدراسية، ومن ثم فليس لهم مكان في المدارس التقليدية سوى العزل في برنامج تعليمي خاص.

هذا وتركز نظرية الذكاءات المتعددة على أن الطرق الايجابية التي يكتسب بها الناس المعرفة ويتفاعلون مع العلم ربما تكون ذات قيمة خاصة للمعلمين العاملين مع التلاميذ الذين لديهم خبرات صعوبات متكررة في التعلم  (Kallenbach and Viens, 2001). حيث تذكر كارليسون بيكرينغ (Carlson-Pickering, 2001) أن البرامج التعليمية التي تُعطى للتلاميذ ذوي صعوبات التعلم في نطاق مادة معينة تهمل ذكاءات التلميذ القوية وتركز بدلًا من ذلك على نواحي الضعف، وإذا أُخذت نظرية الذكاءات المتعددة كأساس نظري للمعلمين عند اختيارهم أنشطة برامج التعلم فإن التلميذ سيدرس من خلال ذكاءاته القوية التي يتغاضى عنها المعلمون التقليديون.

وطبقًا لما ذكرته جودنو (Goodnough, 2001, p. 182) فإن استخدام نظرية الذكاءات المتعددة في التدريس يتسع ليقابل ثلاث رؤى فهي: تصل التدريس بالطرق التي يتعلم بها التلاميذ، وتشجع التلاميذ على توسيع قدراتهم ليطوروا كل ذكاءاتهم بقدر الإمكان، وتحتفي وتكرم التنوع الإنساني.

وينبهنا عادل عبد الله محمد (2003، ص 1) وباوم (Baum, 1990) أن من الأمور المتناقضة والتي قد لا يعتقد فيها أو يصدقها الكثيرون أن نجد أطفالًا موهوبين ولكنهم يعانون في الوقت ذاته من إحدى صعوبات التعلم، وذلك استنادًا إلى الدراسات الحديثة في كلا المجالين والتي نبهت الخبراء إلى إمكانية أن يكون كلا مجموعتيّ السلوك موجودتين بشكل متزامن. ولكن هذا التناقض يعد حقيقة في مدارسنا.

ويمكنني التدليل على الفكرة الأخيرة بذكر أمثلة لكثير من المشاهير الذين اعتبروا أغبياء في المدارس التقليدية التي لم تقدر ذكاءاتهم القوية وطريقة تفكيرهم المختلفة عن الطريقة التقليدية التي كانت تُعلم بها مدارسهم. ولعل من أبرز هؤلاء ألبرت أينشتين Albert Einstein وونستون تشرشل Winston Churchill وتوماس أديسون Thomas Adison. وللأسف فإن ما حدث لهؤلاء العباقرة يستمر حتى اليوم ليشمل ملايين آخرين في العالم المتسع.

وتذكر باوم (Baum, 1990) أنه إضافة لعرض العلاج لهؤلاء التلاميذ فإن تركيز الانتباه على تطوير القوى والاهتمامات والإمكانيات العقلية الفائقة يكون ضروريًا، حيث أن هؤلاء التلاميذ بحاجة لبيئة تربوية محفزة تمكنهم من تطوير كامل لمواهبهم وقدراتهم، ووفقًا لويت مور و ميكر (Whitmore & Maker, 1985) فإن مكاسبًا أكبر رؤيت عندما ركز التدخل على الموهبة بدلًا من الصعوبة، كما أنه وفقًا لهرم ماسلو للحاجات (Maslow, 1962) فإن الأفراد يجب أن يشعروا بالانتماء وأنهم مقدرون من أجل الوصول لإمكاناتهم، لذا فإنه لابد أن تكون بيئة التعلم معززة تهتم بتطوير قدرات التلاميذ وتُقيم وتحترم الفروق الفردية، وهو ما يوفره مدخل الذكاءات المتعددة في التدريس.

وأرى أن نظرية الذكاءات المتعددة قد أعطت أساسًا لبلورة مفهوم الموهوبية؛ حيث نجد جاردنر (Gardner, 1993) يقدم كتابًا عن سبعة من مشاهير المبدعين كل منهم في ذكاء من الذكاءات السبعة الأولى التي وضعها في نظريته عندما قدمها لأول مرة عام 1983، فيعطي سبع صور وصفية للحياة الإبداعية لأشخاص تميز كل منهم في أحد الذكاءات السبعة (ت. س. اليوت T. S. Eliot ذكاء لغوي- ألبرت اينشتاين Albert Einstein ذكاء منطقي/رياضي- مارثا جراهام Martha Graham ذكاء جسمي/حركي- بابلو بيكاسو Pablo Picasso ذكاء بصري/مكاني- ايجور سترافينسكي Igor Stravinsky ذكاء موسيقي- المهاتما غاندي Mahatma Gandi ذكاء تفاعلي- سيجموند فرويد Sigmond Freud ذكاء شخصي)؛ ما يعد مؤشرًا على العلاقة التي أصبح يفترضها جاردنر بين مفهوميّ الذكاء والموهوبية، كما أن مدخل الذكاءات المتعددة في التدريس يمدنا بفهم لتشكيلة من المواهب التي يحملها التلاميذ للفصل الدراسي، وهي المواهب التي ربما لا يمكن رؤيتها وتمييزها بسهولة في سياق التعلم المدرسي التقليدي. وإذا كان جاردنر يرى أنه لا يوجد سبب لأن نسمي التفكير المنطقي ذكاءً والقدرة الموسيقية موهبة، فإنني أرى أن إسهام نظرية جاردنر لا يتوقف وحسب عند إعادة فحص العلاقة الثنائية الهامة بين الذكاء والتعلم المدرسي، بل أرى أن إسهامه يمتد إلى فحص العلاقة بين الذكاء والموهوبية والتعلم المدرسي.

ذلك أنه في الفصول الدراسية التقليدية، كثيرًا ما تم إغفال الكثير من المواهب ودفنها بسبب الاعتماد على التقييم الفردي واختبارات الذكاء التقليدية بعكس هذه النظرية التي تساعد على الكشف عن القدرات والفروق الفردية، فكم من موهبة لم تُشحذ لأن المربين غفلوا عن اكتشافها وصقلها، كما تساعد هذه النظرية في توجيه الأفراد مهنيًا للوظيفة التي تناسبهم والتي تلائم قدراتهم ويُتوقع أن ينجحوا فيها (الذكاء المتعدد واستراتيجيات التعلم، د. ت).

وقد أشارت نتائج دراسة شيا وآخرين (Shea et al., 2001) إلى أن القدرتين اللغوية والكمية (الرياضية) وحدهما لا تمدان بوصف وافٍ للتنوع المعرفي لدى التلاميذ الموهوبين عقليًا، وأن الفروق الفردية في هذه الفئة الخاصة في القدرات اللغوية والكمية والمكانية في عمر 13 عامًا كانت متعلقة بشكل واضح بعضويات المجموعة التربوية والمهنية عبر 20 عامًا، وكان واضحًا أن القدرة المكانية مقارنة بالقدرة الكمية واللغوية تمد بمعلومات فريدة وأنها أضافت صدقًا إضافيًا في التنبؤ بالنتائج التربوية/المهنية التي اختارها التلاميذ بأنفسهم عبر الأزمنة المتعاقبة.

وإذا ما قارنا المدرسة التقليدية بالمدرسة التي تركز على الذكاءات المتعددة للتلاميذ فيما يختص بالتعامل مع الموهوبين سنجد أن الموهوبين في المدرسة التقليدية هم التلاميذ الذين يحصلون على معامل ذكاء 130 فأكثر، ويتم تعليمهم من خلال برامج خاصة بالموهوبين. بدلًا من ذلك وفي مدرسة الذكاءات المتعددة يمكننا التركيز على التلاميذ المتميزين في أنواع مختلفة من الذكاء. التلاميذ الذين هم موسيقيون جدًا أو منطقيون جدًا أو لغويون جدًا لكن دون تغيير البرنامج التعليمي. وقد دلت الدراسات التي تمت على الطلاب الموهوبين على فعالية البرامج التدريسية المؤسسة على نظرية الذكاءات المتعددة في التعرف على الموهوبين والوصول بموهبتهم إلى درجة التفوق، وتنمية مواهبهم بشكل أفضل مقارنة بالذين تعلموا بالطريقة التقليدية. بالرغم من ذلك ووفقًا لدراسة مِكفارلاند (McFarland, 1998) فإن أغلبية تحديدات المعلمين للموهوبين لا زالت مؤسسة على القدرات الأكاديمية للتلاميذ في اللغات والقدرة المنطقية/الرياضية.

وتذكر كارلسون-بيكرينغ (Carlson-Pickering, 2001) أن المعلمين عندما يستخدمون استراتيجيات تدريس وأنشطة متنوعة فإنهم لا يصلون فقط لكل التلاميذ، لكنهم يكونون أفضل في القدرة على تنمية المواهب للتلاميذ ذوي القدرات العالية. هؤلاء التلاميذ لديهم الحاجة لتقوية ذكاءاتهم. وأغلب المعلمين الذين درَّسوا من خلال مدخل الذكاءات المتعددة يشعرون أنه قد أتاح لهم الفرصة للوصول للمواهب الفريدة التي يمتلكها كل تلاميذهم.

إن المدارس التي تقدر كل الذكاءات لا تسقط الفن أو الموسيقى حتى بالمقارنة بالكمبيوتر. لكن للأسف يظل مجتمعنا يرسل رسائل خليطة للتلاميذ فنحن نتملق الرياضيين الحاصلين على جوائز والموسيقيين والقادة، لكن نفشل في تنشئة التلاميذ المبتدئين في الألعاب الرياضية والموسيقى والمهارات الاجتماعية (Scherer, 1997).

ويوضح جاردنر (Gardner, 2003) أن هناك فروقًا حتى في مستوى الأداء العالي، فهناك فروقًا بين هؤلاء الذين يكونون فائقين في نطاق واحد مثل الموسيقيين أو علماء الرياضيات مقارنة بمتعددي البراعات أو المواهب أو الكفاءات مثل السياسيين أو قادة الأعمال الذين يعرضون بروفيل مستوي نسبيًا من نواحي القوة المعرفية.

ويضيف شيرير (Scherer, 1997) أن نظرية الذكاءات المتعددة قد غيرت أيضًا الطريقة التي نختبر ونقيم بها تلاميذنا، فبعض الاختبارات المعيارية اليوم تتطلب ذكر أمثلة وتفسير خرائط ورسم، وتقود التلاميذ لإظهار ذكاءهم بطرق مختلفة. كما يعتقد جاردنر (as cited in Carlson- Pickering, 2001) أن كل التلاميذ يجب أن يمدوا بفرص ليظهروا ما قد تعلموه ويكونوا قادرين على أن يفعلوا من خلال الحقيبة الوثائقية Portfolio وتقييمات عملية موثوق بها. ويذكر موريزيت (Morissette, 2002) أنه على أساس نظرية الذكاءات المتعددة فإن استخدام الحقيبة الوثائقية Portfolio هو أدق طريقة لقياس كيفية نماء التلميذ، فالحقيبة الوثائقية هي تجميع لعمل التلاميذ في نطاقات عديدة والتي تسمح للمعلمين أن يقدروا على أساس شواهد التعلم طوال الوقت، وتوضح أن الأطفال يكونون أذكياء بكثير من الطرق المختلفة. ويشرح أرمسترونج (Armstrong, 2000b) بعض طرق التقويم الممكنة فيذكر أن التلميذ قد يختار كتابة تقرير عما درس باستخدام برنامج معالجة الكلمات على الكمبيوتر، ومتعلم آخر يقرر أنه سوف يكون أغنية تتضمن الكلمات المفتاحية بالدرس، وآخر يجري سلسلة من التجارب العلمية أمام زملائه، أو تلميذ يظهر فهمه عن طريق إبداع خريطة عقلية لمحتوى الدرس.

وأرى أن اختيار طرق التقويم يمكن أن يخضع لتفضيلات التلاميذ ما لم يتعارض مع أهداف التعلم؛ فإذا أردنا من التلاميذ أن يكونوا قادرين على الكتابة فيجب أن يكون تقييمهم كتابيًا، وإذا أردنا منهم أن يكونوا قادرين على تحليل بيانات فلابد من إعطائهم بيانات كي يقوموا بتحليلها.

ونعود إلى النقطة المفتاحية في نظرية الذكاءات المتعددة وهي أن معظم الناس يمكن أن ينموا كل ذكاءاتهم إلى مستوى كفء نسبيًا من حيث الإتقان، حيث يذكر هاو (Howe, 1997, p. 139) أنه إذا كان الذكاء كفاءة أساسية ثابتة كما تحدده النظرة التقليدية، فلن تكون هناك حاجة للاعتناء بالحرمان التربوي أو بالجور وعدم المساواة؛ إذ نستطيع أن نتقبل ببساطة أن ما يحدث لحياة الناس هو أمر مرسوم لهم بسبب قوى خارجة عن تحكم المجتمع.

وهنا لابد من طرح السؤال الهام: "هل حقًا يمكن أن يصنع التعلم والتدريب اختلافًا؟"، هل يمكن أن يسهم تنوع الأنشطة المدرسية بحيث تلائم الذكاءات المتعددة في تنمية تلك الذكاءات أم أن الذكاء ثابت كما يذكر أنصار العامل العام ولا تلعب الخبرة دورًا كبيرًا في اكتسابه لكونه فطريًا وليس مكتسبًا؟ كما نتساءل.. هل يمكن أن يعمل هذا التنوع التدريسي حقًا على تنمية نمط التعلم والتفكير المتكامل إذا كنا لكل منا نصف مخ مهيمن كما تشير أغلب الدراسات؟

ويجيبنا مِكبرين وبراندت (McBrien & Brandt, 1997) بأن الأبحاث الحديثة تؤكد طواعية المخ وأنه ينمو ويتكيف كاستجابة لمثيرات خارجية، كما يؤكدان على أن البيئة المسترخية غير المهددة التي تزيل خوف التلاميذ من الفشل تُعتبر أفضل من أجل التعلم المستند إلى المخ. وهو ذاته ما أشارت إليه وولف (Wolfe, 2003 a) من أن الانفعال عامل أساسي في تجهيز التعلم، وأن البيئة يجب أن تكون آمنة جسميًا ونفسيًا حتى يحدث التعلم. وهو ما يوفره هذا المدخل التدريسي للتلاميذ.

ويمكننا القول إن نظرة المدرسة الحديثة ودورها نحو التلميذ قد تغيرت، فهي لم تعد قاصرة على تعليم الطفل عن طريق تلقينه بعض المعلومات، بل أصبحت لها رسالة أخرى لا تقل أهمية عن الرسالة السابقة، وهي العمل على تربية الطفل وتكوين شخصيته من جميع النواحي وتنمية ذكائه وتفكيره (إسماعيل عبد الفتاح، 1998، ص 59). وهو ما أشار إليه جاردنر (ترجمة محمد العقدة، 1997، ص 389) حيث ينبغي أن يكون هدف المدرسة في رأيه هو تنمية أنواع الذكاء، ومساعدة الناس على الوصول إلى أهدافهم المهنية وهواياتهم، والتي تتناسب مع نوع الذكاء الذي يتمتعون به.

كيف يمكن للمعلم أن يوظف مدخل الذكاءات المتعددة تربويًا؟

بدايةً فأنا أرى أنه بسبب نقص معلومات الكثير من المعلمين عن نظرية الذكاءات المتعددة فإنه تنقصهم المهارات والثقة التي تلزم لمواجهة تحدي العمل على تطوير القدرات العقلية للتلاميذ عن طريق تطبيق النظرية كمدخل في خطط دروسهم. وتشير نتائج دراسة غرينوود (Greenwood, 2006) إلى أن المربين يعتقدون أن النتائج من علم الأعصاب –متضمنة أبحاث المخ- وعلم النفس المعرفي تكون هامة لممارساتهم، وبالرغم من ذلك فإن قاعدتهم المعرفية عنها واستخدام هذه المعرفة كان محدودًا.

وتذكر جاكوبس-كونيل (Jacobs-Conell, 2000) أنه ينبغي على كل معلم أن يفهم بروفيله العصبي للذكاءات، وأن يفكر في الكيفية التي يؤثر بها بروفيله في طريقة تدريسه، وأخيرًا أن يوسع  تقنيات تدريسه لتتضمن نطاقات من ذكاءات جاردنر غير متطورة في بروفيله. ومما يعزز ذلك الرأي ما أشارت إليه دراسة جونست (Gunst, 2004) من أن المعلمين المشاركين بالدراسة –وعددهم 622 معلمًا- مالوا لأن يستخدموا استراتيجيات تدريس منحازة لذكاءاتهم المتعددة التي قرروها بأنفسهم، كما أشارت تلك الدراسة إلى أن استراتيجيات التدريس قد أثرت تعلم التلاميذ وساعدتهم على تطوير ذكاءاتهم المختلفة. من أجل ذلك ينبغي على المعلمين أن يتحركوا إلى ما هو أبعد من ذكاءاتهم القوية وأن يدمجوا استراتيجيات وطرق عديدة في فصولهم الدراسية لأن التلاميذ لديهم قدرات واهتمامات واتجاهات مختلفة.

كذلك يؤكد أرمسترونج (Armstrong, 2000b) على ضرورة أن يحرص المعلم على تقييم الذكاءات المتعددة لتلاميذه لإشعار كل منهم بتميزه، ولكي يتمكن من مساعدتهم على تنميتها، وذلك من خلال طرق متعددة يحددها في:

* الملاحظة البسيطة للتلاميذ: وتتضمن ملاحظة كيف يسيء التلاميذ في الفصل الدراسي، وكيف يقضون أوقات فراغهم بالمدرسة؛ لأن أنماط سلوك التلاميذ الإجرائية –السيئة كانت أو الحسنة- غير المخطط لها تعكس ذكاءاتهم، كما يقترح أرمسترونج أن يستعين المعلم بقائمة ملاحظة تشمل عبارات تُقيِّم الأنشطة التي تعكس كل ذكاء من الذكاءات الثمانية وذلك من أجل تنظيم عملية الملاحظة.

* جمع الوثائق: وتتضمن تلك الوثائق صورًا ورسومًا تخطيطية وعينات من العمل المدرسي للتلاميذ وشرائط فيديو وشرائط تسجيل صوتي وإسطوانات مرنة CD تظهر نواحي نشاط التلاميذ التي تظهر من خلالها ذكاءاتهم القوية.

* سجلات المدرسة: حيث توفر بيانات السجلات المدرسية التراكمية معلومات عن ذكاءات التلاميذ المتعددة، والتي تشمل تقديرات التلاميذ في المواد المختلفة وفي اختبارات الذكاء التي تعتبر فئاتها الفرعية مقاييسًا لبعض الذكاءات؛ كاختبارات ترتيب الصور وبناء المكعبات التي يمكن اعتبارها مقاييسًا للذكاء المكاني، كما يوضح ضرورة الاستعانة بأنواع من الاختبارات التي تتعلق بكل ذكاء كمقاييس النضج الاجتماعي لقياس الذكاء الاجتماعي.

* التحدث مع المدرسين الآخرين.

* التحدث مع آباء التلاميذ.

* سؤال التلاميذ أنفسهم.

وهو ذاته ما أشارت إليه نتائج دراسة كارثي (Carthey, 1993) من أنه ينبغي على المعلمين أن يأخذوا في الاعتبار اختبار تلاميذهم لتحديد أنماط تعلم التلاميذ وسيادتهم المخية، ومن ثم ربما يقترح المعلمون مداخل وطرق تدريس تتوافق معها.

ثم تأتي الخطوة التالية وهي تدريس التلاميذ عن نظرية الذكاءات المتعددة. ترى كارليسون-بيكرينغ (Carlson-Pickering, 2002) أن التلاميذ يمكن أن يدركوا فكرة أنهم يمتلكون ذكاءات مختلفة كثيرة بكميات مختلفة إذا استخدم المعلم لذلك أمثلة ملائمة، وتعطي مثالًا بأن المخ يماثل ثُرَيا بها مصابيح مختلفة الشدة، وأن التلميذ بإمكانه تخيل ذكاءاته القوية كالمصابيح الأكثر إضاءة في ثُريته (مخه)، وبما أننا جميعا لدينا تشكيلة من القوى والعيوب فإن مصابيح ثرياتنا تشع بأضواء مختلفة. إن هذه المناظرة -بين المخ والثُريا- تساعد التلاميذ أن يتخيلوا كيف هم أذكياء، وأن يبدأوا في رؤية أنه بالرغم من أنهم قد لا يُشعّون في منطقة فإن لديهم مناطق أخرى يتأتى لهم فيها ذلك. إنهم يتعلمون رؤية وقبول الاختلافات بينهم وبين نظرائهم ويدركون أنه لا يوجد شخص أفضل من الآخر.

وتدلنا دراسة سون (Sohn, 2003) أن معرفة التلاميذ ببروفيلات ذكاءاتهم المتعددة قد ساعدتهم في اختيار استراتيجيات مناسبة أي أنها سمحت للتلاميذ أن يجدوا نقطة الدخول الخاصة بهم إلى التعلم، وأنه عندما كان التلاميذ قادرين على اختيار استراتيجياتهم فإن نسبة عالية جدًا منهم استخدموا استراتيجيات توافقت مع بروفيل ذكاءاتهم المتعددة.

وبعد التعرف على ذكاءات التلاميذ تأتي أهم خطوة وهي وضع النظرية موضع التطبيق. يذكر كل من جابر عبد الحميد (2003، ص ص 57: 62) وإسماعيل الدرديري ورشدي فتحي (2001، ص ص 82: 84) بعض الأنشطة التي يمكن تنفيذها للارتقاء بالذكاءات المتعددة للتلاميذ ومنها الزيارات الميدانية لأماكن متنوعة خارج الفصل الدراسي –يمكن أن تكون داخل المدرسة كحجرة الموسيقى على سبيل المثال- أو إفساح الفرصة لأحد المتخصصين في مهنة ما لزيارة الفصل، وتتبع السِير الذاتية لأفراد بارعين مشهورين في كل مجال من مجالات الذكاء، والأنشطة العملية السريعة التي تشمل أنشطة متنوعة يعتمد كل منها أساسًا على استخدام أحد الذكاءات ويكون على التلميذ أن يُتمها، ومناضد الذكاءات المتعددة التي تتطلب إعداد منضدة لكل ذكاء في الفصل الدراسي ليتم عليها التلاميذ النشاط الخاص بالذكاء ثم ينتقلوا للمنضدة التالية، وعرض منتجات التلاميذ مُعبَرًا في كل منتج عن نوع الذكاء الذي يُعبَّر عنه، إضافة إلى عرض ملصق لأحد البارعين في كل ذكاء على جدران الفصل، وتأليف قصة أو مسرحية أو أغنية يتمتع أبطالها بدرجة عالية من أحد الذكاءات ويتحدث عما يفعله، كما يمكن للمعلم أن يستخدم لعبة من الورق المقوى يقوم بإعدادها مع تلاميذه على شكل لوحة مقسمة إلى مربعات ملونة بألوان مختلفة تمثل الذكاءات وبطاقات ملونة بالألوان نفسها عليها أسئلة تخص الذكاءات المختلفة ونردًا (زهر الطاولة).

كما يورد جاردنر (Gardner, 2001) طرقًا يمكن بها نقل نظريته إلى حيز التطبيق منها أنه يمكن تجميع كل التلاميذ الأقوياء في ذكاء، أو يمكن جمع كل التلاميذ الضعفاء في ذكاء لمحاولة تقوية تلك الذكاءات الضعيفة أو تجاهل العيوب والبناء على نواحي القوة، كما يمكن تفريد التربية كلما أمكن، وهذا الخيار الأخير هو ما يستحسنه جاردنر حيث يرى أنه في عصر الكمبيوتر يكون تفريد التربية ملائمًا لكل طفل وليس للأغنياء فقط.

وبالرغم من ذلك فإن نظرية الذكاءات المتعددة ليست نظرية في التربية، ومن ثم فإنها ليست مجموعة استراتيجيات لتُطبق بشكل مباشر، إنها تؤيد وتصدق على ممارسات كثيرة مختلفة جيدة وتوسع مقدرة المعلمين على إخراج الأفضل من تلاميذهم، إنها ليست تقنية.. إنها مجموعة من القدرات العقلية "It's not a technique, it's a mind set" (Kallenbach and Viens, 2001; Viens, 2000).

وتركز كريستيسون وكينيدي (Christison and Kennedy, 1999) على الفكرة ذاتها إذ تريان أن نظرية الذكاءات المتعددة لا تقتضي طريقة تدريس أو منهج أو أسلوب، لكن طريقة في فهم الذكاء يمكن للمعلمين أن يستخدموها كمرشد في تطوير أنشطة الفصل الدراسي التي تنصب على طرق عديدة للتعلم والمعرفة. كما تشير كامبل (Campbell, L., 1997) إلى عدم وجود اتفاق بين المربين على نموذج واحد مفضل لتطبيق مدخل الذكاءات المتعددة، فمنهم من يركز على برامج مهنية، ومنهم من يعتمد على المشروعات، ومنهم من يجعل تلاميذه يدورون طوال اليوم في محطات تعليمية (مراكز تعليمية) ينفذون فيها نشاطًا خاصًا بأحد الذكاءات، فالمعلمون يطبقون النظرية بالطريقة التي يعتبرونها أكثر ملاءمة لتلاميذهم ومدرستهم ومجتمعهم. كما أنه لأمر هام كما يذكر أرمسترونج (Armstrong, 1991, as cited in Carlson-Pickering, 2001) أن يركز المعلم على أي  ملامح ايجابية يجدها في سلوك التلاميذ حتى إذا كانوا لا يزالون لا يعملون بالمستوى النهائي الذي يرغبه.

إن المطلوب هو بيئة تدريس وتعلم تحتفي بالفروق الفردية؛ فالأفراد يتعلمون بسبب اختلافاتهم وليس بالرغم منها (Herrmann, 1991, p. 280). ويقترح جاردنر (Gardner, 1999) بديلًا للتربية المتماثلة التي لا تراعي الفروق الفردية والمنتشرة في الأنظمة التعليمية الرسمية، هذا البديل هو التربية الموفقة فرديًا Individually Configured Education والتي تأخذ الفروق الفردية بجدية، كما تكون متوافقة أيضًا مع المنهج المعياري؛ إذ لا يعني الالتزام ببعض المعرفة العامة أن الجميع يجب أن يدرس هذه الأشياء بالطريقة نفسها وأن يُقيَّموا بالطريقة نفسها. ويرى جينيسي (Genesee, 2000) أن دراسات المخ تصدق على ما نعرفه من الدراسات التربوية بأنه يجب على المعلمين أن يقوموا باستعدادات مسبقة للفروق الفردية في أنماط التعلم عن طريق إمداد التلاميذ ببدائل ترتيبات جماعية ومواد تدريسية.

وتوضح كارلسون-بيكرينغ (Carlson-Pickering, 1999) أننا نكون أكثر حماسًا ودافعية للتعلم عندما نشترك في الأنشطة التي نمتلك فيها بعض الموهبة حتى لو كانت تقدم لنا مادة لا نحبها، لذا فإن المعلم إذا قدم المادة من خلال تشكيلة من الذكاءات فإنه من المحتمل أكثر أنه سيصل إلى عدد أكبر من التلاميذ. وقديمًا ذكر ريونولدز وتورانس (Reyonalds & Torrance, 1978 as cited in Harpaz, 1990, p. 168) أنه يمكن تعديل نمط السيادة المخية للتلاميذ من خلال تدريبهم على أنشطة تعليمية متنوعة. كما ذكر العديد من الباحثين بإيراد الأدلة أن الدورات التعليمية قصيرة الأجل ليس لها تأثير دال على أنماط التعلم والتفكير (Lavach, 1991, p. 219). كذلك أوضح كان وكان (Kan & Kan, 1979, p.165) أن المخ يكون أكثر مرونة في مرحلة الطفولة وبداية المراهقة عنه في المراحل العمرية التالية حيث تصبح وظائف النصفين الكرويين أكثر ثباتًا. إضافة لذلك فإنه توجد نتائج من بعض الدراسات تفيد بأهمية دمج استراتيجيات الذكاءات المتعددة في سن مبكرة؛ لأن التلاميذ يكونون أكثر قابلية لاستقبالها، أما التلاميذ الكبار في السن فلا يكونون معتادين على الحرية الدراسية التي يعرضها هذا المدخل التدريسي ما لم يُطبق عليهم في الصغر، ومن ثم فهم لا يتقبلون استراتيجياته بالقدر نفسه، ولا يحقق معهم النجاح الذي يحققه مع صغار السن، وعلى سبيل المثال فقد أشارت نتائج دراسة بارتشر وآخرين (Partscher et al., 1995) إلى أن نتائج استخدام هذه الاستراتيجيات لم تكن فعالة في زيادة دافعية تلاميذ الصف العاشر مقارنة بالصفين الثالث والسادس. كما أن هناك تصورًا لا زال قائمًا لدى كثير من التربويين أن بعض أنواع الأنشطة التي يعرضها هذا المدخل تُعد طفولية ولا تصلح لتعلم الكبار –خاصة الأنشطة الموسيقية-. ويكون أرمسترونج (Armstrong, 1994) أقل تفاؤلًا عندما يذكر رؤيته بأن بعض المربين ربما يظنون أن الفلسفة التعليمية للذكاءات المتعددة بوجه عام –وليس الأنشطة الموسيقية فحسب- تعمل جيدًا مع الأطفال الصغار، لكن عندما يصل التلاميذ لعمر المدرسة المتوسطة أو الثانوية فإنهم بحاجة لأن يضعوا هذه الزخارف التعليمية غير الأساسية جانبًا ويصبحوا جادين حول التعلم، ولسوء الحظ فإن هذا المنظور الضيق للتعلم يسهم في تنفير المراهقين من التعلم، لأن الأطفال لا يتركون ذكاءاتهم المتعددة وراءهم بمجرد أن يصلوا للبلوغ، بل على النقيض يصبح الذكاء أكثر حدة (خاصة الذكاء الجسمي/الحركي والذكاءين الشخصيين).

ما هي فوائد استخدام مدخل الذكاءات المتعددة في التعليم؟

من خلال مراجعتي لدراسات وكتابات الباحثين الذين يؤيدون استخدام مدخل الذكاءات المتعددة في التدريس مثل (ابتسام محمد فارس، 2006؛ أحمد أوزي ، د. ت؛ إيناس السيد محمد، 2005؛ بهيرة شفيق، 2007؛ عبد الرحمن علي بديوي، 2007؛ فضلون سعد الدمرداش، 2005؛ لوريس إميل، 2007؛ محمد عبد الرحمن أبو هاشم، 2004)

 (Albero et al., 1997; Aldhahri, 2004; Anderson, 1998; Armstrong & Rentz, 2002; Baldes et al., 2000; Baugous & Bendery, 2000; Benning et al., 2003; Beuscher et al., 1997; Bielsker et al., 2001; Blake et al., 1999; Burhorn et al., 1999; Campabello et al., 2002; Campbell, 1994; Campbell, L., 1997; Carlson- Pickering, 1999; Carlson- Pickering, 2001; Carver et al., 2000; Charbonneau & Ribar, 1999; Cluck & Hess, 2003; Coleman et al., 1997; Comia, 2006; Condis et al., 2000; Dare et al., 1997; Davis, 2004; Dillihunt, 2003; Ellingson et al., 1997;  Fortner, 2004; Francois et al., 1999; French et al., 1998; Geimer et al., 2000; Georg et al., 2001; Goodnough, 2001; Hanley et al., 2002; Herbe et al., 2002; Hicks, 1998; Highland et al., 1999; Hubbard & Newell, 1999; Hughes, 1995; Hutchinson et al., 2002; Janes et al., 2000; Kariotakis et al., 2000; Klein et al., 1998; Klopcic, 1998; Lane el al., 1997; Layng et al., 1995; Lindvall, 1995; Lowe et al., 2001; Naffziger et al., 1998; Outis, 1994; Pierce, 1997; Pociask & Settles, 2007; Rockwood, 2003; Rubin, 1999; Schirduan & Case, 2000; Tapping into Multiple Intelligences, n. d; Taylor, 2007; Uhlir, 2003; Vega, 2001)    يمكنني استخلاص الفوائد التالية لاستخدام مدخل الذكاءات المتعددة في التدريس:

* يرفع أداء المدرسين، ويمدهم بفهم أكبر لتلاميذهم والاحتياجات التربوية للتلاميذ، وتصبح رؤيتهم لتلاميذهم أكثر عمقًا وتفكيرًا في تضمينهم للمادة.

* يراعي طبيعة كل المتعلمين في الفصل الدراسي وينطلق من اهتماماتهم ويراعي ميولهم وقدراتهم، إيمانًا بأنهم يتعلمون بطرق مختلفة بدرجات مختلفة ومن خلال مناظير مختلفة اعتمادًا على خبراتهم الشخصية، وأخيرًا فإنه ينصف كل المتعلمين ويعتبر أن لكل منهم قدرات معينة.

* يعطي فهمًا ورؤية متفائلة للتلاميذ.

* يساعد كل التلاميذ أن يستكشفوا ويُنموا ويُطوروا قدراتهم، فيصبح المتعلمون أكثر نشاطًا ومشاركة وابتهاجًا بالتعلم وشعورًا بالكفاءة، وأكثر ارتباطًا بالمهام التي ينفذونها. إضافة لذلك فإنه يدعم أيضًا المثابرة والجهد الضروريين لإجادة المهارات والمعلومات وليكونوا مبدعين، ما يؤدي للنمو الدراسي.

* يزيد مسئولية التلاميذ عن تعلمهم وارتباطهم بعملية التعلم.

* يحسن المردودية التعليمية/التعلمية؛ إذ يؤدي إلى زيادة فهم واكتساب التلاميذ للمادة المتعلمة، ومن ثم احتفاظهم بها وتذكرها، ومن ثم ارتفاع درجاتهم التحصيلية.

* يُنقص الفجوة في مستويات التحصيل بين التلاميذ.

* يثبت أن التقويم الكتابي ليس بالضرورة الطريق الأفضل لتقويم تحصيل التلاميذ.

* يزيد تقدير التلاميذ للقراءة ودافعيتهم لها لأبعد من الفصل الدراسي، وقدرتهم على عمل ارتباطات بين ما قرأوا وحياتهم، كما يزيد الوقت الذي يقضونه ليقرأوا ويفكروا فيما قرأوه، ومن ثم زيادة الفهم القرائي ومهارات التفكير العليا لديهم.

* يرفع مستوى القدرة على الكتابة لدى التلاميذ.

* يمكن التلاميذ ذوي صعوبات التعلم من استيعاب المفاهيم بشكل أيسر، والمشاركة في أنشطة الفصل الدراسي.

* يوفر المزيد من فهم وتقدير التلاميذ للذات وتقدير قواهم الفردية، ومشاعر أكثر إيجابية تجاه الذات.

* يُحسِّن مستوى مفهوم الذات للتلاميذ ذوي النشاط المفرط نظرًا لأن تركيز المنهج يكون على نواحي قوى التلاميذ بدلًا من العيوب، وهو جانب غالبًا ما يكون مفقودًا في تربية ذوي النشاط المفرط في المدارس التقليدية.

* يزيد دافعية التلاميذ للتعلم واستمتاعهم به، ويُحسن الاتجاهات نحو المدرسة.

* ينقص سلوك التلاميذ الفوضوي والسلوك غير الملائم والمعطل، ويقلل مشاكل الانضباط في الفصل.

* يقلل الوقت الذي يستلزمه المعلمون لتصحيح السلوك الخاطئ ما يتيح وقتًا أكثر للتدريس حيث يزيد الوقت الذي يقضيه التلاميذ في أداء المهام التعليمية الموكولة إليهم، وينتج عنه نمو أكاديمي وشخصي للتلاميذ.

* يُحسِّن المهارات الاجتماعية للتلاميذ، ويزيد التعاون بينهم وبين زملائهم ومعلميهم.

* يُطور مهارات الصداقة.

* يُحسِّن المهارات الحوارية لدى التلاميذ؛ حيث يحدث لديهم تحسن دال في لغتهم التعبيرية والاستقبالية في الحوار.

* يوفر للتلاميذ المزيد من فهم واحترام زملاء الدراسة، لأنه عندما يمتلك التلاميذ الفرصة لتقديم المعرفة من خلال أحد ذكاءاتهم القوية فإن زملاءهم في الدراسة سوف يرون جوانب فيهم ربما لم يدركوها من قبل، ومن ثم يتعلمون أن يُقدروا تفرد التلاميذ الآخرين.

* تشجع تلك البيئة التلاميذ على أن يروا أنفسهم كقادة.

* يطور التلاميذ المسئولية المتزايدة والاتجاه الذاتي والاستقلال، ويتحسن إكمال العمل المستقل.

* يصبح التلاميذ ماهرين في تطوير مشاريعهم وجمع الموارد والمواد الضرورية والقيام بعمل تقديمات مدروسة.

* يراكم التلاميذ خبرات تربوية إيجابية وإمكانية خلق حلول للمشاكل في الحياة.

* يزيد نقل المعرفة لدى التلميذ من الفصل الدراسي إلى أنشطة الحياة اليومية.

* يزيد الوعي المهني بوظائف متنوعة لدى التلاميذ، ويتفهموا أن عملهم المدرسي متعلق بالحياة في المستقبل. 

وبإمكاننا الاستنتاج من نتائج هذه الدراسات مجتمعة أن مدخل الأنشطة المتنوعة –أو ما يُعرف بمدخل الذكاءات المتعددة- في التدريس لا تقتصر فعاليته على تنمية الذكاءات المتعددة فقط كما أشار جاردنر Gardner، بل تمتد أهميته لتنمية الكثير من المتغيرات، كما طُبقت برامج هذا المدخل على مواد دراسية مختلفة كاللغة العربية واللغة الانجليزية والرياضيات والعلوم والدراسات الاجتماعية وعلم النفس والموسيقى والفنون، وأثبتت نجاحها في زيادة التحصيل في كل هذه المواد الدراسية، بل وفاعليتها في علاج صعوبات التعلم الشائعة ما يدعم أهمية هذا المدخل التدريسي ويؤكد فوائده.

 

د. منى زيتون

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم