صحيفة المثقف

حاتم حميد محسن: الحتمية البيئية وتأثيرها على تقدم المجتمعات

حاتم حميد محسنيُعتبر كتاب جاريد دايموند البنادق، المواد الجرثومية والستيل: مصير المجتمعات الانسانية (1) الذي صدر عام 1997 ظاهرة نادرة في النشر. انه دراسة طموحة وسهلة الفهم حول تطور الحضارة الانسانية. الكتاب فاز بجائزة بوليتزر، وبيع منه مليون نسخة وتُرجم الى 36 لغة، ثم جرى عرضه في ثلاث حلقات تلفزيونية في محطة تلفزيون الجغرافيا الوطنية.

ما أثار اعجاب العديد من المراقبين هو كلمات المعلّق الجغرافي الوطني على كتاب دايموند باعتباره "نظرية عالية الأصالة تؤكد على ان ما يفصل القارات هو غلاّتها وحيواناتها التي سمحت لبعض الثقافات ان تزدهر بينما اخرى تبقى الى الخلف". دايموند كان على اطّلاع جيد في ان الحتمية البيئية او الجغرافية كان لها تاريخ طويل ومروع من تبرير التفوق العنصري والاجتماعي والمشاريع الاستعمارية. لقد كان المؤلف  منذ ذلك الحين يجتهد في الدفاع عن موقفه المختلف جدا حول الموضوع.

باختصار، يؤكد انصار الحتمية البيئية ان الناس والثقافات هم على ما هم عليه لأنهم تشكّلوا بفعل بيئتهم المادية. لاحاجة للقول ان بعض البيئات والمناخات مهيئة اكثر من غيرها للنجاح. ارسطو اشتهر بقوله "ان اولئك الذين يعيشون في مناخ بارد و في شمال اوربا هم ذوي روح تامة، ولكن ينقصهم الذكاء والمهارة، ولذلك هم يحافظون على حريتهم ولكن بدون منظمات سياسية، وغير قادرين على حكم الآخرين". في الأجزاء الاكثر حرارة في الشرق المتوسط، "مواطنو اسيا الأصليون" اثبتوا "ذكائهم وابتكاريتهم، لكنهم تنقصهم الروح، ولذلك هم دائما في حالة من الخضوع والعبودية". من حسن الحظ، ان العرق الهيليني الذي يتوسط بينهما، هو بنفس الطريقة وسطي الشخصية، كونه عالي الروحية وايضا ذكي. وبالتالي يستمر في الحرية، ويبقى أفضل المحكومين في أي امة، واذا أمكن اعادة تشكيله في دولة واحدة، سيكون قادرا على حكم العالم".

3158 جيرد دايموندوهناك عوامل بيئية هامة اخرى تعطي المزيد من الأهمية لفوائد الظروف السيئة. لاحظ مونتسكيو في كتابه (روح القوانين) ان عقم وعدم خصوبة الارض تجعل الناس كادحين ورزينين ومعتادين على القسوة، وشجعان وملائمين للحرب: هم مُلزمون ان يشتروا بعملهم ما ترفض الارض منحه تلقائيا". بالمقابل، ان "خصوبة البلاد تمنح الراحة والتخنث وولع معين للحفاظ على الحياة". وبعد عدة عقود لاحقة جادل جون ستيوارت مل بخطوط مشابهة من التفكير بالقول "لا الآن ولا في السابق كانت الامم الحائزة على أفضل مناخ وتربة،اما أغنى او الأعظم قوة". جزء من المشكلة، يرى مل، هو "ان حياة الناس في تلك الدول يمكن مساعدتها بالقليل ، وان الفقراء نادرا ما يعانون من القلق، وفي مناخ فيه مجرد البقاء متعة، يصبح الرخاء الذي يطمحون له هو الراحة".

القول بان الانجازات التكنلوجية في مكان معين تتأثر بعمق بالجغرافية الطبيعية المحلية هي حقيقة لاتقبل الجدل. لكن لا يجب إلقاء اللوم على سكان سويسرا السابقين او مرتفعات التبت لكونهم لم يساهموا في تكنلوجيا الملاحة، ولا سكان الاسكيمو القدماء لفشلهم في تطوير الزراعة.

مع ذلك، يشير الدليل الى ان التأثير العميق للجغرافيا والمناخ على المؤسسات السياسية والانجازات الانسانية كان دائما غير مقنع. وكما لاحظ النقاد طويلا، ان الثقافة المهيمنة في مختلف الفترات التاريخية (مثل،منطقة البحر المتوسط او شمال اوربا) يُقال هي دائما المستفيدة من امتيازات الجغرافية الطبيعية. المشكلة الرئيسية، هي ان عامل ثابت استُخدم لتوضيح محصلات متغيرة جدا بمرور الزمن.

واحدة من أفضل المقالات القصيرة ضد الحتمية البيئية هي مقدمة فولتير حول "المناخ" في قاموسه الفلسفي. هو كان يستهدف المعاصر له جين تشاردين Jean chardin، الذي كان يرى ان المناخ في بلاد فارس حارا جدا لدرجة انه "يُضعف الذهن بالاضافة للجسد، ويُخفت النار التي يتطلبها الخيال للابتكار". "في مثل هكذا مناخ "،يكتب تشاردين، "الناس غير قادرين على الدراسة الطويلة والتطبيق المكثف الضروري لإنتاج أعمال رائعة في المجالات الميكانيكية والليبرالية". غير ان فولتيرعلّق على هذا  "تشاردين  لم يتذكر"ان ارخميدس ينتمي الى جزيرة سيسلي الايطالية وحيث الحرارة أعلى مما في ثلاثة ارباع بلاد فارس ". هو ايضا نسي ان "فيثاغوروس قام بتدريس الهندسة لأفراد الطبقة العليا البراهمنية". يذكر فولتير ان المناخ "له بعض التأثير، الحكومة لها تأثير اكثر بمائة مرة، والحكومة والدين مجتمعان لهما تأثير اكثر من ذلك".

في النهاية، ربما أغرب ما قيل ضد الحتمية البيئية هي ،في كلمات الاقتصادي في التنمية بيتر باور peter Bauer، "الطقس يميل ليكون سيئا في الاقتصادات المخططة مركزيا". نشطاء المناخ الذين يوجهوننا في هذا الاتجاه السياسي تحت اسم "ستراتيجية تقليل المخاطر البيئية" يجب ان يتأملوا هذه الكلمات.

 

 حاتم حميد محسن

.......................

الهوامش

 (1) يشير عنوان الكتاب الى الوسائل التي تمكنت بها المجتمعات القائمة على الزراعة من غزو الشعوب والاحتفاظ بالهيمنة عليهم رغم انها أقل امكانية من حيث عدد البنادق والصلب والمواد الجرثومية الضرورية للاستعمار. يحاول الكتاب توضيح لماذا الاوربيون الاسيويون وحضارات شمال افريقيا استمروا وسيطروا على الآخرين، وهو يجادل ضد فكرة ان سيادة الاورواسيويين كانت ناتجة عن أي شكل من التفوق الاورواسيوي الفكري او الأخلاقي المتأصل وراثيا. يرى دايموند ان الفجوة في القوة والتكنلوجيا بين المجتمعات تنشأ في الاساس من الاختلافات البيئية. عندما كانت الاختلافات الثقافية او الوراثية  لصالح الاورواسيويين (مثلا، اللغة المكتوبة او مقاومتهم للأمراض المزمنة)، هو يزعم ان هذه المزايا حدثت بسبب تأثير الجغرافيا على المجتمعات والثقافات (مثلا عبر تسهيل التجارة والتبادل التجاري بين مختلف الثقافات) ولم تكن متأصلة في الجينات الاورواسيوية.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم