شهادات ومذكرات

مدنيون بلباس سلفي وسلفيون بلباس علماني

ali almirhigعرفت الكثير من المدنيين ممن يتبنون العلمانية منهجاً في التفكير وأسلوباً في الحياة، وعرفت الكثير من السلفيين بلباس مدني، ولكني صُدمت حينما عرفت أن فاهمتهم الفكروية "الأيديولوجية" لا تستطيع التخلص من ثقل الموروث الاجتماعي والخضوع له، فجُل من عرفتهم من دُعاة المدنية ودُعاة التجديد والإصلاح من السلفيين كان يُحاول أن يُظهرأنه ليس طائفياً، وأن الطائفية مرض فرضته الحكومات "ما بعد الكولينالية"، ولكنك بمجرد الحوار معه تجده مهموماً بتحقيق مراميه الشخصية في تبنيه للطائفية سلوكاُ وإنكارها قولا.

وسأروي لكم حكاية عن رئيس قسم في كليتننا كان أيام نظام صدام لا يقبل تعيين أحد من جنوب العراق تحسباً منه للخلاص من مُحاسبة النظام الذي كان يفهم طبيعة توجهاته، وبعد سقوط النظام، وحينما تبجح الإحتلال الأمريكي بأنه سلطة إحتلال، ونحن كنا أساتذة في الجامعات، بدأ الإحتلال بتوزيع الرواتب إبان سلطة "بريمر"، وكنا فرحين بتوزيع أول راتب لنا بعد سقوط النظام، وكان الراتب حينذاك حسبما أتذكر ورقة بمئة دولار، وكان في حينها راتب مُجزيُ، وبينما نحن نحن نلتزم التسلسل في وقت المجيء ليستلم من هو قدم قبلنا، فإذا بي أجد هذا الصديق رئيس القسم الذي توفي قبل أشهر عدة، وقد كان ذو أصول كُردية، ولكنه كان يسكن مدينة حديثة في محافظة الأنبار، فكان يُلقب بالحديثي، نسبة لمدينة "حديثة" التي سكنها وترعرع فيها، وقد كان ـ والحق يُقال ـ طيب المعشر، ولكنه كان يُحابي أبناء سُكناه وطائفته، فقد كان يُكنى بالحديثي، وقد قال لي أنه بياتي من أصول كُردية، وبينما نحن نتبادل الحديث، بين مؤيد لدخول الإحتلال وإسقاط صدام وبين مُعارض، ولا أُخفيكم سراً أنني كُنت من المؤيدين لدخول الأمركان لإسقاط صدام، وكنت أقبل بإستبداله بحاكم بمستوى حمار.

كان صديقي بعثياً ولم يرق له إسقاط النظام الذي جعل منه رئيس قسم، يقبل في تعيين من يرغب ويرفض من لا يرغب به، وكان أغلب من رفضهم هم من أبناء الجنوب، أو من مناطق الفرات الأوسط من الحلة والنجف والديوانية والسماوة، وبمُزاح معه، وهو معروف بالنكتة، لأنه جمع محاسن أبناء الشمال ومحاسن أبناء الغربية ومحاسن أبناء الجنوب الذين عاشرهم في مُعسكرات الجنود وأيام الحرب، ولكنه حين سقوط النظام رغب في أن يُظهر نفسه بأنه لم يكن طائفياً، وفي حديث بيني وبينه أثناء توزيع الراتب الذي وُزع لنا أيام الإحتلال، أكد أنه لم يكن طائفياً، فإنبريت له سائلا، كيف يُمكن وصفك بأنك لم تكن طائفياً؟، فقال لي أن الكثير من الشيعة هم أصدقائي، فنسهر سوية ويسأل بعضنا عن البعض الآخر ونتزاور فيما بيننا في المُناسبات، فقلت له هذا ليس كاف في إثبات كونك طائفيٌ أم لا، فقلت قُل لي كم شيعياً قبلت تعيينه حينما كُنت رئيساً للقسم؟ وكم سُنياً قبلت؟، فأصابه الذهول، ولم يتوقع مثل هكذا سؤال سيوجه له، فأجاب: أنني عينت ثمان وبالصدفة كلهم من السُنة وكان هناك تاسع هو شيعي من ديالى، فقلت له مازحاً، أن صداماً كان يقول "ثلثين الطك لأهل ديالى"، فشيعة ديالى لا حول لهم ولا قوة، ولا يُمكن أ يُعدوا أيام حُكم صدام على الشيعة لأنهم مغلوبين على أمرهم، فقل لي: كم قبلت للتعيين من أبناء جنوب الجنوب أو من أبناء الفرات الأوسط؟، فبهت ولم يجد جواباً.

والحال هو الحال نفسه، فحينما إستلم الشيعة الحكم، لم نجد للكورد ولا للسُنة إلا تمثيل شكلي في الحكومة، فكما هُمش الشيعة في أيام الحكم "القومجي" هُمش الكورد والسُنة.

لربما يكون السُنة هم الأكثر تهميشاً في المشهد السياسي العراقي بعد عام 2003، لأنهم لم يستوعبوا التحول الحاصل في منظومة التفكير الإقليمية والعالمية، وتصور الكثير منهم أن ما يجري خُدعة ستستمر لأيام وسيعودون هم على رأس الدولة، فضاعوا وضيعوا مستقبل مناطقهم في حُلم أن السُنة هم الذين قُدر لهم أن يحكموا والشيعة قدرهم أنهم محكومون، فلم يكن أمام الشيعة إلَا الإصرار في التمسك في الحكم بعد أن فرطوا لهم وإفراط مروا به أعوام طول، فلم يكن لثورة العشرين "الشيعية" ضد الإنكليز "المُحتلين" حضوتها وأثرها في تقبل حُكام السُنة عروبة الشيعةـ مثل طالب النقيب وعبدالرحمن الكيلاني "النقيب" ولا لعبد المحسن السعدون الذي عاش في الناصرية في وسط شيعي، إلَا أنه وكل آل السعدون فيما بعد بقيوا مؤثرين لولائهم للطائفة على حساب الولاء لجغرافية الولادة والعيش في الوسط الاجتماعي.

في المُقابل، وبعد حين ليس بالقليل، قبل سقوط "صدام" وبعد السقوط وجدت أصدقاء لي من الشيعة من ذوي التطلعات المدنية ومن أصحاب النزوع العلماني وممن يدعون إنتماءً للعلمانية وأنا واحد منهم ممن ينزعون لتسمية أبنائهم بـ "الحُسين"، فكان أخي سعيداً هو من سمى إبنه "الحُسين" أيام صدام، والحُسين اليوم قد تخرج من الكُلية، وأنا أُستاذ الفلسفة، قد سميت أبني أمير، وكانت لدي الرغب بتسميته الأمير، لكني خشيت ضياع أسمه ليكون كُنيةً لي، وقد أسميناهما أيام صدام وحكم نظام البعث لأننا كنا ومازلنا نعتقد أن علياً والحُسين لا يُمثلا طائفة ولا مذهباً ولا ديناً، لأنهما الناطقين بـ "صوت العدالة" بعبارة جورج جرداق، ولكن مع ذلك فتسميات الأبناء ـ بإعتقادي ـ لا تخلو من حمولة ثقافية واجتماعية.

هناك آخرون أعرفهم أساتذة فلسفة من أصول شيعية ممن يميلون للمدنية ولأطروحات أيديولوجيا العلمانية، إلًا أنهم مالوا حيث يميل الهوى الطائفي للمجتمع الذي هم فيه، فتجد كثيرٌ منهم ممن سمى إبنته زهراء وآخر فاطمة وآخر سجاد وآخر مؤمل وآخر جعفر وآخر زينب وآخر مُجتبى.

فيما نجد في الجهة المقابلة من العلمانيين السُنة ممن سمى أبنه أو إبنته عبدالرحمن وعبدالقادر وبكر وعمر وعثمان وعوف وعائشة ومروان وسُفيان.

وكل فريق علماني "وأؤكد أنه ليس سلفياً" فرح بأنه إنما سمى هذه الأسماء لا دفاعاً عن أيديولوجيا مُغيبة، وإنما لإنصاف من لم ينصفه  التراث الآخر.

وفي هذه الحال يبدو المشكل ليس فقط في السلفيين وفهمهم، إنما هو في من يدعون تنويراً وينزعون في تنويرهم نحو التراث، لربما يقول قائل، وهل لك مشكل مع التراث؟، فأُجيب أن المشكل عندي ليس مع التراث ولا مع دُعاته، لأن هؤلاء يُظهرون ما يدعون، ويتمسكون في دعواهم، ولكن المشكل عندي مع أنصاف المتدينين وأنصاف العلمانيين من الذين يُظهرون غير ما يُضمرون، فتجدهم دُعاة حُرية وأنا من ضمنهم، ولكننا نميل حيثما يميل السلفيون "الراديكاليون" في نزوعهم الاجتماعي، وننتقدهم نحن دُعاة الوسطية على متبنياتهم الراديكالية "المٌتطرفة".

لذلك أجد أن المدنيين منا ودُعاة السلفية التجديدية، أومن يدعون نزوعاُ نحو العلمانية، ومن يدعون نزوعاً نحو الحداثة وهم في قرارة أنفسهم "سلفيون،  أكثر "شيزوفرينية" من السلفيين الراديكاليين، لأن هؤلاء مُنسجمين فكراً وسلوكاً مع مُتبنياتهم.

ونحن ممن يدعون نزوعاً نحو المدنية والعلمانية وأنا أولهم لا نتحمل سفر إبنة لنا ولا زوج من دون محرم، ولا يختلف عنا التجديديون الذين يحاولون مسك العصا من المُنتصف أو من الوسط، وأجد نفسي مُحتاراً في تفسير "جعلناكم أمة وسطاً" (البقرة/143). وإن كان أرسطو من دعاة "الوسط الذهبي" في نظريته في الفضيلة وبرؤيته للعدالة أنها وسط بين التهور والجبن". لكنني أجد أن الحسم فيه إعلان عن شخصية المُتبني، فلا لعب عند من حسم أمره في الألفاظ ولا في في المعاني لا تـفسيراً ولا تأويلاً، فلا يوجد في قاموسه لعب وتلفيق بين جمع لعلم ولفلسفة مع دين ولا جمع لسياسة مدنية مع أخلاق دينية، والعكس صحيح.

وإن كان الرمادي عندي من أُساسيات الجمع بين الأبيض والأسود، لكنني أجد أن في زمن الصرع ينبغي الحسم، لا وسط ذهبي في فضيلة أرسطية تُرتجى، إنما الفضيلة في حسم الصراع رفضاً أو قبولاً لدين أو لعلم، فلا وجود لعلم يُرتجى في عقل إتباعي فيه  نزوع نحو التقليد.  

 

 

في المثقف اليوم