شهادات ومذكرات

الشيخ علي الشرقي شاعر المعاناة والحب والنهوض (2)

jafar almuhajirيمتاز شعر علي الشرقي بسلاسة العبارة وإشراقتها، وغزارة المعنى، وقوة ألموسيقى والخيال الخصب المتدفق وكأنه ينهل من نبع عذب يمازجه إلمام واسع بأسرار اللغة العربية وبلاغتها وفنونها. وعندما يعالج موضوعاته شعريا لايلمسها من الخارج بل يغوص في أعماقها ليقدم تجربة ناضجة برؤية متجددة تدل على الأصالة والوعي والفهم العميق للوجود. وعندما يتطرق في شعره إلى التراث لايقف عنده موقف الناقل أو الناسخ دون أن يرفده بتجربته الشعورية والفكرية المتوقدة والمعاصرة لكي يقدمه للقارئ ومتذوق الشعر حيا نابضا عميق الدلالات .

ففي قصيدته الجميلة المتوهجة (تحية بابل) يتناول حضارة العراق العريقة بنفس له تأثير عميق الأغوار في نفس المتلقي كونه إنسانأ عراقيأ أصيلا وشاعرا مرهف الأحاسيس وباحثا متفاعلا مع تراث أمته الذي أغنى الوجود إلى حد الانصهار. ويعبرعن حزنه وشجنه لما آلت إليه تلك الحضارة العريقة التي بنتها أيد خلدها التأريخ وتعرف عليها العالم بأسره. وتعرضت إلى غزوات الطامعين البربرية التي سرقت معظم كنوزالعراق ونقلتها إلى خارج الوطن تحت مرأى ومسمع الحكام الذين شهدوا حضارة وطنهم تسرق دون أن يحركوا ساكنا أو يهتز لهم جفن وكأن الأمر لايعنيهم لأنهم غوقوا في ملذاتهم وأهوائهم. وتركوا الوطن يلاقي الويلات تلو الويلات. ولكن رغم كل المحن فإن حضارة العراق ستبقى متوهجة الرؤى، ناصعة الجبين، شاخصة لكل ذي بصيرة مهما تكالب عليها الأعداء وحاولوا طمسها. وستظل هذه الحضارة كالوسام الذي يزين هام الوطن، ولم تتمكن أية قوة في الأرض أن تزور التأريخ مهما بلغ عتوها وجبروتها وعداءها للشعوب. ويختار الأسد البابلي المتوثب ليعتبره رمزا لتلك الحضارة الخالدة وهو رمز له مدلولاته حيث يقول في قصيدته:

(أسد بابل):

قد شجاني أسد في بابل

رابض ليس له عشق وهامُ

حارس الكنز عتابا ضمنه

لوعة قد سرق الكنز الطغامُ

ضاع لما ضيعت آثارنا

مجدنا الغالى وأجداد عظامُ

ذمة لو خُفرت ماانتُهِكًتْ

فليقرعنا كما شاءً الذُمامُ .

إنها مرارة الشاعر وإحباطاته ،وخيبة أمله من حكامه الذين لم يكونوا بمستوى المسؤولية والأمانة والشرف للدفاع عن الوطن وآثاره الحضارية العريقة. وفي هذه القصيدة يخاطب الشاعر بابل العظيمة وتأريخها الشاخص في العيون والقلوب وكأن لسان حاله يقول : يابابل العظيمة الخالدة بقدر ماترك ذكراك في نفوسنا الخشوع والإكبار كذلك ترك في قلوبنا وأرواحنا اللوعة والألم لما آل أليه واقعنا الذي حوله الحكام إلى ظلام حيث يسترسل في تدفقه الشعري عن قصيدته (أسد بابل):

بابلٌ ما أنا إلا حالمٌ

بك يصبيه انطباعٌ وارتسامُ

هامت الذكرى بقلبٍ مولعٍ

بك والذكرى آلتياعٌ وهيامُ

طابت الكأس فمن يشربها؟

وحلا الشدو فهل فيك حمامُ؟

ريفك المأنوسُ في أحلامه

موحشٌ كل نواحيه ظلام !

رقد السمارُ عنه وهفا

سامر يحزنه الريفُ المضامُ

والرياحينُ التي أنبتها

سفحكُ الزاهي تولت والبشامُ !

ترى هل كان الشاعر يتنبأ بما سيخفيه المستقبل لبابل حتى نزف هذا الشعر من قلبه ووجدانه وكأنه قطرات من دمه سطرها على الورق؟

ويستمرعلي الشرقي في هذه التراجيديا التي تعج بالأوجاع ويصف الربى بأنها حبلى بالقهر والضيم المتراكمان عبر السنين ولابد أن يؤديا إلى إنفجار ينطلق من هذه الربى ليقضي على الحكام الذين سرقوا ونهبوا وظلموا وعاثوا فسادا في أرض الحضارات التي لم يكونوا أمناء عليها وهي التي قدمت للعالم أوهج حضارة عرفها التأريخ،والأجيال القادمة التي ستنجبها الأمهات في أرض الحضارات هي نواة الثورة وشرارتها القادمة التي ستمحق الطغاة وحصونهم. والفراتيون وأبنائهم الذين لاتتوقف أرض العراق عن إنجابهم هم الدروع التي تحمي الشعب والسهام التي ستصد كيد الأعداء حيث يقول في نفس القصيده :

الربى حبلى وأطفالُ الربى

تتبارى فرضاعٌ وفطامُ

بابلٌ أي بناءٍ شامخٍ

لم يزعزعه خراب وانهدامُ

والفراتيون إذا حفزتهم

للملمات دروعٌ وسهامُ !

وليتك تدري أيها الشاعر الشرقي وانت راقد في قبرك مافعل الغزاة الأمريكان بآثار العراق ومتاحفه وكيف تركوها متعمدين نهبا لعصابات ومافيات شريرة حاقدة على العراق وحضارته وأخرى غوغائية جاهلة لاهثة وراء المال؟

وقد كشفت الجهات العالمية المختصة أنَّ عدد القطع الأثرية المسروقة من المتحف الوطني العراقي بعد العام 2003 وصل إلى 200 ألف قطعة أثرية.وهذا يدل على هول المأساة التي سببها الإحتلال الأمريكي للعراق . وأكمل الغزو الداعشي البربري الذي إحتل ثلث مساحة العراق في أيام فصول المأساة والذي مهد له الفساد الذي نخر حكومات المحاصصات المتنافرة، والتآمر الخارجي بعد أن أجهز على 360 موقعا حضاريا ، وسرقة ماخف منها وبيعها للسماسرة وتحويل أموالها إلى قنابل ورصاص ومتفجرات لقتل العراقيين. ولو كنت حيا أيها الشرقي وشهدت تلك المأساة لبكيت دما ولكتبت بدمائك ووجدانك الوطني المتوقد قصائد تجسد هذه هذه الكارثة الوطنية العظمى.

ولاشك إن أسد بابل الذي خاطبته قبل عشرات السنين هو اليوم أشد حزنا من تلك الأيام على حضارة العراق المنهوبة والمدمرة.

وشاعرنا الشرقي من المتحمسين والداعين للوحدة العربية لأنها في نظره تمثل الإنقاذ والخلاص من ربقة الأجنبي ومن كل المحن التي لحقت بالأمة العربية جراء تمزقها وتشتتها فنراه يشحذ الهمم، ويذكر العرب بحكامهم الذين استغلوا هذه الأوضاع المزرية أبشع استغلال وكرسوا العزلة بين شعوب المنطقة، وباعدوا بين أبناء الشعب الواحد، وأقاموا السدود والحواجز وأوغلوا في خيانتهم وجرائمهم بحق شعوبهم واهتموا فقط بقصورهم الفارهة ولم يشعروا بما يعانيه الفقراء من فقر وفاقة وحرمان من أبسط متطلبات الحياة بعد أن سرقوا كل شيئ منهم. ويخاطبهم أين ستذهبون أيها الحكام ياأصحاب القصورالشاهقة والسيارات اللامعة والمتنكرون لشعوبكم إذا توقدت جمرة الغضب في عيون الجياع؟ حيث يقول في أحدى قصائده :

 ما أحوج الأخوة من أم وأبْ

أن يبعدوا الشك وينفضوا الريبْ

هذا أوان الطلع يانخيلنا

إلام نبقى سعفاتٍ وكربْ؟

يامطلعً الفجر وياأم  القرى

إن القرى مابين سلب ونهبْ

أرى قصورا من جديد نهضت حولي

وقومي في بيوت من قصبْ !

كم خطفت أبصارُنا سيارةً

في أرض شعب زاحف على الرُكبْ !

من يسأل القرية عن آمالها؟

فكم جروح في القرى وكم ندبْ؟

في غمرة الفقر ويجري حولها

وادي الفرات العذب أو وادي الذهبْ

مايصنع الفلاحُ في عروشكم

أن تغصب السلة منه والعنبْ !!!

لقد أصبح وادي الذهب ياشاعرنا الراحل حكرا على اللصوص الكبار فنهبوا منه ماشاء لهم أن ينهبوا أما فقراء شعبك فإنهم اليوم يعدون بالملايين مابين مهاجر في وطنه وعن وطنه، وباحث في أكوام القمامة ليسد به رمقه وأحزاب السلطة غارقة في محاصصاتها وصراعاتها وكل حزب بما لديهم فرحون.

يستمر الشاعر في قصيدته منبها ومحفزا شعوبها وفي يقينه أن الأمة لابد أن تنهض من كبوتها عن بكرة أبيها لتصنع تأريخا جديدا على أنقاض هذا الواقع البائس الذي يكاد يوصل الأمة ألى حافة الهاوية حيث يقول:

هل تدري صنعاء ونجد أننا

نحتاج تأريخا جديدا للعرب !

قد طوي الفسطاط من مصر وقد

نامت بنو حمدان عنك ياحلب !

وكما نامت نواطير مصر عن ثعالبها حينما أطلقها المتنبي صرخة ضد كافور الإخشيدي حاكم مصر آنذاك.

وفي نهاية هذه القصيده يخاطب أمته العربية مرة أخرى ويرمز إليها بـ الشعلة القدسية) التي جُللت صحراؤها الشاسعة بالنار والضياء. هذه النار التي ستحرق أعداء الأمة والضياء الذي يحمل في توهجه عوامل النهضة والتجدد والنهوض :

ياشعلة قدسيةً قد سطعتْ

تجلل الوادي ضياءً ولهبْ !

وللشاعر الكبير قصيدة أخرى نظمها عام 1912م أثناء هجوم الايطاليين على طرابلس الغرب مما يدل على أن الهم القومي قد أخذ مساحة شاسعة من شعره وإنه كان يعتبر الوطن العربي الكبير وطنه رغم كل الحواجز التي بين أقطاره فلا فرق بين بغداد وطرابلس ودمشق والخرطوم وغيرها من المدن العربية التي وضع المستعمر وعملاؤه الحواجز المصطنعة بينها وإن شعور كل مواطن يعيش في هذا الوطن الممزق نحو أخيه هو شعور الأخوة والمحبة والمصير المشترك :

قومٌ من العرب لم تبردْ حميتًهُمْ

حر الظبا وعلى جمر الثرى بردوا

أن فورت سورة العليا دمائهمُ

لنهضة فبغير السيف ماقصدوا

تروم أبناء روما أن تناضلهم

هيهات لايستوي الطليانُ والأسُدُ

دون النزال ترى أرواحها صعدت

خوفا وفي ودها لايصعد الجسدُ

في البر والبحر أشباحٌ مرفرفةٌ

لها المحيط رقيبٌ والفضا رًصًدُ

زرعٌ لرومةً أهدتهُ طرابلسا

فأهزم المحل أبناها بما حصدوا

ويستمر الشاعر إلى نهاية القصيدة التي يتنبأ فيها بانتصار قوى المقاومة ضد الغازي الايطالي الذي استهان بحقوق الشعوب وآمالها بالتحرر والإنعتاق. ولابد أن تكون الهزيمة مصير كل معتد وغاز وطامع في هذه الأرض المقدسة مادامت تنجب ثوارا كبارا أمثال عمر المختار وصحبه الذين لم يناموا على َضيم ولم يرضخوا لعدو طامع في أرضهم خلافا لكل لوائح حقوق الإنسان التي أقرتها قوانين الأرض والسماء .

 

جعفر المهاجر.

7/7/2017

 

في المثقف اليوم