صحيفة المثقف

عصمت نصَّار: المشروع الفلسفي في مصر بين صدق الدعاة وأباطيل الأدعياء

عصمت نصارلم تقف كتابات "إسماعيل مظهر" ورفاقه عند وصف مدى انحدار الجانب الاجتماعي والأخلاقي الذي راح يتسلل إلى طبقات المجتمع المصري، وأصاب الطبقة الأرستقراطية التي انغمست في تقليدها للأوروبيين، فأخذت أقبح ما في عوائدهم وتركت النافع منها، ولم تسلم أخلاقيات العوام من الفساد.

فقد دفعهم ضيق الأرزاق والعوز إلى استباحة المكروه من الأعمال، والقبيح من الأقوال، وتعلقوا بالأوهام، وقدّسوا ظاهر الدين دون مخبره، وخدعتهم شعارات تجار الكلام وكاد أن يقعدهم التواكل عن الكد والمصابرة، والبحث عن النجاة في الماضي، فبدَّعوا الاجتهاد، واتهموا المجددين بالإلحاد في الدين.

أمَّا الطبقة الوسطة؛ فلم تخلو من مساوئ أصحاب القصور ولا جمود سكان القبور. ومن ثمَّ كان لازماً على قادة الرأي والمخططين لمشروع النهضة إعداد خطابات مناسبة لتقويم ذلك الخلل الذي كاد أن يطيح ببرامجهم الإصلاحية والتوجيهية، وقد عبرت عشرات الصحف عن تلك الثورة التي حمل فيها معظم المثقفين المعتدلين على تقليد المكروه الذي يقود أوله إلى الجمود والفناء في الماضي، ويدفع أخره إلى تبديد المشخصات وضياع الهوية.

ونبهوا كذلك إلى خطر التعصب بكل أشكاله وفي ذلك يقول إسماعيل مظهر: (إن التعصب لفكرة أو مبدأ أو أسطورة تنتقل بالوراثة أو اللقاح جيلاً بعد جيل، من غير أن يكون للعقل المستقل حكم فيها.  ويعتقد بعضهم أن الصراع بين الدين والعلم أمر قد فرغ منه، وأن الدين والعلم قد تصالحا على أن يكون لكل منهما حيزه، الأول في عالم الذات، والثاني في عالم الموضوع- وكفى الله الناس شر القتال. ويعتقد فريق آخر أن صراعاً لم يقع بعدُ بين الدين والعلم، وأن كل ما وقع لدى الحقيقة مناوشات أكبرها حادث غليليو في حدود القرون الوسطى، وحادث داروين في أواخر القرن التاسع عشر. ويعتقد أصحاب الرأي الأخير أن الصراع لن يتناول صورة بعينها من صور الدين، أو مذهباً من مذاهب الدين، أو نزعة من منازعه، وإنما سيقوم حول فكرة وجود الله بالذات؛ فكأنهم يختصرون الطريق. فبدلاً من أن يقطعوا الشجرة فرعاً فرعاً؛ لينتهوا إلى أصلها، سوف يحملون معاولهم ويضعونها في الجذع أولاً وأخيراً. ولا جَرَمَ أنه لا يضع الفأس في أصل الشجرة إلا جبار قوي الأصلاب).

وأعتقد أن الحسّ الفلسفي لإسماعيل مظهر هو الذي مكنه من صدق قراءة المشهد المعيش في الربع الأول من القرن العشرين، الذي أنعكس الآن للأسف على أيامنا التي لا تختلف في مقدار ترديها وانحدارها الأخلاقي والاجتماعي عما كانت فيه في أخريات العشرينات من القرن الماضي.

وأستشعر أننا في حاجة للإنصات إلى تحليلاته التي جهلها أو تجاهلها معظم الذين ادعوا بأنهم أصحاب مشروعات ثقافية. فقد بين "مظهر" ورفاقه من أمثال مصطفى كامل وذكي مبارك وعبد العزيز جاويش ومصطفى لطفي المنفلوطي ومحمد حسين هيكل ومحمد المويلحي ومحمود تيمور وغيرهم من المؤمنين بهذا المشروع الذي نحن بصدده؛ أن الدين لم يكن خصم للعلم ولم يتعمد العلم الحط من شأن الدين. والحق أن التعصب هو الذي افتعل هذا التصاول فقد أهمل علماء الدين حماية نصوصه من الأساطير والخرافات وأكاذيب المغرضين ودسّ المحرفين، وأهملوا تعليم العوام وتبصير المرتادين بما جهله بعضهم وخفى عن البعض الآخر من مقاصد النصَّ وغاية الشرع.

وعلى الجانب الآخر اعتقد بعض المشتغلين بالعلم بأن الحقيقة لا مَرْسَىَ لها أو مأوى سوى المشاهدة والتجربة الحسية، وأن التجريب يملك دون غيره الحجة والبرهان وأن التجريد لا يخلو من هواية الخيال والشطح وعالم الخرافة ودنيا الوهم والأساطير. وقد تعصب بعض أولئك وهؤلاء، فادّعى المنتصرون للماضي أن كل موروث نافع وكل مستحدث ضار بينما ذهب الفريق الثاني إلى أن المعتقدات والأديان تنتجها المشاعر والروح الجمعي والأوهام التي تلدها الثقافات البدائية فيلبسها الانتهازيون ثوب القداسة لاستعباد الأمم الضعيفة الجاهلة.

أمّا الفلسفة التي نريد إحيائها في العقول فهي الواقي والشافي والمعين على دفع ذلك التطرف الفكري وذلك التعصب الذي يقود الذهن إلى الإيمان بالتخلف أو عبادة المادة.  ويمضي "مظهر" ورفاقه يبصرون الرأي العام ويحذرون شبيبة المثقفين من التحزب والانتماء المذهبي المريض، مؤكداً أن التعصب جرثومة ممكن أن تتسلل إلى تراكيب الأدوية، كما أن ترياق الأفاعي يصنع منه العقار الشافي؛ فإذا كانت الفلسفة هي الحكمة العاقلة وميزان العقل فإن كل الفلاسفة غير مطبوعين بطابعها، فبعضهم ينحاز إلى بيئته وثقافته ومعتقده، فيتمذهب ويتطرف في عيون الأغيار. ومن ثمّ سوف يظل الدليل والبرهان والحجج المنطقية هى السبيل الأوحد للمفاضلة بين الأفكار والنظريات والمذاهب والأحزاب والاتجاهات. ويقول مظهر (لا أقصد من القول بأن المذهبية الاعتقادية تساوي الدين إلا أن الدين أظهر مظاهر المذهبية الاعتقادية أثراً في الجامعات الإنسانية. فإن المذاهب الفلسفية قد تبلغ في بعض الأحيان من الثبات في النفس مبلغ الدين، فتكون بطورها ديناً تضعف فيه صفة الاستمرار، وينضب من حوله معين القداسة على قدر ما. وكذلك المذهبية العلمية قد تصبح لدى ثابت الاعتقاد شيئاً أشبه بالدين. وكذلك الحال إذا بحثت شتى المذاهب في أية صورة ظهرت، فإنك ترى فيها من الدين شُّبه ولها به آصرة. غير أنك فضلاً عن كل هذا تجد أن أحط الجماعات البشرية المتدينة إنْ خلت من الاستمساك بأي شكل من أشكال المذهبية، فإنّها لن تخلو من مذهبية دينية. تلك المذهبية التي اتخذناها عنواناً على بقيّة الصور التي ينشئها المعتقد على مختلف ألوانه، وعلى شتى مناحيه ... لهذا تجد أن كل فكرة مهما كانت صبغتها إذا ما برزت لابسة ثوب المذهبي، فذلك دليل على قرب انهيارها، ونذير بأن ساعتها قد دقت وآن أوان زوالها قد آن).

وينتهي "مظهر" ورفاقه إلى ضرورة اتفاق المختلفين حول ثوابت المشروع ألا وهى صالح الأمة والحفاظ على مشخصاتها وهويتها المصرية التي جُبلت عليها مؤمنة بأن الله خير ومحبة، وأن الإيمان بوحيه يهدي إلى خير السبيل، وأن عدالته وقدره في خلق الإنسان حر في تفكيره واعتقاده وعمله وأن رسُله بعثوا للهداية، وأن العقل وصفاء السريرة آلية الوصول إلى الله، وأنّ الحياء والعفة صنوان لا يمكن التفريط فيهما، وأن الإخلاص في عشق الوطن عبادة محمودة لا تنافس عبوديتنا لله، وأن الجنوح عن المألوف جائز شريطة خضوعه في النهاية إلى سيوار العقل وعيقال التحرر من المتطرف الماجن واندفاع العنف وطمع الخائن.

والجدير بالإشارة أن الثلث الأول من القرن العشرين قد حفل بالطور الثاني من أطوار المناظرات، والمساجلات، والمثاقفات العقلية حول قضايا المجتمع المصري، وأسس نهضته، وثوابت مشروعه. وقد خلت جميع تلك المناظرات من العنف، وذلك على الرغم من اجتراء بعض المتصاولين وقدح المتخاصمين.

ومع ذلك أن مستوى الانحدار والراديكالية لا يقارن بما كنا عليه في العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين. وحريُّ بنا أن نشيد أيضاً بتصريح قادة الرأي بأن مشروعنا الحضاري يحتاج إلى تدريب المتثاقفين على سنون النقد ليتمكن العقل الجمعي من المفاضلة بين الاتجاهات والآراء وتعقل الرؤى والأفكار المطروحة قبل قبولها أو رفضها. ويقول مظهر في ذلك (إنّ الفكرة التي يتكون من حولها حزب تظل عاملاً ارتقائياً قويّاً ما دامت منصرفة إلى المصالح العامة بعيدة عن أن تتأثر بالمصالح الفردية أو الذوات. وقد يتفق أن يحدث في الفكرة الأساسية تعديلاً لا شعورياً ينصرف في ناحية تكون نتائجها ضرراً لا نفعاً. فإنّ الجماعات لا تستطيع وهى في غمرة التحول والنشوء أن تدرك شيئاً ممّا سوف تجري إليها به خطأ النشوء السائرة فيها. ولو كان هذا في مستطاعتها لعدلت عن كثير في نظاماتها ولعدلت عن كثير من وجهاتها النظرية بمحض اختيارها. غير أن الجماعات لا تستطيع ذلك. وبهذا لا يمكن أن يتكهن إنسان بمصير حزب من الأحزاب أو بمصير أمة تقودها أحزاب مختلفة المبادئ. ذلك لأن الحكم على الآثار الاجتماعية مرهون على نتائج لا يشعر بها الناس إلا في المستقبل البعيد. والحكم على الحاضر حكم غير ثابت على كل حال. أمّا أظهر مظاهر الضّرر التي تُحدثها الأحزاب؛ فالتنابذ الشخصي.

وعلى هذا نرى أن الأحزاب نظام ضروري. غير أنه قد ينصرف عن الخير العام تحت تأثير ظروف خاصة. وبهذا لا يكون النظام الحزبي عنصراً ضرورياً للارتقاء إلا بشرط واحد، هو أن يكون أساسه الغيرية والانصراف إلى المصالح العامة على المصالح الخاصة مهما عظم شأن هذه ومهما ضؤل شأن تلك).

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم: د. عصمت نصَّار

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم