شهادات ومذكرات

معلم الأمم .. في ذكرى الفيلسوف العظيم السيد محمد باقر الصدر

raheem alsaidiيطرح دائما التساؤل حول إشكالية ربما لم يبت بها، تتعلق بوصف الشهيد الصدر بالفيلسوف، فإذا أطلق البعض عليه لفظ المفكر فانه يحجم عن وصفه ربما بالفيلسوف، ومن المهم التنويه إلى ان المعيار الذي يمكننا إطلاقه على الفيلسوف يتمثل أولا بمعالجاته لمفهوم نظرية المعرفة في الفلسفة وثانيا بانشغاله بالمناهج التي تتصل أيضا بالفلسفة وثالثا بإمكانياته وإضافاته المتعلقة بالبحث المنطقي ورابعا بالبحث والتحليل والاستنتاج والإضافة في مختلف العلوم ومنها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية بالإضافة إلى العلوم الدينية والقرآنية والمستقبلية، فقد كتب الراحل العظيم (غاية الفكر في علم الأصول- فدك في التاريخ - فلسفتنا، اقتصادنا، البنك اللاربوي في الإسلام - المدرسة الإسلامية - المعالم الجديدة للأصول - الأسس المنطقية للاستقراء - بحوث في شرح - موجز أحكام الحج. الفتاوى الواضحة.دروس في علم الأصول - بحث حول الولاية - بحث حول المهدي- الإسلام يقود الحياة - المدرسة القرآنية - أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف) .

وهذه كلها منطلقات وأسس مهمة يوصف بها المفكر الشهيد محمد باقر الصدر، فما قدمه من جهد في كتابه الأسس المنطقية للاستقراء ومحاولة نقد وتحليل وتقديم نظرية معرفية إسلامية في فلسفتنا وأيضا الجهود الكبيرة في مجالات الاقتصاد والاجتماع وفلسفة التاريخ سيما في مفهوم السنن التاريخية والمجتمع الفرعوني وأيضا في مجالات الفقه والأصول .

كل هذه الجهود المكثفة الموسوعية، وسمت المفكر الصدر الأول بالفيلسوف، لما قدم من جهد استثنائي إلى البيئة التي عاشها في مجال الأفكار وترشيد المعرفة وقبل ذلك في قيمة وقوة هذه الأفكار التي تمثل لا وجهة نظر توصف بالمغامرة، بل الجهد الفكري لفيلسوف يؤمن بتحرير الإنسان من الأفكار التي تقيده وتقوم بتأخير نموه المعرفي والإنساني والاجتماعي، كما يربط هذا المفكر الفيلسوف الإنسان بالمشروع الأخروي المتمثل بالسماء أو العالم الآخر، تلك الإشكالية التي يبتعد عنها معظم الفلاسفة أو على الأقل لا يتم تناولها وفق نظرهم من زاوية جادة موضوعية .

من هنا فان لفظة الفيلسوف محمد باقر الصدر هي النتيجة الطبيعية لمجمل الجهود والمبادئ التي انفق الراحل الكبير عمره من اجلها ومن اجل الإنسانية وهو يمثل القلة من الفلاسفة الذين يدفعون حياتهم من اجل المبدأ، كما حدث مع سقراط اليوناني من قبل والفيلسوفة هيباتيا (أول فيلسوفة في التاريخ) و الفيلسوف الإيطالي غوردانو برونو الذي احرق حيا، وحوكم غاليلو وفي القرن السادس عشر قتل الفيلسوف توماس مور صاحب مفهوم المدينة الفاضلة «يوتوبيا» وذلك بأمر من الملك الإنجليزي هنري الثامن، حيث رفض مور الاعتراف بالأول رئيسا للكنيسة الكاثوليكية الرومانية في إنجلترا.

وحديثا قتل لينين الفيلسوف تروتسكي وقتل متطرفون الايطالي جنتيله وقتل طالب مجنون صاحب الوضعية المنطقية موريس شليك، وغالب الذين قتلوا يحملون فهما ومشروعا سياسيا أو معارضا ومنهم الفيلسوف محمد باقر الصدر الذي قتله نظام البعث البائد مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم .

لقد نضجت في سياق مسيره الشاق إلى العلم والفكر والإصلاح والتغيير والتحرير والشهادة جملة من الأفكار والتي ستتشعب أيضا إلى صور فكرية متنوعة تشكل النظام العام لفكر الصدر منها على سبيل المثال :

1.المستقبل بين التنظير والتخطيط والتطبيق والاستيعاب.

2.الفلسفة وتقنينها واستثمارها في الشارع الإسلامي .

3.التاريخ وفلسفته و السنن التاريخية وتطبيقاتها وانتزاع النظريات من القران الكريم .

4.المشروع الإسلامي .

5.الموسوعية الموجهة المكثفة وتقديم منظومة علوم فلسفية واقتصادية ودينية وفقهية مهمة للساحة الإسلامية .

6.التجديد في الفكر القرآني، الفكر الاجتماعي، الفقهي والقانوني، الفلسفي،الكلامي،فلسفة التاريخ،الأصول .

7.التماس مع الفكر السياسي لبناء النظام السياسي الأفضل .

ان تلك المفاهيم والأفكار والمصطلحات والفرضيات والنظريات المهمة، مثلت الجهد الكبير الذي قام به الشهيد الصدر والذي يعد أيضا البناء الفكري له والبنى الأساسية التي شكلت شخصيته الفلسفية والفكرية والفقهية الأصولية، وبشكل موجز يمكن وصف خصائص هذه الأفكار التي تمثل بنية المفكر الصدر العامة والتي شكلت نتاجا مهما للإنسانية وللإسلام بالقول:

1.ان ابتكار مصطلح أو مفهوم إنما صفة تأتي بعد مرحلة تراكم المعرفة،والمصطلح عند الصدر يمثل صورة ملخصة لمشروع أو فكرة معينة،أو توصف أهميته بأنه جزء من فرضية أو نظرية أو مشروع .

2.يتسم فكر السيد الصدر بالتنوع والموسوعية والامتداد فهو لا يكتفي بعلوم إنسانية أو فلسفية أو دينية أو اجتماعية واقتصادية وغير ذلك من العلوم بل يشملها كلها بطريقة موسوعية .

3.التشاركية أيضا صفة ملازمة لفكر الصدر ومفهومة ومصطلحه فالتبادل والتداخل بين مصطلحات العلوم كافة .

4.على يد المفكر الصدر كان التحول من الثقافة الفقهية إلى الثقافة الفلسفية والتطبيقية في مجال المفاهيم وغيرها.

5.المشروع الصدري كان عراقيا من زوايا الفكر وإسلاميا من زاوية الفلسفة والاقتصاد الفلسفة والفقه والأصول وعالميا من زاوية التجديد والنقد وابتكار المصطلح وطرح المشاريع الفكرية .

6.المفهوم لديه يوصف بالمفهوم الشمولي لا الذاتي فحتى عندما نتحدث عن مفهوم للفلاسفة بشكل مفردة ابستيمية تعد بمثابة جزء من منظومة معرفية إلا انها في نهاية المطاف تعبر عن خيال ومعرفة خاصة وذاتية محضة كما في آراء ومفاهيم فوكو ونيتشة وشوبنهاور وغيرهم الكثير، إلا انها وفق تصور السيد الصدر تمثل عملية نزف فكري لرفع مستوى الأمة الإسلامية وموت في سبيل إخراج الناس من الظلمات إلى النور .

7. عبقريته في قدرته الخلاقة على توليد الأفكار الجديدة واطلاعه المعارف الغريبة وفي انجازه الفكري المبكر .

8. في كتاب فلسفتنا مثلا تسير مفاهيمه من القضايا العامة إلى الخاصة ومن الكليات إلى الجزئيات اما في الأسس المنطقية للاستقراء فيبني مفاهيمه أو يكون السير الفكري في الدليل الاستقرائي معاكسا للسير في الدليل الاستنباطي أي انه يسير من الخاص إلى العام .

9.من خصائص مفهوم إسلامية المعرفة عنده هو مشروعه الذي لم ينطلق من دراسة بل من ذات عقدية ومعرفة صالحة لقيادة البشرية، فهو لا يعتقد بالاستقلال الصوري ولا سبيل إلا بإيصال الأمة إلى الاستقلال والذاتية، ولم يكن يفكر برد فعل مرحلي مقابل ثقافة الآخر بل أسس لاستجابة واعية تأسيسية تتكامل عبر مشروع معرفي انطلاقا من الإسلامية فهو وان لم يستخدم مصطلح إسلامية المعرفة أو أسلمتها الا انه مارس هذين النشاطين المعرفيين من خلال حلقات مشروعه المعرفي وهو ما يتبن بالضمير (نا) في فلسفتنا واقتصادنا (1).

10. ابتكر على مستوى التجديد الفكري في علم الأصول مفاهيم حجية القطع وانتهى بان حجية القطع ليست ذاتية للقطع كما هو معروف عند الأصوليين واعتبرها تدور مدار مولوية المولى . وأنكر صحة ما يعرف بالبراءة العقلية، ومن ابتكاراته بحث حجية السيرة وحجية الإجماع وبحثه في ما يعرف بموافقة الكتاب ومخالفته في باب التعارض وبحثه في تفسير نشوء اللغة في نظرية القرن الأكيد وأيضا إسهامه في مباحث الألفاظ عند الأصوليين (2)

 

............

1 - حسن العمري، اسلامية المعرفة عند السيد محمد باقر الصدر،ط1، دار الهادي،1424هـ-2003م، ص79-82.

 2 - محمد الحسيني،محمد باقر الصدر، حياة حافلة وفكر خلاق، دار المحجة البضاء، 2005م،ص366

 

في المثقف اليوم