شهادات ومذكرات

حكاية حياة "شارع المُتنبي"

ali almirhig

لم تكن ليَ علاقة بالكتاب إلَا بمقدار التكليف والرغبة بالإطلاع على بعض الروايات التي تُداعب غائز الشباب مثل روايات: "مورافيا"، "أنا وهو" و "إمرأتان"، وبعض من روايات كولن ولسن، مثل "أصول الدافع الجنسي" و "اللامنتمي" و "مابعد اللامُنتمي"، لربما لأنهما كانا يُدعبا بعض طاقة "الإحساس بالجمال" وفائض الغريزة في المُتخيل الذهني لإنعطافاته وتعرجاته في الشطط عما هو من طبيعة الحال، والبحث فيه عن المُحال وعن خلخلة ترسانة الجسد المكتنزة بتوهمات طيش الشباب.

لأخي الأكبر "سعيد" الفضل في تواصلي مع الكتاب ومحاولة تقليده في إدعاء الإنسجام مع الأدب والشعر والفلسفة وحب الثقافة، كونه لم ينل سوى المدح والثناء عند المُقربين وأغلب أساتذته ومُدرسيه أيام المتوسطة والإعدادية من صنعته هذه، ولأنه يُتقن كتابة القصة والشعر، وفاز بعدة جوائز في هذين المجالين في الناصرية وبغداد، فكنت مُعجباً به، يُخالط هذا الإعجاب كثير من الغبطة والأمل في أن أحصد بعض مما حصد.

كنت أفترش بضع أمتار من شارع المتنبي بالكتب، وبعدها إلتحق بيَ أخي "صلال" ليفترش معي بعض مآسي السياب و "الريل وحمد" للنواب، وبعض أشعار عريان الثورية "يهلبت مات جيفاره...يهلبت هوشمنه إنكطعت أخباره".

تردد عليَ الكثير من رواد هذا الشارع من الروائيين والشعراء والنُقَاد، الذي أدعي أنني وأخوتي من آل مرهج من الذين ساهموا في وجوده نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن المُنصرم، لأن بيع الكتب كان يقتصر قبل ذلك على سوق السراي الذي تحول اليوم إلى سوق لبيع القرطاسية.

كان للمحقق أستاذ صباح وصباح الوائلي وصباح المسيحي، صباحاتهم وإشراقهم في رسم الملامح الأولى لشارع المتنبي، ومن اللطائف أن أستاذ صباح "أبو سوران" المُحقق هو سُني من أصول كردية، وصباح الوائلي هو جنوبي من أصول شيعية، وصباح المسيحي بائنة هويته الدينية، أصوله تعود لمدينة الموصل، وكان هناك "جمال" أبو عبدالله، سلفي حد النُخاع، يرتدي "دشداشة قصيرة" له لحية طويلة وكثة، والحق يُقال، لم يكن يُظهر بُغضه لمن هو مُخالف له في الأيديولوجيا أو المُعتقد أوالمذهب".

لم يكن عدنان ببعيد عن صباح المسيحي، هو بالجهة المقابلة للقيصرية. إهتم عدنان ببيع كتب العراق الحديث، وجمع الأعداد الكاملة لمجلتي سومر والمورد العراقيتين الشهيرتين، فالأولى كانت تهتم بتراث وآثار العراق القديم "بلاد ما بين النهرين"، وهي مجلة مُحكمة ولها صدى عربي ودولي كبير عند كل المهتمين بتاريخ العراق القديم. أما الثانية، فقد كانت ولا زالت تهتم بتراث الأدب العربي والإسلامي والعراقي، شعراً كان أن نثراً، وهي أيضاً تحظى بقدر كبير من الإهتمام في الدراسات الأكاديمية والقافية العراقية والعربية والدولية. ولم يفت عدنان الإهتمام بمجلة "التراث الشعبي" العراقية، التي حرص محرروها على إستكتاب كل ذي شأن للحفاظ على الفلكلور العراقي، لكن عدنان قد وافته المنية في إنفجار المتنبي الشهير، فذهب هو ومجموعة من الأحبة فيه، ولكن ياسر قد أعد ومحمد ولداه وأخوه محمد قد خرقوا جدار الحزن والإرهاب، ليخلدوا ذكرى عدنان بتطويرهم لمكتبة تحمل إسمه، هي اليوم أيقونة من أيقونات الثقافة العراقية في شارع المتنبي.

على يمين كانت "بسطية" صباح أبو سوران، الذي يمتلك دراية كبيرة في التراث العربي الإسلامي، وحقق "رسالة أيها الولد" للغزالي، وقد تحاورنا كثيراً أيام كنت أكتب أطروحتي للدكتوراه بعنوان "النص الرشدي في القراءة الفلسفية العربية المعاصرة"، لمعرفته الكبيرة بفلاسفة المشرق، لا سيما الغزالي، الذي كتب "تهافت الفلاسفة" وردَ عليه إبن رشد في كتابه "تهافت التهافت"، وكنت أجد في عينيه كثير من الرضى عن قراءتي لإبن رشد، كونه يجد شاب مليء بالحيوية وحب قراءة الفكر الفلسفي، وكنت أجد هذا الحب في عينيه لصديقي "كريم الجاف" الذي عمل ببيع كتب الفلسفة، وهو قريب من أستاذ صباح إل يومنا هذا، وكريم اليوم هو أستاذ الفلسفة المعاصرة في الجامعة المستنصرية.

كانت أُلفة صباح المسيحي ذو الأصول الشمالية القادم من الموصل مع منصور ناصر، ذو الأصول الجنوبية القادم من الشطرة، ألفة غريبة، فيها صراع، وفيها حب، لأنهما كانا مُتجاوران، يبدأ صباح بترتيب كتب "بسطيته" في الساعة السدسة صباحاً، وبعده بأقل من ساعة يأتي منصور، ليبدأ بترتيب كتب "بسطيته، هو أيضاً، لكن منصور، لا ينتهخي من ترتيبها إلَا بعد ساعات متأخرة، حتى كنت أقول له (منصور يمكن أنت آخر كتاب ترتبه، هو في الوقت ذاته، أول كتاب تبدأ به بـ "التعزيلة")، ولكن منصور كان كثيراً ما يُشارك صباح المسيحي بغداءه، الذي هو غالباً يكون "برغل ومركة"، فأهل الموصل يستخدمون البرغل بديلاً عن الرز "التمن"، ولل أتذكر أنني شاهدت منصور جالباً للغداء ودعى صباح المصلاوي.

إمتلك منصور مكتبة في بداية شارع الجمهورية من جهة باب المعظم، وكان بالقرب منه مكتبة "النجيفي" وهو أيضاً من الموصل"، ويبدو ليَ أن قدر منصور إبن "الجنوب" وحظه لا يكتمل إلَا بجوار أحد أبناء "الشمال"، وهما كانا يشتركان في بيع الكتب الطبية والهندسية، وبعض كتب العلوم الأخرى مُستنسخة، بسبب الحصار، ولا تخلو مكتبتهما من بعض الكتب الأدبية والثقافية.  

كانت "مكتبة المثنى" العريقة، في وسط شارع المتنبي، وأبو حُسام هو من يُديرها، ولكن بعد الحريق الذي شب فيها كا أذكر في بداية التسعينيات، غادرها أبو حسام، فصار يفترش الشراع بالكتب مثلنا، قُرب القيصرية، التي لم تكن باحتها واسعة كما هي اليوم، فقد كانت عبارة عن حديقة، وقد وضع فيها "قاسم نافورة" أمين العاصمة آنذاك نافورة، وألغى بسطية "وحيد" و "ثائر" و "محمد فخري" و "كريم حنش" الذي كان شريكاً في ذلك الوقت لصديقه الأقدم "علي خنجر"، وبعده شارك كريم حنش أخي "سعيد"، وبعد مُدة شارك خالد، ذلك الكائن الجميل الذي يستقبك بإبتسمات وترحيب وتهليل، وكرم لا يُردُ.

حاول "قاسم نافورة" إلغاء هذه بسطيات الكتب في شارع المتنبي، ولأن جل أصحاب هذه البسطيات هم من المثقفين، وممن لهم صلات جيدة مع بعض المُثقفين الذين كان لهم تأثير، فقد تحدث كل منهم مع من يعرفه من الصحفيين اللامعين والمؤثرين في ذلك الوقت، وقد كان منهم كما أذكر، أحمد عبدالمجيد، الذي يُدير صحيفة الزمان اليوم، الطبعة العراقية. وقد تبنى مسألة إعادة الشارع لوضعه الطبيعي، وفعلاً بعد أقل من يومين تم التغاضي عن البسطيات وفسح المجال لباعة الكتب للعودة لعملهم المعتاد.

وبعد مدة ليست بالطويلة تم إلغاء النافورة ورصف باحة قيصرية المصرف بالمقرنص، وحينذاك طلبنا من جبار الشرطي الذي كان يقطن في الطابق الثاني، وأظن أنه كان حارساً للمصرف الموجود داخل القيصرية، بفتح بسطة شاي وجلب عدد من الكراسي، كي نتخلص من الذهاب لمقهى "الشاهبندر" المُكتضة دوماً برواد الشارع، لا سيما أيام الجمعة، وقد إقتنع جبار، وأقنع قريبين له، هما "خلف" الذي كان يحمل من الطيبة بمقدار ضخامته، و "مؤيد" القزم الذي كان يعمل عتالاً يُساعد بعض باعة الكتب والقرطاسية في الشارع ورواده من المُشترين.

تم فتح بسطية الشاي التي بدأت برجل وصبي، وبعض من الباعة، والآن هي "مقهى الجمعة" التي لا تجد لك مكاناً فيها، يأتيها المثقفون من كل حدب وصوب، يُديرها اليوم العزيز "حافظ"، حتى صرنا نحن القدماء أشبه بالغرباء، وإن كان "حافظ" يستقبلنا بإستكانات الشاي المجانية، بإبتسامة مرسومة على مُحياه، تشي بترحيب لذكرى أيام جميلة قد خلت.

في وسط الشارع كانت بسطيتنا أنا وأخي صلال، ومعنا كان "أبو جمال" قومي الهوى" بعثي النشأة، وكان شعاره في البيع "ألف كلبه ولا غلبه"، فهو يمكن أن ينقلب مئة وثمانون درجة حال شعوره بأنه مغلوب، وإن كان قد إشترى الكتاب المُباع بأبخس الأثمان، وباعه بربح بأضعاف ثمان. ولكنه كان جميلاً في حواراته و "قفشاته"، وكان حريصاً على تعليم وتربية أولاده بأفضل ما تكون عليه شوطهما، فكان ابنه الأكبر"جمال" مُحباً للغناء والموسيقى، وقد بذل أبو جمال الغالي والنفيس لجعله "مُغنياً" له حضور وتأثير، وأشهد أنه كان ذا صوت عذب، وقد تبناه سالم عبدالكريم، وغير إسمه، فصار إسمه "جمال الناصر"، وقد غنى الأغنية العراقية المشهورة "يا ساكن بديرتنه" من ألحان سالم عبدالكريم، وقد سجل بعض الأغنيات التي لاقت رواجاً في نهاية التسعينيات، وقد لحن له فاروق هلال. من أغانيه الشهيرة "أنا إشتاكيت وأنت بعيد عني"، ولقربه مني فقد رغب بالغناء في زفافي، ولصوته العذب بعض من ذكريات جمال هذه اللحظات التي شاركني بها صفاء السنهوري، صاحب مكتبة السنهوري القانونية، ال1ي كان يُتقن العوف على آلة العود، والغناء بصوت جنوبي عذب ينهل من بحة داخل حسن، وألق ونقاء صوت حسين نعمة.

أما "أبو أشرف" فقد كان نسمة طيبة بملامح بغدادي أصيل يهوى القراءة، مُستقلاً في القراءة والحياة، إختط له طريقاً ولا زال لبيع الكتب الهندسية. أما "زيارة مهدي"، ذلك الشاعر المرهف، الذي بدأ ببيع كُتبه كحال أغلب باعة الشارع، فقد كان ذكياً حد الغبطة، يبتكر أنماطاً للبيع حسب المواسم، فمرة تجده يبيع كتب الطب، مثل كتاب "سنيل" وهو كتاب "تشريح" أساسي في كلية الطب يجمعه في العُطل ليبيعه بعد قبول الطلاب، وأخرى تجده يجمع كتب علي الوردي، لا سيما للمحات التي كانت نادرة وبطبعة واحدة آنذك، ليُجلدها"هارد كفر" ويُذهبها، فتخرج بأجمل حُلة. لم يشئ زيارة مهدي أن يكون شاعراً ناطقاً باإسم السلطة، والحال ذات ينطبق على "حميد المختار" القاص والروائي المُبدع، الذي بدأ ببيع كُتبه أيضاً، فإحترف بيع الكتب بهذا الشارع لمدة ليست بالقصيرة، ولأن خطابه لم يكن مُنسجماً مع السلطة، فقد تعرض للسجن، فغادرنا لزمن، ثم عاد، وهو اليوم من كُتاب القصة الذين يُسار لهم بالبنان. وهذا هو حال "حيدر سعيد" و "يوسف إسكندر" اللذان تشاركا الهم وبيع مكتبتهما أولاً، ليعملا في تجارة خاسرة لا تملأ البطون ولكنها تملأ العقول والعيون. وهما اليوم من الكتاب المعروفين في عوالم الثقافة العراقية والعربية.

تمشي خطوات لتعبر وسط الشارع وخلف ظهرك السراي ومطعم "كبة أبوعلي" الشهير، الذي يأتيه الناس والمثقفون من كل حدب وصوب، لتجد بسطية "محمد ثامر" المهتم ببيع كتب الفنانين التشكيليين أمثال: دالي، وفان كوخ، دافنشي، مايكل آنجيلو، رامبرانت، وآخرون كُثر، وقد عرفنا محمد بأخوته علي ورحيم، الذي ما زال صامداً إلى يومنا هذا، بعد أن غادر محمد المُتنبي ليحترف الصحافة.

بالقرب من بسطية محمد ثامر كا ن "جمعة عبدالله مُطلك" القارئ العتيد والمُتحدث الذي لا يُجارى، وهو المُنافح من قبل ولا زال عن رؤيته لإسلام عصري لا تعارض فيه للتعددية الدينية ولا رفض للنظرية العلمية.

كان صديقاه جمال وخالد يشفان طيبة ومحبة، يهيمان حباً في العراق، فقد هاجر خالد لبلاد الغرب وحصل على الجنسية، لكنه لم يستطع تحمل هجران المتنبي وأبو العلاء المعري، ولم يهدأ له بال، إلَا حينما عاد فافترش رصيف المتنبي كُتباً تنطق أوراقها الصفراء بأن عشقاً هاهنا لبغداد رسمه باعة المُتنبي وخطوا أحرفه، فنطق مصطفى جمال الدين:

بغداد ما إشتبكت عليك الأعصر   إلَا ذوت وبريق عُمرك أخضر

إمشي خطوات لتجد بسطية "سعد مطر" ذلك المُغامر العجيب، يتحدى طغيا السلطة ليملأ "زنبيله" بكتب "التشيع" الأحمر وبمؤلفات محمد باقر الصدر، لاومحمد محم صادق الصدر، وكان "بشير" و "سيد حيدر" و "حيدر" و "مؤيد" الذي كان بمعيته "أحمد شيال" وأخوه "عادل" الذي شاركني لمدة من الزمن، ثم شارك أخي "عبدالله" و "رحيم الدراجي" و "شيخ علي" و"أحمد أبو محسن" وآخرون ربما نسيت بعض منهم، يُشكلون كتيبة التحدي العقائدي للسلطة ونزوعها الإقصائي.

ولكننا بعد مدة وجدنا "سعد مطر" و "مؤيد" محكوم عليهم بالسجن لمدة ثلاث سنوات، ولكن سعد اليوم هو أفضل حال، وإن لم يستفد من النظام الحالي، وهو الذي كان يحمل قلبه بين كفيه، داعياً لإنصاف الشيعة وأسلمة المجتمع (!!). أما مؤيد اليوم، فهو ددتور مؤيد أستاذ اللسانيات المساعد في قسم اللغة العربية بكلية الآداب/ الجامعة المستنصرية.

بالقرب من سعد مطر وأخيه أحمد، كان "محمد جمعه" الإنسان الوديع الذي يروم عيشاً كريماً، هو وبعض من إخوته الذي أتذكر منهم "محسن" ذلك الإنسان الطيب الذي تنهل منه الطيبة والوداعة بعض من سماتها.

مع نبيل المسيحي يختلف الأمر، كان مهندساً بارعاً، ترك الهندسة، ليعمل ببيع الكتب العلمية التي كان شاطراً في بيعها والشراءُ، مُذهل في نزوعه في تغليب المُتاجرة وحُب المُنافسة، ولكني لا أنسى ولن أنسى وقفته معي في زفافي، إذ كانت لديه سيارة "كورلا"، وقد تبرع بزفافي بها، حينما أدرك حيرتي وحاجتي لسيارة مجانية للزفاف، ورغم نجاحه وتفوقه المذهل في هذه التجارة، إلَا أنه آثر الهجرة من هذه البلاد التي لا حظ لها بأولادها النُجباء بقدر ما تبتهج بكثرة ساستها الأغبياء. وما أفرحني أن "عماد" المسيحي صديق العائلة وأقارب نبيل الذي ورث بسطيته، أبلغني بتفوقه ونجاحه في كندا أو أمريكا، لا أتذكر، وأمتعني برؤية بيته الذي بدى ليَ وكأنه روضة من رياض الجنة.

بجوار نبيل المسيحي، كانت هنا بسطية لعلي السلفي وأخويه، وكان يستفز بعضهما بعضاً بحميمية مُتناهية، وأتذكر كان إن غاب أحدهما يبقى الآخر حائراً تشعر أنه فقد فقد جزءً مهماً من وجوده، ولكنه لا يروم الإفصاح عن شوقه وتوقه له، وبالجهة المقابلة لهم كان هناك أبو "قادر" الذي يحترف هدية القرآن، (لا بيعه "!!")، هو وأولاده الطيبين، الذين يطيعوه، ويُكنون له تقديراً كبيراً ولا زالوا.

هناك على بُعد خطوات معدودات تتعدد البسطيات، فمنها بسطية حميد أبو تقي، صديق الأسمر الذي رافقته أيام وأيام، نعبر نهر دجلة، من جهة الرصافة، حلمين برؤيا "عيون المها" بين الرصافة والجسر. وهناك بسطية أخرى لثامر "أبو فاطمة" وأخوه الذي لحقه للعمل "وليد"، وثامر مدرس الرياضيات، يعرف الحساب ويُتقن العد والفرز، يحمل طيب العمارة وأبناء ميسان الذين قدموا لبغداد لا طمعاً في جنتها، لكنهم حلموا بعيش لا إمتهان لكرامة الإنسان فيه، أرض لا إقطاع، فكان لهم ما أرادوا حينما بزغت بعض ملامح الوطنية مع عبدالكريم قاسم الذي جعل لأبناء "الصرائف" حصة في الأرض، كي يكونوا "مواطنين لا رعايا"، بعبارة المفكر المصري "خالد محمد خالد".

أما "أبو ليث" و "أحمد العبادي"، فقد كانا مُنهمكين ولا زالا بجمع الكُتب والمصادر عن العراق الحديث، شاركهما "أبو قحطان"، وإلتحق "مازن لطيف" بهذا الركب، وإن كان في بداية الأمر شغوفاً بكتب علم النفس الذي تخرج منه، وكان بمعيته أخيه "علي" المبتسم والفرح دوماً، ولكن القدر له قولته!!. إلَا أن مازن قد تفوق على نفسه، فصار صاحب دار معروفة في شارع المتنبي، هي دار "ميزوبوتيميا" التي نشر بها هو عن الأقليات لا سيما يهود العراق الذين لحقهم حيف الحكومات القومية والوطنيية ولا زال يلحقهم حيف الحكومات المتأسلمة، وقد شاركه في الدعم "د.ميثم الجنابي" و "سليم مطر" اللذان تبنيا الدعوة لتأسيس مفهوم "الإستعراق" وسعيهم للتنظير وـاكيد القول بوجود "أمة عراقية" (!!).

لربما يكون هذا من أقدار تكوين شارع المُتنبي الذي جمع كل مُختلف ومؤتلف، فمع إنبلاج هذه الصباحات، صباح أبو سوران، وصباح الوالي، وصباح المسيحي، بان نهار المتنبي ونقاء أغلب مُريديه وإن تعددت مشارب باعته...وللحكاية بقية.

 

 

في المثقف اليوم