صحيفة المثقف

حيدر عبد الرضا: مباحث قرائية في رواية (أغنية هادئة) للكاتبة ليلى سليماني (2)

حيدر عبدالرضامحاور الأصوات السردية المستقلة ودرامية المواقع الشخوصية

توطئة: يشغل المستوى الحواري للمحاور الصوتية للشخوص ومواقعها العاملية في رواية (أغنية هادئة) ذلك المجال المرتبط بمساحات ديالوجية استراتيجية مستقلة في عناصر محاورها المتناغمة مع واقعية الخطاب والحادثة والمنظور الخارجي والداخلي من واصلات التبئير السردي المتحكم بمؤثرات طابعية كل مكون شخوصي على وفق موقعه التلفظي من منطلقات ذاتية وموضوعية الواقعة الروائية ، وعلى هذا النحو وجدنا أغلب مراكز ومواقع المشخص الزماني والمكاني والذواتي للشخصية الروائية، بمثابة الممثل الإتجاهي المنصهر و المتقاطع مع مسارات كل وحدة صغرى وكبرى متصاعدة من ملحقات التعيين الشخوصي التطوري في تجليات الإداء السردي .

- معطيات القلق الأمومي وحقيقة الإستجابة المشروطة

قلنا في دراسة مبحثية سابقة بأن مستوى حساسية الرؤية في دلالات المستهل الروائي، كانت بمثابة الخصوصية الفضائية التي من شأنها التعامل مع المتن النصي، كسياقية موقعية دالة على وسيلة الاستباق والتطلع بالحادثة الروائية نحو مضمرات شفرية نواتية أولى من رؤية السياق الموضوعي الأولي، لذا فنحن الآن مع تفاصيل أكثر اهتماما وتركيزا حول مواقع حوارية الأصوات الشخوصية المستقلة عبر مواقع محكياتها الأفعالية والصفاتية والذاتية، الأمر الذي جعل من ثيمة ترابط الأحداث في مسار السرد،كوحدات متفاعلة في التمضهر والتشيؤ والحساسية المتطلعة نحو رؤية مشبوبة على ثوابت تقنية المشاهد المونتاجية والتقطيعية في أبعادها الأحوالية والتخصيصية المتوزعة في مراحل زاهدة ومحايدة في ترسيمة شعرية الواقع الروائي. أن رؤية السارد كما أشرنا سابقا في مبحثنا الأول، لا تتجاوز سطح طوبوغرافية الفضاء في عمق المشهد وذلك يعود لهيمنة الرؤية من الخارج ، فالقارىء لها ما يمكنه من النفاذ إلى العمق الداخلي من أحوال المشاهد، لأن إمكانية المقروء المتني، ليس باليسر الحصول عليها الآن، فالأماكن الشخوصية المتصلة بأحوالها المبئرة ، لا تفصح سوى عن ارتباطاتها وديمومة عناصرها التوزيعية في النص ـ موقعا غير متحددا ـ ولكن مع صعوبة الوصل إلى خيارات البث الإفراجي عن خيوط المعنى،تنبثق من هنا وهناك تأويلات متعددة، فيصبح بذلك الفضاء الداخلي سعيا مضمرا في الإفصاح الوسطي في النص، خاصة وأن طبيعة العلاقات الشخوصية في معالجات النص، هي من الطبيعة الآخذة في الإنعطاف والتحول، نزوعا نحو مظاهر الاستجابات الخارجية المعاينة، وحتى يتمكن السارد من تبئير الأشياء في محمولات الشخوص ومواقعها المستقلة، وجدناه يؤكد لنا بأن أوصاف التفاعلات القائمة في مسرح الشخصية والحبكة في فضاء أغوار عملية بحث الزوجان بول ومريم عن تلك المربية المحصنة والمؤهلة من كل رذائل وشوائب قيم تربية ورعاية الطفلين (آدم ـ ميلا) فيظل هذا السعي من الأم مريم على محمل كونها الراغبة في العودة إلى ميدان مهنتها في المحاماة الجنائية، وهذا الأمر بالطبع ما أثار حفيظت الزوج بول بدءا، إذ كان للزوجة في السابق من عهدها، قناعات صارمة تنص على أن رعاية الأطفال من مسؤولية الأم وحدها، ولا يحث لأخرى كمربية أن تسد أو تحل محل غياب الأم عن رعاية أولادها، ولكن قناعات السيدة مع الزمن قد تغيرت تماما، فأصبح موضوع مناقشة عودتها إلى العمل مجددا مع الزوج، بمثابة الأمر المشوب بالشكوك و التساؤلات المريبة: (فاتحت مريم بول في الموضوع، لكن ردة فعله أصابتها بالإحباط.. هز كتفيه وقال: لم أكن أعلم بأنك ترغبين في العمل أثار هذا حفيظتها، وجعلها تستشيط غضبا، وسرعان ما لج في الكلام، أتهمته بأنانية، ولفت هو سلوكها بمجانية المنطق. قال هازئا: أنا لا أعترض على عملك، ولكن ماذا سنفعل بالطفلين؟ . فرأت في ذلك استخفافا بطموحها، وتأكيدا لشعورها بأنها فعلا محبوسة في هذه الشقة . / ص25 الرواية) وفي سياق من الرفض والمعارضة من قبل الزوج، أضحت لنا حوارية المحاور بما يوحي لنا ببعض من مرونة التداول في أمر هذا الموضوع، خاصة وأن مدخول الزوج المالي ما عاد يوفر للعائلة كل أحتياجاتها الضرورية، وعلى هذا النحو لاحظنا بأن معطيات المشهد الدائر ما بين الزوجين كان تناوبيا يعود إلى شكلين من أشكال الراوي، الأول منهما بانورامي ذو وظيفة إدائية ـ تصويرية ـ ، يتكىء على الوصف، أما الثاني مشهدي ذو بعد درامي يستند إلى ماهية الموقع السردي في سياق الحوار.

1ـ خيارات الحلول وجدلية البحث عن مربية:

قد تنبني حلقات المشاهد النصية ضمن حدود متفاوتة من الاختلاف المبطن والتكثيف اللحظوي الواصل في هالات مواقف التسوية ما بين الطرفين (مريم = بول) وتمييزها بسمات مماثلة متصدية لأي ردود إضافية من احتدامات الحوار. غير أن بصيرة ذهنية قد وحدت الأثنان بالتداول بموضوع البحث عن مربية .. هذه الأم الثانية التي سوف تحل عوض عن الزوجة مريم في أوقات عملها الشاق في قاعة المرافعات في المحكمة، وعلى هذا الأساس كان اتفاق الزوجان المبدئي بوضع شروط تعجيزية أمام فرصة الاقتران بتلك المربية التي سوف تكون بدورها الحاضنة للطفلين في ساعات غياب الوالدان في العمل: (أرادت أن تختار المربية وفق الأصول، وحتى تطمئن، لجأت إلى وكالة تشغيل فتحت أبوابها مؤخرا في الحي، عبارة عن مكتب صغير مزين على نحو بسيط، تسيره شابتان في الثلاثينيات من العمر / ضغطت مريم على الجرس، فرشقتها المسيّرة من خلال الزجاج بنظرة لا تخلو من ازدراء، ثم قامت متثاقلة و أخرجت رأسها من فتحت الباب وقالت: نعم؟ ـ صباح الخير؟ هل ترغبي في التسجيل؟ نطلب ملفا متكاملا .. نهج سيرة وشهادات يوقعها مشغلوك السابقون؟ كلا ليس لهذا.. أبحث عن مربية . / ص21 الرواية) .

2ـ شواهد انتظارات المربية وهيستريا القلق الأمومي:

في الحقيقة لعلنا نستنتج من وراء هواجس الشخصية مريم جدلا كبيرا ، فهي تارة لم تعد تفارقها كيفية ترك طفليها في حضانة امرأة غريبة، وتارة أخرى بدا لها هذا الأمر بمثابة توقع طالع السوء في مصير طفليها من جراء وجود هذه المربية التي هي لحد الآن لا تعلم عنها ما يدلل لها بالدليل القاطع بأنها امرأة سوء ورذيلة، تعاملت مع الموضوع بحساسية وعاطفة الأم لا أكثر؟ فيما الزمن كفيل بكشف نوايا ومكونات هذه المربية القادمة من غياهب اللاتوقع الشخصي لدى مخيلة مريم، غير أنها في الوقت نفسه، وخاصة عندما تعاين مستوى ما يكون عليها حالها الجديد كمحامية ناجحة، وسوف تربح الأموال الطائلة لقاء أجرها من زميلها ورئيس عملها باسكال، تتغير وتتبدد من دواخلها المخاوف والكوابيس المتعلقة بحضانة طفليها من قبل تلك المربية (رغم توجسها من فراق طفليها .. مضت تنتظر هذه المربية كما لو أنها تنتظر المسيح المخلص، كانت تعرف عنهما كل شيء، وترغب في الحفاظ على سرية هذه المعرفة .. تعرف ذوقيهما وعاداتهما السيئة .. إن كان أحدهما مريضا، تشعر به على الفور، وهي مقتنعة بأن لا أحد يستطيع أن يحميهما مثل ما تفعل ، لذلك لم تفارقهما من قبل قط . / ص22 الرواية) قد تكون هواجس ومخاوف مريم ، كأسئلة أمومية واردة في قرار عاطفة كل الامهات خاصة عندما يتعلق الأمر بإيداع أولادهن على مسافة ما من الغياب، ولكن كيف لنا أن نقرأ بواطن هذه المخاوف تحديدا؟ أهي في مقام الاستباق الروائي البنائي بادىء ذي بدء؟ أم أنها دلالات إيحائية ملتقطة عن أشد اللحظات بؤسا في محامل عاطفة الشخصية المتعبة من جراء حياتها الروتينية المغلقة في فضاء الأمومة مصيرا؟ قد يكون الوعي بحدود تحديث المستوى الضمني من أحداث بدايات الرواية ، ما يجعلنا نستدرك بوجود ما من إشكالية مخصوصة في بنية الحبكة السردية، إذ أن مواقف الشخوص غدت متنقلة عبر منح ماهية السارد الحديث المنفتح حول دينامية سردية استحداثية أخذت تستثمر من توالدات واستطرادات الأفعال المتشاكلة بنية متوازنة، أخذت تنسب الوجود الأمومي إلى حالة من متجاوبات الضمير الأمومي لا أكثر، فليس هناك في مواقف الرواية المتصاعدة حاليا ما يدل على القطع بأن المربية الفاضلة لويز مصدر شرا في رعاية الطفلين إطلاقا، بل أنهما وجدا الصدر الحنون واليد الدافئة من خلال هذه المربية الرائعة: (منذ إن ولدتهما وهي تخاف عليهما من كل شيء ،ولاسيما من الموت / في الليل حلمت بإختفاءهما المفاجىء وسط حشد غير مكترث من الناس وهي تصرخ: أين هما طفلاي؟ لكن الناس راحوا يضحكون منها ضانين أن بها مسا . / ص23 الرواية) منذ أول مقابلة ولقاء لمريم مع لويز، تعلقت بها بكل شغاف قلبها، وكأن الأمر في هذا العشق تحكمه أبعاد سيكولوجية ولطائف إلهية عصية عن التوصيف في أمر هذا الانشداد الوجداني الغريب، ذلك ما يتضح من مقتباسات وحدات النص عند أول وهلة من لقاء المربية: (ثم جاءت لويز. لما تحكي مريم عن هذه المقابلة، تقول أنها تعلقت بها منذ أول وهلة.. كان الأمر أشبع بما يقع للعشاق في قصص الغرام الذين يتعلقون بمعشوقهم من أول نظرة / تحكي مريم هذا المشهد وهي لا تزال مفتونة بالثقة في النفس التي تصرفت بها المربية. فأمضت وأخذت الرضيع بلطف من بين ذراعي أبيه متظاهرة بعدم رؤية ميلا ثم قالت: أين هي الأميرة؟ يخيل لي أنني رأيت أميرة أين أختفت؟ . /ص26 الرواية) وفي محاولة منا إلى تناول الشخصية الروائية وفق تقسيم (غريماس) العاملي، الذي يتكون بموجب ستة أطراف: (الذات ـ الموضوع ـ المرسل ـ المستقبل ـ المساعد ـ الخصم) يمكننا متابعة هذه العناصر في بنية حكاية الرواية على هذا النحو التقسيمي، ولكن في حدود مقتضبة قادمة من ضرورات مبحثنا تحديدا(الذات: السارد / الموضوع: تعلق الزوجان بخصال هذه المربية المثال: المرسل أحساس لويز بالسعادة مع هذه العائلة: المساعد ـ الذات الرواية بهوية مساند لإفعال الشخوص المحورية: الخصم ـ كل من يسعى إلى قهر سعادة لويز أو ممن يعترض تحقيق أحلامها في تربية هذان الطفلان إلى جانب خدمات ودية مضافة تقوم بها متطوعة لبول ومريم خارج حدود واجباتها كمربية) .

ـ تعليق القراءة:

في الواقع أن آفاق دراسة مبحثنا في سياق محددات حياة الزوجان بول ومريم وكيفية تحقق وجود المربية المثال في رعاية طفليهما بكل أواصر التربية الحميمية التي لم يكن ينتظرها الوالدان من مربية يوما ما، وهذا الأسلوب التحفيزي المموه في متطلبات السرد، بات يولد لدينا الشكل الاستقرائي المتمظهر كعلامة سليمة في مسألة النمو في دلالة الوظائف الشخوصية المؤثرة،وصولا نحو كفاية آمنة من قبل المجال الحسي المتكشف بضرورة تبني الشخصية لويز على كامل صلاحيات الأم مريم في شؤون البيت، وحتى شؤون الزوج بول بطريقة نسبية نوعا ما، والذي استهوته أخلاق وجاذبية هذه المربية الانموذج، وبالتالي فلم يعد هناك أي حالة تتعلق بمسار دواخل الزوجة مريم، لأن كل توقعاتها ومخاوفها قد بددتها ملائكية لويز المربية التي لا نظير لها قط .. وهكذا تنفتح المتواليات المشهدية واللقطاتية في حدود ما من السرد نحو منظور راح يسرد لنا جمالية وثقة الأبعاد الدلالية في مواقع فرضية متحولة ومتباينة من أفعال ذاتية محاور حوارية الأصوات السردية المستقلة إلى جانب درامية الحالات الشخوصية المتحاورة فعلا وتلفظا نحو فضاءات من الجسد الروائي الذي بات يتنفس جوانية القرائن السلوكية الملمحة في فعل متواليات الشخوص، كمعادلات مسكونة بالضوء واللمعان المضمر في مدلول لغة السرد والسارد في أحياز الفضاء الروائي ومشخصاته المكينة.

 

حيدر عبد الرضا

 

  

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم